“نصيب الفرد من المياه انخفض لأقل من 600 متر مكعب من المياه، وهو ما يعني أننا وصلنا بسلامة الله إلى منطقة الفقر المائي، وسينخفض إلى أقل من 400 متر مكعب من المياه بحلول 2050″، جدد وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري عز الدين أبو ستيت، بهذه الكلمات حالة القلق مرة أخرى بشأن مستقبل مصر المائي.
أبو ستيت أضاف خلال كلمته على هامش المؤتمر الدولي الثالث لتحلية المياه في مصر والشرق الأوسط الذي نظمه مركز بحوث الصحراء أن المستقبل غير مطمئن والأوضاع تتطلب البحث عن بدائل، مرجحًا أن تكون التحلية هي الحل الأفضل في الوقت الراهن، داعيًا إلى تعزيز الفرص الاستثمارية في مشروعات التحلية خلال المرحلة المقبلة.
وفي ذات المؤتمر قال الدكتور محمود أبوزيد وزير الموارد المائية والري الأسبق ورئيس المجلس العربي للمياه إن التحدي الذي تواجهه مصر والدول العربية في نقص المياه جعل من موضوع التحلية أهمية قصوى وأيضًا البحث عن مصادر أخرى للمياه مثل الاستفادة من مياه الأمطار والسيول والصرف الصحي والزراعي.
تصريحات ليست الأولى من نوعها لكن تزامنها مع ما أثير بشأن تجميد العمل بسد النهضة والتوصل إلى شبه اتفاق مع الجانب الإثيوبي في هذا الشأن أثار الكثير من التساؤلات خاصة أن السد كان مصدر التهديد الأكبر للأمن القومي المائي المصري.. فما تداعيات مثل تلك التصريحات على مستقبل الملايين من الشعب المصري؟
انخفاض نصيب الفرد
أوضح الوزير المصري أن حصة الفرد من المياه تتناقص مع الزيادة السكانية، داعيًا إلى تصنيع أجهزة ومحطات تحلية مياه البحار داخل مصر بدلاً من استيرادها، فيما أشار المهندس ممدوح رسلان رئيس الشركة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي، أن الدولة تنتج يوميًا 25 مليون متر مكب من مياه الشرب، 85% منها من مياه النيل والباقي من المياه الجوفية والبحر.
وكان البرلمان المصري قد أصدر قانونًا يحجم فيه زراعة محاصيل تستهلك كثيرًا من المياه مثل الأرز لترشيد استهلاك المياه، استعدادًا للآثار السلبية الناتجة عن سد النهضة، ما أدى إلى بدء استيراد مصر للأرز بعد أن كانت مصدرة له، ما انعكس سلبًا على الدخول الاقتصادية لملايين المزارعين.
في ضوء استعراض الاتفاقيات التي أُبرمت بين مصر ودول حوض النيل خلال النصف قرن الأخير يتضح أن هناك حالة من التراجع المستمر في حصة المواطن المصري من المياه، لا سيما في ظل تخاذل الأنظمة والحكومات عن القيام بدورها في الدفاع عن حقوق الشعب في المياه، فضلًا عما يمكن أن يترتب عليه من زيادة في الأعباء الأخرى من تراجع في موارده الزراعية، والآثار الصحية المدمرة كما سيتم ذكره لاحقًا.
“نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه النقية بلغ 700 متر مكعب في حين أن الحد الأدني الذي أقرته الأمم المتحدة هو 1000 متر مكعب، وإلا تعتبر الدولة في مرحلة فقر مائي” مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المصري
وفي دراسة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تحت عنوان “الموارد المائية وترشيد استخدامها في مصر”، أشار فيها إلى ارتفاع الاستخدامات من الموارد المائية المتاحة من 66.6 مليار متر مكعب إلى 74.5 مليار متر مكعب بنسبة زيادة 23.7% خلال الفترة 2002/ 2003 ـ 2011، وذلك في ظل ثبات حصة مصـر من مياه النيل عند 55.5 مليار متر مكعب طبقًا للاتفاقيات الدولية الموقعة في هذا الشأن.
وأوضحت الدراسة انخفاض متوسط نصيب الفرد من الموارد المائية من 2526 مترًا مكعبًا عام 1947 (وفرة مائية) إلى 1672 مترًا مكعبًا عام 1970 (كفـاية مائية) بنسبة انخفاض 33.8% وإلى 643 مترًا مكعبًا عام 2013 (فقر مائي) بنسبة 60.3% ومن المتوقع بلوغه 475 مترًا مكعبًا عام 2025.
