“إحدى منارات الديمقراطية الإفريقية”، بهذه العبارة وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون جمهورية السنغال قبل 7 أعوام عندما وصلت العاصمة داكار في مستهل جولة إفريقية، وصفت فيها دول القارة السمراء بأنها لا تزال تعيش تحت أنظمة قمعية، كما أشاد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالسنغال التي زارها في بداية جولة إفريقية جاءت بعد عام من زيارة كلينتون شملت تنزانيا وجنوب إفريقيا.
بلد إفريقي لم يشهد انقلابات عسكرية
السنغال الواقعة في غرب إفريقيا تتميز بتعددية عرقية ولغوية ودينية، فالمجتمع السنغالي ذو بنية اجتماعية متنوعة اللغات والأجناس في دولة ذات أغلبية سكانية عظمى من المسلمين (90%)، إلا أن هذه الاختلافات لم تمنعه من تحقيق المصلحة الوطنية للجمهورية السنغالية، فالعوامل الداخلية لعبت دورًا مهمًا لصالح بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على إحقاق مواطَنة كاملة لمختلف مكونات المجتمع السنغالي لا لخدمة مصالح أقلية معينة.
مقومات نجاح التجربة السياسية السنغالية بامتياز قياسًا بتجارب جيرانها الفاشلة (موريتانيا، ساحل العاج، مالي) القائمة على قواعد القمع والقهر والاستبداد ومصادرة الحريات والاستفراد بالسلطة
ولا شك أن حُسن توظيف هذه الخصوصية التي تتميز بها السنغال، مكّن الشعب من تجاوز بعض الحواجز (الإثنية والهوية والجهوية)، التي لا تزال تنخر النسيج الاجتماعي لدول القارة الإفريقية، وهناك ما عزّز هذه التجربة، حياد المؤسسة العسكرية عن السجال السياسي، حيث ظلّت تمارس وظائفها الدستورية رافعة شعار الشعب مصدر كل السلطات، مما جعل السنغال واحدة من الدول القلائل في القارة السمراء التي لم تعرف في تاريخها انقلابًا عسكريًا واحدًا، وأتاحت الحكومات السنغالية في الآونة الأخيرة هامشًا كبيرًا من حرية التعبير التي جعلت البلد يفتخر بصحفه المستقلة والساخرة، إذ بوأته المرتبة 47 في حرية الصحافة وفقًا لتصنيف منظمة “مراسلون بلا حدود“.
مقومات نجاح التجربة السياسية السنغالية بامتياز قياسًا بتجارب جيرانها الفاشلة (موريتانيا وساحل العاج ومالي) القائمة على قواعد القمع والقهر والاستبداد ومصادرة الحريات والاستفراد بالسلطة وتغييب مشاريع التنمية كليًا إضافة إلى الهاجس الأمني ومحاولة تخويف الشعب بنظريات المؤامرة والاستهداف ذلك عند دول الجوار، أما تجربة السنغال فهي تجربة أحاطت نفسها بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات والتنوع الذي يعرفه المجتمع السنغالي بغية ضمان نجاحها.
ديقمراطية صاعدة ولكن
لا تُعد السنغال دولة ديمقراطية تمامًا بالقدر الذي وصفها به أوباما ووزيرة خارجيته، فمنذ وصول الرئيس الحاليّ ماكي سال إلى الحكم في العام الذي شهد جولة هيلاري كلينتون، أبدى سال منذ اللحظة الأولى من أدائه اليمين الدستورية رئيسًا للبلاد حرصًا على ترسيخ قدمه في مقاليد الحكم، إذ يُتهم بالاستخدام المُفرط للسلطة القضائية لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين، فلقد تم الحكم بالسجن على عمدة دكار “خليفة سال” أحد أبرز القياديين في المعارضة والمرشحين المحتملين للانتخابات الرئاسية، والرجل الثاني في الحزب الاشتراكي (PS) الذي أسَّسه الرئيس الأسبق “لووبول سدرا سنغور”، كما اختار “كريم واد” نجل الرئيس السابق المغادرة إلى دولة قطر بعد سجنه أكثر من سنتين وهو العضو البارز في الحزب الديمقراطي السنغالي (PDS) أعرق أحزاب المعارضة السنغالية.
