وكأن حلم السودان في أن يكون سلة غذاء الوطن العربي أضحى عصيًا على التحقيق، إذ لم يقترب حتى من أن يكون سلة غذاء لأبناء شعبه وذلك على الرغم من توافر جميع مقومات النجاح الطبيعية، فقد أظهر التقرير المشترك الذي أصدرته الأمم المتحدة بالتعاون مع مؤسسة الفاو واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي أن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جنوب السودان قد ازداد بنسبة 13% منذ يناير/كانون الثاني العام الماضي.
وأضاف التقرير أن شبح الجوع يهدد 7 ملايين شخص، في حين أن هناك 3000 شخص دخلوا بالفعل في الوقت الحاليّ مرحلة انعدام الأمن الغذائي الشديد أو مرحلة الكارثة وهي المرحلة الخامسة من مراحل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وتعد أعلى مستوى من انعدام الأمن الغذائي وتنتشر تحديدًا في ولايتي جونقلي والبحيرات، في شرق ووسط جنوب السودان.
مجاعات السودان: أزمة اقتصادية ممزوجة بتقاعس سياسي
لم يخل عقد من الخمسين عامًا الماضية من تاريخ السودان الحديث من كارثة تنتهي بمجاعة مهلكة، ففي كل عقد من تلك العقود الأخيرة مجاعة لا تخلف موعدها، وقد كانت أولى مجاعات السودان في سبعينيات القرن الماضي تلتها مجاعة أخرى بين عامي 1984و1985 وكانت من أشد المجاعات التي مرت على السودان وأكثرها فتكًا، إذ راح ضحيتها أكثر من 8 ملايين شخص، كما تأثرت بها الثروة الحيوانية حيث نفق أكثر من نصف مواشي ولايات دارفور وكردفان وشرق السودان، وصاحب ذلك نزوح بشري هائل من المناطق المتضررة إلى المدن مما سبب خللًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا.
أنظمة الحكم السياسية ساهمت في تفاقم تلك الكوارث ولم تتمكن بأي حال من الأحوال من احتواء مخاطر المجاعات المتتالية على السودان
وفي تسعينيات القرن الماضي حدثت المجاعة الثالثة، أما الرابعة فقد كانت خلال عام 2004 إبان اشتعال الحرب في إقليم دارفور وقبل أن تتدخل المساعدات الدولية لتحل جزءًا من المشكلة، وتوالت المجاعات على السودان حتى قرر الجنوب الانفصال عن الشمال، ولكن يبدو أنه انفصل بعد أن حمل في أحشائه جينات استدامة المجاعات، ففي 10 من أبريل/نيسان 2014 أصدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة تحذيرًا بأن ثمة 4 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي بسبب ضعف الحصاد المحصولي وزيادة أسعار المواد الغذائية، هذا بالإضافة إلى زيادة الصراع والنزوح في إقليم دارفور، ثم أصدرت الأمم المتحدة نفس التحذير عامي 2015 و2017 إذ أضحت المجاعة طقسًا سنويًا لأهالي الجنوب.
وعلى الرغم من أن السودان يعد من أكثر الدول الإفريقية تعرضًا للكوارث الطبيعية، إذ يقع جزء كبير من أراضيه ضمن نطاق المناخ المداري الذي يمتاز بقلة الأمطار وسوء توزيعها، هذا بالإضافة إلى عوامل ديمغرافية أخرى تتمثل في الرعي الجائر وإزالة الغابات، ولكن هذا لا يمنع أن أنظمة الحكم السياسية ساهمت في تفاقم تلك الكوارث ولم تتمكن بأي حال من الأحوال من احتواء مخاطر المجاعات المتتالية على السودان ومؤخرًا المجاعات التي تداهم جنوب السودان.
رغم الانفصال ما زال شبح المجاعات يهدد الملايين في الجنوب
منذ ولادتها في 9 من يوليو/تموز 2011 عقب حرب أهلية استمرت جولتها الأولى بين سنوات 1959-1972 ثم تجددت مرة أخرى من 1983-2005 ثم استفتاء كانت نتيجته اختيار 98.8% لصالح الانفصال عن الشمال، تواجه دولة جنوب السودان الكثير من الأزمات الداخلية، إذ إن الانفصال الذي كان يُنتظر أن يكون حلًا لهيمنة الشمال العربي المسلم على الجنوب المسيحي الإفريقي لا يبدو أنه ساهم في إنهاء مشاكل الدولة الجنوبية الوليدة، إذ لم يمض على الانفصال سوى بضع سنوات حتى دخلت جنوب السودان في صراع طويل ومرير بسبب النخبة القبلية التي تتصارع من أجل الثروة والسلطة مما أدخله في دوامة لا تنتهي حلقاتها من الأزمات الإنسانية والاقتصادية الكبرى كما تحولت إلى مصدر قلق وتدخل في شؤونها القاصي والداني من القوى الإقليمية والدولية.
