لم يعد غريبًا علينا أبدًا أنّ العديد من مواقع الإنترنت التواصل الاجتماعي، مثل جوجل وفيسبوك ومايكروسوفت، قد تحوّلت إلى شبكات تجسّس، بحيث أنّها تتبّع نشاطاتنا وسلوكيّاتنا على منصّاتها وتراقب رسائلنا وتستمع إلى أصواتنا من خلال تفعيل المايكروفون في الهواتف المحمولة والاستماع لأحاديث المستخدمين واستخدامها أو استغلالها بطرقٍ عديدة.
وليس أدلّ على ذلك أكثر من سلسلة الفضائح التي لحقت فيسبوك على سبيل المثال حول إقالة شركة “كامبريدج أناليتيكا” لرئيسها التنفيذي بعد الكشف عن استعمال غير مشروع لبيانات أكثر من 87 مليون من مستخدمي الموقع من أجل التأثير على آرائهم قبيل انتخابات الرئاسة الأميركية التي أفضت إلى فوز دونالد ترامب. كما فعلت الأمر نفسه قبيل التصويت في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
فيسبوك يتتبّع الدورة الشهرية ومواعيد الحمل!
لكن هناك اكتشافات جديدة باستمرار حول مدى الخصوصية التي نحظى بها في تلك المواقع. فقد كشفت صحيفة “وول ستريت” من خلال الاختبار أو الدراسة التي أجرتها، أنّ العديد من تطبيقات الهواتف الذكيّة ترسل بياناتٍ شخصية إلى فيسبوك، والتي قد تشمل على معلومات عن صحة المستخدم مثل معدّل نبضات القلب وموعد الدورة الشهرية للمرأة على سبيل المثال.
تعمل تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية على تزويد موقع فيسبوك بمواعيد وحالة الدورة والحمل وأيّ حالات أخرى مرتبطة
وأظهرت نتائج الاختبارات أن عدّة تطبيقات، مثل تطبيق Flo Period Tracker والذي يستخدمه أكثر من 25 مليون مستخدم نشط وفقًا لإحصاءاته، تعمل على تزويد موقع فيسبوك بمواعيد وحالة الدورة الشهرية للفتاة التي تستخدم التطبيق، إضافةً إلى تتبّعه لأيّ إمكانية لحدوث الحمل أو أيّ حالات أخرى مرتبطة. ووفقًا للتقرير الذي أصدرته الصحيفة، فإنّ فيسبوك قادر على الوصول إلى البيانات حتى في حال لم يقم المستخدم بتسجيل دخول مستخدم من خلال فيسبوك أو حتى لم يكن لديه حساب في الموقع على الإطلاق.
قوة الإعلانات: لماذا يتتبّع فيسبوك بيانات الدورة؟
بشكلٍ يوميّ ودون علمنا، تستخدم شركات التكنولوجيا بياناتنا المتوافرة على مواقع الإنترنت ومنصّات التواصل الاجتماعيّ بهدف التنبّؤ بعاداتنا وسلوكيّاتنا وتفضيلاتنا لأهدافها الخاصة، وتتنوّع تلك البيانات بدءًا من أنواع الموسيقى التي نحبّ الاستماع إليها إلى العلامات التجارية التي نفضّلها أو أنظمة التعرّف على الوجه الفعّالة.
وبعيدًا عن نظرية المؤامرة التي قد يعتقد بها البعض، فإنّ تلك الخوارزميّات تستغلّ تلك البيانات لتوجيهها وتفعيلها في مجال الإعلانات. فعلى سبيل المثال، حين يعلم فيسبوك بموعد الدورة الشهرية أو الحمل، تعمل الخوارزميّات على تقديم إعلانات ودعايات تتعلّق بهذا الأمر، مثل المنتجات الصحّية الأنثوية أو مستلزمات الحمل والطفل القادم وغيرها الكثير.
من خلال بيانات التطبيقات، يمكن لفيسبوك الترويح لبعض المنتجات أو الأدوية التي تتعلق بالدورة والحمل
ومن جهةٍ ثانية، يمكن للموقع أنْ يستغلّ بيانات الموقع الجغرافي للمستخدم لعرض إعلانات خاصة بأماكن خاصة بالحمل أو الولادة أو حضانات الأطفال أو محلات تجارية تبيع مستلزماتهم وملابسهم وما إلى ذلك. وفي حين أنّ هذا قد يكون جميعه مجرّد تكهّنات وتوقّعات، إلا أنّ شبكة فيسبوك قد أثبتت خلال السنوات الأخيرة إمكانية استغلالها لبيانات المستخدمين مادّيًا من خلال الدعايات والإعلانات التي تروّج لها.
وقد تطلب بعض تلك التطبيقات معلومات إضافية عوضًا عن مواعيد الدورة أو الحمل، وذلك من خلال العديد من الأسئلة التي توجّهها للمستخدمة من قبيل: متى مارست الجنس آخر مرة؟ هل استخدمتِ اختبار فحص الحمل هذا الشهر؟ هل نزيف الحيض كثيف أم طبيعيّ؟ كما أنّها تستطيع معرفة إذا ما كانت الدورة منتظمة أم لا أو فيما كانت المرأة أو الفتاة تعاني من اكتئابٍ وإلى أيّ مدىً تصل درجته، ومن خلال ذلك على سبيل المثال، يمكن لفيسبوك الترويح لبعض المنتجات أو الأدوية التي تعمل على تنظيم الدورة الشهرية وتحسين المزاج.