نجد أن انتخابات 2012 في السنغال، أشادت بها كذلك، دول ومنظمات دولية للأجواء الديمقراطية التي عرفتها الانتخابات الرئاسية خاصة الدورة الثانية التي فاز بها المعارض ماكي سال
ولكن مع ذلك، هناك إشراقات مشهودة في تجربة السنغال الديمقراطية تؤكدها قصص آخر ثلاثة رؤساء في هذا البلد، فآخر ثلاثة رؤساء حكموا السنغال هم عبده ضيوف وعبد الله واد والرئيس الحاليّ ماكي سال لديهم مواقف مشرفة، بالأخص الرئيسان السابقان ضيوف وواد، حيث فَقَد ضيوف الرئاسة بعد أن خسر أمام المرشح المعارض عبد الله واد في العام 2000 بجولتين، تقدّم ضيوف في الأولى وخسر في الثانية، وكان لافتًا أن يخسر في إفريقيا مرشح رئاسي وهو في سدة الحكم، لذا وجد ضيوف احترامًا كبيرًا، وقُوبل تنازله عن المنصب باهتمام إعلامي لافت عندما ترأس وفد بلاده إلى قمة الفرنكوفونية التي عقدت بعد خسارته الانتخابات قبل أن يقوم بتسليم الرئيس الجديد عبد الله واد منصبه رسميًا، ثم خسر فيما بعد الرئيس عبد الله واد نفسه الانتخابات أمام المرشح المعارض ماكي سال الذي يرأس السنغال حاليًّا وخاض الانتخابات الرئاسية في فبراير/شباط الحاليّ مع أربعة مرشحين آخرين.
ونجد أن انتخابات 2012 في السنغال، أشادت بها كذلك، دول ومنظمات دولية للأجواء الديمقراطية التي عرفتها الانتخابات الرئاسية خاصة الدورة الثانية التي فاز بها المعارض ماكي سال، على حساب الرئيس السابق عبد الله واد، حيث اعتبرها الاتحاد الأوروبي ”انتصارًا كبيرًا للديمقراطية في إفريقيا”، وقال عنها الاتحاد الإفريقي إنها ‘تشرف وجه إفريقيا كله، إذ أظهرت نتائج الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة السنغالية فوز مرشح المعارضة بالرئاسة، رئيس الوزراء السنغالي السابق ماكي سال، على منافسه عبد الله واد الذي أقر بهزيمته حتى قبل إعلان النتائج الرسمية للانتخابات التي تمت في جو من الهدوء قبيل الانتخابات الأخيرة.
الشعب يكبح جماح الراغبين في التعديلات الدستورية
أمر آخر لا نغفل عنه، وهو أن التقاليد الديمقراطية في السنغال تكبح جماح الرؤساء الراغبين في البقاء على كراسيهم كما يجري في عدة دول إفريقية حاليًّا منها السودان ومصر، ففي يونيو/حزيران 2011 حاول الرئيس واد تعديل الدستور لإلغاء الجولة الثانية من التصويت في الانتخابات الرئاسية في حالة حصول المرشح المتقدم على 25% من الأصوات في الجولة الأولى، بدلاً من 50%، ولكن هذه المحاولة للانقلاب على الدستور أحبطت بفضل الاحتجاجات الحاشدة أمام البرلمان، وكانت شعارات مثل “لا تمس دستورنا” مصحوبة بشعارات مثل “ارحل يا واد”، التي تذكرنا بالهتافات في دول الربيع العربي حيث واكبت تلك الأحداث في السنغال بداية تفجر الثورة التونسية.