جنوب السودان على الرغم من امتلاكها للكثير من الموارد الاقتصادية إضافة إلى تلك المكتشفة حديثًا فإنها تعيش في حزام منطقة يسيطر عليها الفقر المدقع
وعلى عكس كل التوقعات السياسية لم يجن جنوب السودان السلام من انفصاله، إذ تزايدت الصراعات على الحدود والديون ومنطقة أبيي ومرور النفط، هذا عطفًا على أن الدولتين المنفصلتين حديثًا لم تنكفئ كل منهما على مشاكلها الداخلية ولكنها حاولت بكل الأشكال أن تزعزع أمن جارتها.
أسباب استمرار المجاعات في جنوب السودان
هناك أسباب أساسية لاستمرار تفشي المجاعات في دولة الجنوب وهي أن دولة جنوب السودان رغم امتلاكها للكثير من الموارد الاقتصادية إضافة إلى تلك المكتشفة حديثًا فإنها تعيش في حزام منطقة يسيطر عليها الفقر المدقع وتعد الأكثر عرضة لاندلاع النزاعات والصراعات في إفريقيا، كما ينتشر في جنوب السودان استقواء أطراف النزاع بكيانات قبلية خارجية، وكل طرف يحشد من حوله أشتات القبائل مما يجعل الوصول لاتفاق يرضي الطرفين أمرًا مستحيلاً.
تأتي بعد ذلك مسألة تركيبة مجتمع جنوب السودان الذي تحكمه بالأساس التقاليد القبيلة الرعوية مما جعل عملية التحول إلى كيان دولة مدنية تحكمها القوانين أمرًا مستحيلًا وعليه وفور انفصال دولة الجنوب عهدت حكومة جنوب السودان ومعارضيها بأمور السياسة إلى قبائلهم، حيث قاموا بتسييسها وتجييشها تزويدها بالأسلحة وعليه فقد جاءت المواجهات بين الطرفين في قمة العنف، ولأن الصراعات المحتدمة بين الطرفين لا تنتهي فإن جنوب السودان تصرف الكثير من ميزانيتها على صفقات السلاح، فوفقًا لتقرير الأمم المتحدة تنفق حكومة جنوب السودان قسمًا ضخمًا من عائداتها من النفط على شراء الأسلحة في الوقت الذي تواجه فيه البلاد مجاعة مستمرة، ودعا التقرير إلى فرض حظر أسلحة على جنوب السودان وهو الإجراء الذي دعمته الولايات المتحدة ولكن رفضه مجلس الأمن الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2016.
من أكثر الدول التي ساعدت الجنوب على الانفصال ووعدت قادته ونخبته بتدفق الأموال هي “إسرائيل”، وذلك بسبب الموقع الجيوسياسي لمنطقة جنوب السودان
واستمرت حكومة الرئيس سلفا كير في إبرام عقود التسليح من أجل الجيش وأجهزة الأمن والميشيليات الأخرى مقابل عائدات النفط التي بلغت نحو 243 مليون دولار هذا في الوقت ذاته الذي تعاني فيه البلاد من مجاعة كبرى.
حرب المصالح والنفوذ في جنوب السودان.. “إسرائيل” نموذجًا
من أكثر الدول التي ساعدت الجنوب على الانفصال ووعدت قادته ونخبته بتدفق الأموال هي “إسرائيل”، وذلك بسبب الموقع الجيوسياسي لمنطقة جنوب السودان، إذ إنها تقع في أعالي منابع نهر النيل وبالتالي فإن إقامة علاقات قوية معها سيحقق مكاسب هائلة لـ”إسرائيل” اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا كما سيمكنها من محاصرة مصر باستغلال نهر النيل.
جدير بالذكر أن السودان محط أنظار “إسرائيل” منذ زمن بعيد وعليه فقد وجدت “إسرائيل” ضالتها المنشودة في الحركة الانفصالية من أجل النفاذ للعمق الإفريقي هذا إضافة لاعتبارات دينية واقتصادية، فالاعتبارات الدينية تتعلق بمعتقدات تشير إلى وجود تابوت في منطقة البحيرات والاعتبارات الاقتصادية تتجسد في النفط والمياه، ولذلك كانت “إسرائيل” الدولة الأولى التي يزورها رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت.
الحقيقة أن الأمر لا يقتصر على “إسرائيل”، فقد شهدت دولة جنوب السودان صراع الكثير من القوى الدولية على مواردها الاقتصادية وخاصة النفط وذلك مثل الولايات المتحدة والصين، حيث يمثل وجود الشركات الصينية في جنوب السودان تحديًا اقتصاديًا للولايات المتحدة التي تبدي اهتمامًا كبيرًا بالاستثمار في دولة الجنوب وخاصة في قطاع الزراعة والمعادن، وقد أبرمت الصين عقودًا طويلة الأجل مع حكومة جنوب السودان من أجل الاستثمار في قطاع النفط الحيوي في الجنوب، كما أن لبريطانيا أيضًا مصالحها في المنطقة، ولكن جميع تلك الدول تخاف من تدويل الصراع وحله خوفًا على مصالحها الاقتصادية مع دولة الجنوب وخاصة فيما يتعلق بتصدير النفط.