وفي تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف مسؤولية تراخي الأنظمة الحاكمة في مصر في الدفاع عن حقوقها وثرواتها مما أدى إلى فقدان الموارد الطبيعية، وهو ما تجسد بصورة حية في سيناء، حيث فقدت مصر خلال العقود الثلاث الأخيرة ما يقرب من 20 مليار متر مكعب تمكنت “إسرائيل” من سرقتها عبر السحب الجائر من خزان المياه الجوفية بسيناء، منهم ما يقرب من 30 مليون متر مكعب من مياه السيول على مدار الـ5 سنوات الماضية، بسبب عدم وجود خزانات معدة لتخزين مياه السيول، وأن “إسرائيل” حفرت 80 بئرًا بعمق 800 متر بصحراء النقب لاستغلال المياه الجوفية المصرية، وفقًا لتقرير صادر عن معهد بحوث الصحراء.
وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري عز الدين أبو ستيت
ليست المرة الأولى
تصريحات أبو ستيت ليست الأولى من نوعها في هذا المضمار، ففي مارس 2017 أشار وزير الإسكان والمرافق المصري مصطفى مدبولي (رئيس الوزراء الحاليّ) خلال مشاركته في مؤتمر تحلية المياه بالمملكة العربية السعودية إلى تراجع نصيب الفرد من المياه بصورة ملحوظة، مقارنة بالنسب العالمية، حيث ألمح أن نصيب الفرد في مصر سنويًا من المياه النقية بلغ 700 متر مكعب في حين أن الحد الأدني الذي أقرته الأمم المتحدة هو 1000 متر مكعب، وإلا تعتبر الدولة في مرحلة فقر مائي.
الوزير أوضح أن إجمالي ما تنتجه مصر يوميًا من المياه تجاوز الـ25 مليون متر مكعب، 85% منها عن طريق مياه نهر النيل، و15% عن طريق المياه الجوفية، في حين لا تتعدى المياه المحلاة 0.1% من إجمالي المياه المنتجة، وهو ما يتطلب إعادة النظر في المصادر الأساسية للمياه وضرورة تنويعها.
4 ملايين مصري قد يفقدون وظائفهم بسبب فقد وتدهور الأراضي بالدلتا تأثرًا بالتغيرات المناخية
مدبولي ألمح أيضًا أنه وفي ظل المعدل التقليدي للزيادة السكانية السنوية فمن المتوقع تفاقم الأزمة خلال السنوات القادمة، ما يجعل من قضية تحلية المياه قضية أمن قومي رغم كلفتها العالية، ومن ثم تسعى الدولة إلى توطين تكنولوجيا صناعة تحلية المياه بمصر، بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربى والهيئة العربية للتصنيع، وتشجيع القطاع الخاص، وكذا التعاون مع الدول العربية المتقدمة فى هذا المجال، لا سيما السعودية التي تحتل المرتبة الأولى عالميًّا فى هذا المجال.
وفي سبتمبر من العام ذاته، أكد وزير الري آنذاك محمد عبد العاطي أن مصر دخلت مرحلة الفقر المائي وذلك خلال مشاركته في المؤتمر الدولي للتغيرات المناخية بالعاصمة اللبنانية بيروت، مشيرًا أن التحديات التي تواجه إدارة الموارد المائية بمصر من ازدياد الطلب على المياه وثبات حصة مصر من مياه النيل يدخلها في هذه المنطقة الخطرة، بجانب ازدياد حدة وتيرة العواصف المطيرة التي تسبب سيولًا ودمارًا كبيرين في بعض مناطق الجمهورية.
وفي ديسمبر الماضي أكد رئيس مجلس النواب المصري (البرلمان) علي عبد العال قائلاً: “مصر دخلت في الفقر المائي وكل ما نقوم به حاليًّا هو تعظيم الموارد المائية، وحتى المياه الجوفية لو استخدمت كلها لن تكفي، حتى مع التحول إلى نظام الرى بالتنقيط”.
مخاوف من العطش خلال السنوات القادمة
4 ملايين مههدون بفقد وظائفهم
بجانب الآثار المترتبة على الشح المائي من تقليص لبعض الزراعات الحيوية التي تعد مصدرًا رئيسيًا لدخول الملايين من الفلاحين، فإن هناك ضحايا جدد لتلك المرحلة وما يليها، وهو ما حذر منه وزير الري المصري الأسبق عبد العاطي بأن 4 ملايين مصري قد يفقدون وظائفهم بسبب فقد وتدهور الأراضي بالدلتا تأثرًا بالتغيرات المناخية.