الانتخابات الأخيرة التي أجريت الأحد الماضي وترشح فيها الرئيس الحاليّ ماكي سال إلى جانب 4 مرشحين آخرين، لم تعلن نتائجها الرسمية حتى الآن، لكن تحالف الأغلبية الرئاسية في السنغال أعلن فوز مرشحه ماكي في الجولة الأولى من الانتخابات
نجحت المقاومة الديمقراطية في منع التعديل وخلق احتمالات دحر محاولات واد للحصول على فترة ولاية ثالثة، ففي الجولة الأولى في الـ26 من فبراير/شباط 2012، أظهر الناخبون مستوى من الثقة في مؤسساتهم الانتخابية أعلى من ذلك الذي أظهره القادة السياسيون، والقادة ألحوا على المطالبة بتأجيل الانتخابات أو مقاطعتها، بدعوى أن سيطرة واد على أجهزة الدولة يجعل من إجراء انتخابات حرة ونزيهة أمرًا مستحيلًا، ولكن كان المجتمع المدني الحسن التنظيم والصحافة المستقلة هما الضامن لعدم إمكانية تزوير النتائج، فعلى سبيل المثال بمجرد إحصاء النتائج محليًا، كانت تُعلن على الفور على الصعيد الوطني بواسطة قنوات التليفزيون والإذاعة المستقلة تدريجيًا مما يعزز من مصداقية النتائج ويشير إلى أنها موثوقة وليس فيها تلاعب.
الانتخابات السنغالية
الانتخابات الأخيرة التي أجريت الأحد الماضي وترشح فيها الرئيس الحاليّ ماكي سال إلى جانب 4 مرشحين آخرين، لم تعلن نتائجها الرسمية حتى الآن، لكن تحالف الأغلبية الرئاسية في السنغال أعلن فوز مرشحه ماكي في الجولة الأولى من الانتخابات، في حين أكد بقية المرشحين أن الوقت لا يزال مبكرًا للتأكد من هوية الفائز وأن الانتخابات ستشهد جولة ثانية، وقال رئيس الوزراء السنغالي محمد بون عبد الله ديون إن النتائج بعد عملية فرز الأصوات أظهرت تقدم المرشح ماكي سال على المرشحين الأربع الآخرين، مشيرًا إلى أنه يتوقع فوز سال بنسبة تصل إلى 57%.، وقد انتقد منافسو ماكي سال إعلان النتائج بهذه الطريقة، دون انتظار إعلانها بشكل رسمي، وقالوا إن الوقت ما زال مبكرًا لمعرفة الفائز ما لم تعلِن اللجنة المستقلة للانتخابات نتائجها بعد.
من الواضح أن فرص الرئيس الحاليّ ماكي سال في الفوز بدورة رئاسية جديدة هي الأكبر مقارنة بمنافسيه الآخرين
وفيما يتعلق بالتقييم الدولي للانتخابات السنغالية، قالت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبية لمراقبة الانتخابات الرئاسية في السنغال إيلينا فالانسيانو، إن الساعات الأولى من التصويت كانت إيجابية بنسبة تزيد على 95%، ولكن رئيسة البعثة الأوروبية أكدت في تصريحها للصحفيين أنه ما زال من السابق لأوانه إعطاء موقف نهائي بخصوص سير الانتخابات، وقالت: لقد تجولنا صباح اليوم (الأحد) في 55 مكتب اقتراع، ولدينا إحصاءات عن سير عملية الاقتراع، وعندما فتحت مكاتب الاقتراع لاحظنا أن جميع الأدوات اللوجستية الضرورية حاضرة في المكاتب، كما أن 60% من مكاتب التصويت التي زرناها فتحت أبوابها في الوقت المحدد”.
من الواضح أن فرص الرئيس الحاليّ ماكي سال في الفوز بدورة رئاسية جديدة هي الأكبر مقارنة بمنافسيه الآخرين، رغم أن عثمان سونغو، المرشح الأصغر سنًا في الانتخابات الرئاسية السنغالية، قال إنه واثق من النصر بعد أن أدلى بصوته صباح الأحد، في مكتب تصويت بثانوية البنات بأحد أحياء العاصمة، كما أن رئيس الحكومة السابق إدريسا سيك الذي يترشح للمرة الثالثة في انتخابات رئاسية شكّك بدوره في فوز سال قائلًا: “في هذه المرحلة، يجري الإعلان عن جولة ثانية، والنتائج التي تم جمعها حتى الآن تسمح لنا بقول ذلك”.
