على أبواب تدهورٍ اقتصاديٍ تقف باكستان منتظرةً من القوى الإقليمية والدولية تقدير موقعها الجغرافي الإستراتيجي وأهميتها العسكرية وثقلها السياسي في ميزان القوى الإقليمي، وعلى أساسه تقديم الدعم المناسب لها، ولعل أبرز ما يؤكد التدهور الاقتصادي لباكستان، تفاوضها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرضِ جديدِ سيكون الثاني لها خلال 5 سنوات.
وإلى جانب موقعها الجغرافي الإستراتيجي الذي يشكّل حلقة وصل مهمة بين شرق آسيا والخليج العربي، تُعدّ باكستان الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي والخبرات المُتعلقة به، ما يجعلها جاذبة للدول الإقليمية، وبالأخص المركزية المتنافسة، من أجل دعمها مقابل توظيف قوتها وقدراتها ومميزاتها لصالحها، وفي خضم هذا التنافس الذي أبرزته دول الخليج فيما بينها، يتساءل كثيرون عن دور تركيا في هذا السباق الإقليمي من التنافس على باكستان.
اتضحت الحاجة الباكستانية الماسة للحصول على الدعم الاقتصادي الإقليمي والدولي، بعد مشاركة وفدها برئاسة رئيس وزرائها، عمر خان، في فعاليات منتدى مستقبل الاستثمار الرياضي الذي قاطعه كثيرون نتيجة اتهام الرياض باغتيال الصحفي السعودي، جمال خاشقجي
بالتزامن مع إظهار المؤشرات الاقتصادية سلبية الاقتصاد الباكستاني الذي بلغ مجموع دينه الخارجي 96 مليار دولار، مع هبوط في الاحتياطات الأجنبية التي وصلت إلى 7.4 مليار دولار فقط بنهاية أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، ما أوصل قيمة عملتها إلى 0.007 دولار مقابل 1 روبية، وتزداد الحالة الباكستانية سوءًا بتصاعد حدة التراشق الإعلامي الدبلوماسي بينها وبين الهند من جهة، وبينها وبين إيران من جهةٍ أخرى، حيث يتهمها الطرفان باحتضان جماعات “إرهابية” تستهدف أمنها القومي، وبذلك يمكن تقييم التعاون بين الطرفين في إطار علاقة “التبادل التكاملي للمنفعة”، فالرياض توفر الدعم المالي والتجاري، وباكستان تُقدم بقوتها النووية وجيشها القوي وموقعها الجغرافي سندًا قويًا للرياض، ما يجعل الأخيرة قادرة على المناورة في تأسيس توازن قوى متين أمام خصومها الإقليميين، لا سيّما إيران.
وفي ضوء هذه المعادلة، سارعت الإمارات لتعلن عزمها تقديم وديعة بقيمة 3 مليارات دولار للبنك المركزي الباكستاني، بهدف دعم السياستين المالية والنقدية فيها، أما السعودية فقد سبقت الإمارات بشهرين على موافقتها منح باكستان “حزمة إنقاذ” بقيمة 6 مليارات دولار على شكل ودائع وقروض مؤجلة الدفع، وفي زيارة ابن سلمان الأخيرة لإسلام أباد، تم توقيع اتفاقات استثمارية بقيمة 20 مليار دولار.
لقد اتضحت الحاجة الباكستانية الماسة للحصول على الدعم الاقتصادي الإقليمي والدولي، بعد مشاركة وفدها برئاسة رئيس وزرائها عمر خان، في فعاليات منتدى مستقبل الاستثمار الرياضي الذي قاطعه كثيرون نتيجة اتهام الرياض باغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث بدا أن الحاجة أم البراغماتية الباكستانية التي غضت الطرف عن القضية وحجم بشاعتها في سبيل الحصول على الدعم السعودي.
وقد بدا واضحًا، على هامش المنتدى وزيارة ابن سلمان الأخيرة لإسلام أباد، استغلال السعودية لهذه الأزمة، بهدف استغلال الموقع الجغرافي لباكستان المُطل على بحر العرب، في نقل النفط السعودي إلى الهند والصين بأسعارٍ طفيفة، وتوظيف هذا الموقع في ترجيح كفة توازن القوى الإقليمي لصالحها ضد إيران قدر الإمكان، فضلًا عن مسعاها لاستغلال الخبرات الباكستانية في المجال النووي، عوضًا عن رغبتها في إعادة ترتيب أوراقها على الساحة الدولية لتطبيع ذاتها بعد اغتيال خاشقجي، ويبدو أن باكستان أظهرت أملها الكبير في الحصول على المساعدات السعودية، من خلال استقبال محمد بن سلمان بمراسم بروتوكولية سابقة من نوعها.
في ظل التسابق الإقليمي، لا سيما السعودي الإماراتي، على باكستان، من الصعب أن تقف تركيا، كدولة مركزية تسعى للحفاظ على نفوذها في ميزان قوى يصب في صالحها، مُتفرجةً على هذا التسابق دون أن تشارك فيه
على صعيد آخر، يمكن وضع المسعى الإماراتي لدعم باكستان في إطار “حرب الموانئ” التي تخوضها الإمارات مع دول الجوار، حيث تُوقع اتفاقيات مع الدول الجارة في سياق “سياسة إفقار الجار” لتُلحق بموانئهم الضرر بإبطال دورها الفاعل في العمل، من أجل الإبقاء على موانئها كمحطات أساسية للسلع القادمة لمنطقة الشرق الأوسط، ولعل حربها السابق مع جيبوتي والصومال يمنح هذا الادعاء الصواب.