عبد العاطي في تصريحات له قال إن ارتفاع منسوب سطح البحر سيؤدي إلى تداخل مياه البحر مع المياه الجوفية في الدلتا، بخلاف تأثيرات أخرى للتغيرات المناخية والمتمثلة في حدوث حالات الجفاف وزيادة معدلات السيول، مشيرًا إلى أن أكثر من 95% من مساحة مصر صحراء وهي من أكثر بلاد العالم جفافًا.
كما أن 97% من موارد مصر المائية تأتي من خارج حدودها، وهو ما يضاعف تأثير التغيرات المناخية، كاشفًا أن العجز المائي لمصر وصل نحو 90%، ويتم تعويضه بالمياه معادة التدوير (25% من الاستخدام الحاليّ)، وكذلك المياه المستوردة في صورة سلع غذائية.
رغم حالة الطمأنينة النسبية التي خيمت على الشارع المصري في أعقاب الحديث عن تنسيق مصري إثيوبي بشأن سد النهضة، بات من الواضح أن الأزمة المائية في مصر أكبر من السد
التحلية ومياه الصرف البديل
في ظل التحديات المائية الراهنة بات الحديث عن البدائل القضية الأكثر حضورًا على موائد النقاش، على رأسها تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف الصحي باعتبارهما الأكثر جاهزية لسد العجز المتوقع في المياه خلال السنوات القادمة، وهو ما ألمح إليه وزير الزراعة المصري في مؤتمره الأخير.
الوزير أشار إلى أن “التكلفة الحاليّة لإنتاج المتر المكعب من المياه تصل إلى 13 جنيهًا (0.8 دولار) مع الاعتماد على مكونات أجنبية للمحطة، والأصل أن نصل بتكلفة إنتاج المتر من تحلية المياه إلى مستوى اقتصادي للتكلفة المنافسة من المياه العادية التي يتم إنتاجها من خلال محطات المياه التابعة لشركة مياه الشرب والصرف الصحي، بتوطين التكنولوجيا والتعاون مع مختلف الأجهزة والهيئات المعنية ومنظمات المجتمع المدني”.
منع زراعة محصول الأرز في مصر بسبب نقص المياه
وفي ظل التكلفة الباهظة لتحلية المياه ربما تكون مياه الصرف المعالجة هي الحل، وهو ما ألمح إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة، هذا في الوقت الذي أشار فيه خبراء الصحة والمياه إلى أن هناك العديد من الصعوبات التي تعيق فكرة مشروع معالجة مياه الصرف الصحي، واستبعدوا أن تكون مخرجات هذا المشروع هي البديل الآمن لندرة مياه الشرب النقية، وذلك لسببين:
الأول: طبيعة الصرف الصحي المصري المختلط، كونه مزيجًا من الصرف الزراعي والصناعي والشخصي في آن واحد، مما يجعل هناك صعوبة بالغة في تحلية هذه المياه التي يختلط فيها الصرف العضوي مع صرف الزراعة التي تحتوي على المبيدات وصرف المصانع الذي من الممكن أن يكون سامًا.
الثاني: المخاطر الصحية التي قد تنجم عن تناول مياه الصرف الصحي المعالجة بهذه الطريقة، وهو ما أشار إليه الدكتور محمود محمد عمرو، أستاذ الأمراض المهنية بكلية الطب ومؤسس المركز القومي للسموم الإكلينيكية، في تصريحات صحفية له قال فيها إن هذه المياه الملوثة تحتوي على النيتروجين الذائب الذي يتأكسد إلى نترات وهو ما يسبب مشاكل صحية كبيرة للإنسان.
رغم حالة الطمأنينة النسبية التي خيمت على الشارع المصري في أعقاب الحديث عن تنسيق مصري إثيوبي بشأن سد النهضة، بات من الواضح أن الأزمة المائية في مصر أكبر من السد، فمرحلة الفقر المائي قادمة لا محالة، وما بين مياه صرف صحي معالجة قد تحمل الكثير من المخاطر ومياه محلاة تحتاج إلى ميزانيات ضخمة يبقى المصريون في حالة ترقب لما ستسفر عنه الملامح النهائية لخريطة مستقبلهم المائي، متحسسين شربة مياه بأيديهم الآن ربما لا يقدر كثير منهم على تحمل كلفتها بعد ذلك.