تشغيل الشباب الهاجس الأكبر للسنغال
كما الحال في معظم الدول الإفريقية، يظل الهاجس الأكبر للحكومات هو إيجاد فرص العمل للشباب وتحسين الأوضاع الاقتصادية، فقد اتخذ الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد تدابير وآليات لتحسين أوضاع الشباب، منها مثلًا: اعتماده إستراتيجيات وخطط عمل لتوظيف الفئة الشبابية، كخطة العمل الوطنية لشغل الشباب Panej، وإنشاء عددٍ كبيرٍ من المؤسسات العاملة في مجال الشباب، من أهمّها: الصندوق الوطني لتمكين الشباب FNPJ ومكتب توظيف شباب الضواحي OFEJBAN والوكالة الوطنية لتوظيف الشباب ANEJ والمجلس الأعلى للتوظيف وغيرها، ورغم هذه الجهود فإنّ واد لم يتمكّن من تخفيض نسبة البطالة بشكلٍ ملاحظ، أمام تزايد الخريجين الذين يصل تعدادهم سنويًا قرابة 100.000 شابّ وشابة.
السنغال تعد من أكثر دول القارة السمراء استقرارًا، فهي الدولة الوحيدة التي لم تشهد انقلابًا عسكريًا حتى الآن
وسار الرئيس الحاليّ ماكي سال على المنوال ذاته، حيث احتضنت العاصمة السنغالية داكار، القمة الإفريقية الرابعة للشباب التي شارك فيها نحو 500 شاب ينتمون لـ50 بلدًا إفريقيًا، إضافة إلى شباب من البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوروبية، وخبراء شباب يمثلون بشكل خاص شبكات إفريقية ودولية، وشكلت القمة، التي نظمت تحت الرعاية المشتركة للرئيس السنغالي ماكي سال ونظيره المالي إبراهيما بوباكار كيتا، بمشاركة عدة شخصيات، مناسبة لتبادل وتقاسم الأفكار عن الرهانات الكبرى للتنمية المستدامة التي تواجهها القارة الإفريقية، وكانت أميناتا توري رئيسة الحكومة السنغالية قد قالت في كلمة بمناسبة افتتاح القمة، إن الوقت حان لاتخاذ إجراءات عاجلة، وذلك من أجل جعل الشباب حاضر ومستقبل إفريقيا، معتبرة أن هذه الفئة العمرية تشكل الرأسمال البشري الأكثر أهمية، وعماد التنمية الاقتصادية.
كما خصّص سال، العام الماضي نحو 45.7 مليون يورو للتشغيل الذاتي في صفوف الشباب والنساء سنة 2018، عبر الصندوق الوطني للمقاولات السريعة، حيث قال الرئيس السنغالي في خطابٍ متلفزٍ بمناسبة العام 2018: “تشغيل الشباب يظل أولوية وطنية، إنه موضوع المبادرة الجديدة للإدماج المهني التي تتوفر على صندوق وطني للمقاولة السريعة”، وأوضح في هذا الصدد أن “30 مليار فرنك سيتم تخصيصها للتشغيل الذاتي للشباب والنساء وفق طرق مبسطة، من أجل مواكبة ودعم مشاريعهم”.
السنغال تعد من أكثر دول القارة السمراء استقرارًا، فهي كما أسلفنا الدولة الوحيدة التي لم تشهد انقلابًا عسكريًا حتى الآن، ومن النادر في إفريقيا كذلك أن يقر الرئيس الذي يحكم البلاد بخسارته الانتخابات وأن يفوز من الأساس! فهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على وجود بصيص أمل في هذه البلد الذي يشهد نموًا اقتصاديًا حقيقيًا، فقد عرف العام الماضي تسجيل السنغال للسنة الثالثة على التوالي مرتبة متقدمة ضمن أفضل الاقتصادات في إفريقيا بمعدل نمو بلغ 6.8%.