وفي ظل التسابق الإقليمي، لا سيّما السعودي الإماراتي، على باكستان، من الصعب أن تقف تركيا، كدولة مركزية تسعى للحفاظ على نفوذها في ميزان قوى يصب في صالحها، مُتفرجةً على هذا التسابق دون أن تشارك فيه.
يحدد الساسة الأتراك موقفهم حيال باكستان بروحٍ تاريخيةٍ تعود إلى حرب التحرير التي خاضتها تركيا كدولة عثمانية ومن ثم كحركة تحرير، ضد الدول المُحتلة لها بين عامي 1916 و1922، حيث قدم الباكستانيون دعمًا ماديًا ومعنويًا للدولة العثمانية ومن ثم حركة التحرير، وبهذا الموقف المُشرف، يُخصص الساسة الأتراك لباكستان موقعًا مهمًا في القاموس الإستراتيجي للسياسة الخارجية التركية.
من جانبها، برعت باكستان التي تسير على نهج “السياسة المتزنة” التي يدعو إليها جيشها صاحب الكلمة القوية في مسار صنع سياستها، في الحفاظ على ذات النهج الإيجابي مع تركيا، حيث كانت المحكمة الدستورية في باكستان سبّاقة في إعلان جماعة غولن “جماعة إرهابية” في باكستان، متجهةً لإيقاف جميع نشاطاتها في البلاد، ومن هنا تنبع الأهمية الإستراتيجية الحاليّة لباكستان بالنسبة لتركيا، حيث ترمي تركيا إلى تعزيز التعاون والتنسيق مع باكستان في سبيل إغلاق المدارس والمؤسسات التابعة للجماعة هناك.
تستورد باكستان من تركيا كميات جيدة من الصناعات العسكرية اللوجستية، كما يجمع الطرفين محاور تعاون تقني مهمة فيما يتعلق بتطوير الصناعات الدفاعية
أيضًا، تحمل باكستان أهميةً إستراتيجيةً بالنسبة لتركيا من حيث الارتباط بالمشروع الصيني “طريق واحد.. حزام واحد”، إذ إن التشعب الصيني نحو أوروبا يمر من تركيا، أما تجاه دول الخليج فيمر من باكستان، ولهذا الارتباط أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا، فمشروعها الجيواقتصادي يقوم على تحويل موقعها لحلقة وصل بين الشرق والغرب، وبذلك لا ترغب في انزلاق باكستان في سياسات استقطاب مذهبي سعودي ـ إيراني، حرصًا على استقرار المنطقة، بما يمكّن المشروع من رؤية نور الحياة.
على صعيد التعاون العسكري، تستورد باكستان من تركيا كميات جيدة من الصناعات العسكرية اللوجستية، كما يجمع الطرفين محاور تعاون تقني مهمة فيما يتعلق بتطوير الصناعات الدفاعية.
وعلى الأرجح، يُدرك صانع القرار التركي بأن باكستان لا تستطيع بوضعها الاقتصادي والأمني الحاليّ، المناورة ضمن سياسات السعودية الأمنية والمذهبية، حيث تُقيّم الزيارة على أنها حققت جوانب اقتصادية أكثر منها أمنية ودبلوماسية، وفي الغالب، قد تتجه تركيا إلى اتخاذ بعض الإجراءات الاحترازية في سبيل الحفاظ على مستوى علاقاتها الجيدة مع باكستان، لإبقاء الأخيرة على مستوى معتدل ومتوازن في العلاقات، وقد تتجه تركيا نحو إجراء التالي:
ـ استغلال نقطة قناعة الجيش ببناء سياسة خارجية مُتزنة بعيدة عن الاستقطاب المذهبي المحوري، من خلال التقرب إلى الجيش باتفاقيات عسكرية واسعة المجال، مع توفير دعم مالي استثماري وتجاري جيد يُخرج باكستان من أزمتها الحاليّة، والنظر في آلية تأسيس مجلس تعاون سياسي واقتصادي إستراتيجي لتعزيز التواصل رفيع المستوى مع باكستان، والاطلاع على توجهاتها السياسية من خلال الإبقاء على احتكاك مباشر مع صناع القرار.
تتنافس القوى الإقليمية، دومًا، فيما بينها سعيًا لإرجاح كفة ميزان القوة والمسار الدبلوماسي في المنطقة لصالحها، سعيًا لتحقيق مركزية تمكنها من تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من مكاسب
ـ الميل لإجراء تحركات استباقية أمام الدور والتحركات السعودية، من خلال لعب دور “الميّسر” أو “الوسيط” بين باكستان والهند لقطع الطريق أمام المسعى السعودي لذلك، مع الإسراع نحو لعب دور دبلوماسي حيوي في تخفيف حدة التوتر بين باكستان وإيران.
ـ تكثيف اجتماعات المستوى الرفيع على جميع الأصعدة.
في الختام، تتنافس القوى الإقليمية، دومًا، فيما بينها سعيًا لإرجاح كفة ميزان القوة والمسار الدبلوماسي في المنطقة لصالحها، سعيًا لتحقيق مركزيّة تمكنها من تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من مكاسب، وفي طور هذا التنافس، قد لا تألو تركيا جهدًا في إحباط التحرك الإقليمي تجاه باكستان.