التسوّق العاطفي كوسيلة لتنظيم المشاعر السلبية
ما ينبغي علينا التأكّد منه أنّ معرفة فيسبوك وغيره بمواعيد الدورة الشهرية تشكّل فائدة ممتازة يمكن استغلالها بأشكالٍ عدّة عن طريق الدعايات والإعلانات التي تعمل بدورها على استغلال الحالة النفسية والمزاجية للمرأة في هذه الفترة الحرجة من الشهر. إذ يعتقد علماء النفس أنّ التسوق يمكن أن يكون وسيلة للنساء في فترة الحيض وما قبلها للتعامل مع العواطف السلبية الناجمة عن تغيراتهنّ الهرمونية الحاصلة.
تعمل التقلّبات الهرمونية التي تمرّ بها المرأة على تنشيط جزء الدماغ المرتبط بنظام المكافأة، وهو النظام الذي يعمل من خلال تحفيز مادة الدوبامين على تنشيط الشعور بالمتعة والرضا والإشباع الناتج عن التسوّق
وبشكلٍ عام، فإنّ سلوك الإنفاق والتسوق في هذه الفترة عادةً ما يميل إلى كونه ردّ فعلٍ طبيعيّ على العديد من العواطف والمشاعر الشديدة، والتي غالبًا ما تكون مشاعر توتّر أو اكتئاب أو قلق، أو حتى مجرّد مزاجٍ سيء بحاجة للتنفيس. وهذا ما أثبتته إحدى الدراسات، التي شملت على 443 امرأة تتراوح أعمارهنّ بين 18 و 50 سنة، وخلصت إلى أنّ النساء يقمن بالتسوّق خلال فترة الحيض كسلوكٍ يرغبن من خلاله بتنظيم عواطفهنّ السلبية والتعامل مع العبء العاطفيّ الثقيل خلال تلك الفترة.
أمّا عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فيمكن أنْ تكون التقلّبات الهرمونيّة التي تمرّ بها المرأة في هذه الفترة تعمل بدورها على تنشيط جزء الدماغ المرتبط بنظام المكافأة، وهو النظام الذي يعمل من خلال تحفيز مادة الدوبامين على تنشيط الشعور بالمتعة والرضا والإشباع الناتج عن التسوّق. وفي كلّ مرة نتعرّض لحالة شبيهة، والتي تحدث بشكلٍ شهريّ، يفرز الدماغ هذه المادّة سعيًا منه لتكرار الحالة نفسها في المستقبل. والأمر سيّان عند مدمني المخدّرات، حيث يتولد التأثير ذاته في أدمغتهم عند رؤية المواد التي يرغبون فيها.
قد ترغب المرأة بشراء ما تشتريه من أشياء وملابس رغبةً منها بالظهور والشعور بجاذبيةٍ أكثر بالتزامن مع وقت الإباضة
ومن جهةٍ ثانية، قد يكون هناك تفسيرٌ آخر مقنع لرغبة النساء في التسوّق أثناء هذه الفترة، وهو ما يدعمه علم النفس التطوّري. باختصار، قد ترغب المرأة بشراء ما تشتريه من أشياء وملابس رغبةً منها في الظهور والشعور بجاذبيةٍ أكثر بالتزامن مع وقت الإباضة حيث تكون المرأة أكثر خصوبةً، أي أكثر قدرةً على جذب الجنس الآخر. وعادةً ما يكون هذا قبل 14 يومًا من بداية الحيض.
وقد توصّلت الدراسة التي ذكرناها سابقًا أنّ معظم مشتريات النساء في هذه الفترة تكون غالبًا ملابس أو مجوهرات أو أدوات زينة أو أحذية بكعبٍ عالٍ، ما يشير فعليًا إلى الرغبة اللاواعية المتولّدة لديهنّ للظهور بشكلٍ أكثر إثارة لجذب انتباه وإعجاب من حولها، لا سيّما الرجال، بحسب ما تفترضه نظريّات علم النفس.
بشكلٍ عام، قد تكون تلك التطبيقات مفيدةً لنا وتقدّم لنا خدماتها السلسة، لكنّنا يجب أنْ نكون بالمقابل حذرين بالتعامل معها وتقديم المعلومات والبيانات الشخصية لها، تمامًا كما يجب علينا أنْ نكون واعين لطريقة عملها في استغلال ما نقدّمه لها من بيانات ممّا تستخدمه بأساليب مقنّعة تعمل بشكلٍ لا واعٍ من خلال الدعايات والإعلانات على تحفيز سلوكيّاتنا الشرائية في تلك الفترة الحرجة من الشهر حيث تكون الهرمونات متحكّمة في مزاجاتنا ونفسيّاتنا وحتى في تصرّفاتنا وسلوكيّاتنا. لذا، في المرة القادمة التي يقدّم لكِ فيها فيسبوك إعلانًا لمنتجٍ ما، أيًّا كان نوعه، في فترة حيضك أو إباضتك، ثقي أنّه قد لا يكون عرَضيًّا بتاتًا وإنما نتيجةً لخوارزميّاتٍ تتبّع حالتك وتدرسها لتقدّم لك ما تعتقد أنك بحاجته أو ترغبين بشرائه.