صخرة مستديرة مزدحمة بالأكواخ المعدنية ترتفع من مياه بحيرة فيكتوريا كسلحفاة مطلية بالحديد على الحدود بين كينيا وأوغندا، وتغطي مساحتها أقل من نصف ملعب لكرة القدم، لكن أكثر من 500 شخص يعيشون في جزيرة الصيد الإفريقية الصغيرة التي تحيطها قوارب خشبية بحيث تبدو غير ذي قيمة.
إنها جزيرة ميجينجو الصغيرة جدًا، بما فيها من أكواخ سيئة البناء وميناء صغير وبعض الحانات وبيت للدعارة وكازينو في الهواء الطلق، ومع ذلك، تبقى الجزيرة منذ أكثر من 10 سنوات محل نزاع بين أوغندا وكينيا اللتين لم يتمكنا من تحديد الجهة التي تنتمي إليها الجزيرة الصغيرة، فكل منهما يدَّعي ملكيتها.
كيف نشأ نزاع ملكية الجزيرة؟
بالعودة إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت هذه المنطقة تحت حكم الإمبراطورية البريطانية، كانت ميجينجو التي تحيطها المياه العميقة الغنية بالأسماك أكثر من مجرد صخرة ظهرت وسط المياه قبل أن تبدأ البحيرة في الانحسار أوائل التسعينيات.
تفاجأ الجنود والضباط البريطانيون حينها لأنهم وجدوا أن أعظم بحيرة في إفريقيا لا تحوي سوى أسماك التيلابيا، وهي أسماك صغيرة الحجم، ولهذا السبب قاموا بإلقاء 25 سمكة كبيرة الحجم في مياه البحيرة المحيطة بالجزيرة، على أمل أن تتزاوج هذه الأسماك وتتكاثر وتُخرج جيلاً من الأسماك، يتميز بكبر حجمه ومذاقه الجيد ولحمه الوفير.
الصيادون يتنازعون على أسماك البرمون النيلي من مياه جزيرة ميجينجو
وبعد مرور 30 عامًا، وجدوا سمكة كبيرة الحجم بلغت مترين طولاً و200 كيلوغرام من الوزن، وخلال هذه الفترة استطاع المستكشفون أن يُخرجوا نحو 250 سمكة من هذا النوع وأنواع أخرى تميزت بالحجم الكبير، معظمهم له أصل من الأسماك التي تعيش في بحيرة فيكتوريا.
ومع مرور الوقت تزايدت أعداد الأسماك وحجمها بشكل لافت للانتباه، وبالتالي زادت حركة الصيد بهذه المنطقة، وكنتيجة لذلك، أُسس نحو 30 مصنعًا لصناعة الأسماك وتعليبها وتصديرها للخارج، وذلك في المناطق المحيطة بالجزيرة سواء في كينينا أم أوغندا أم تنزانيا، وتتخصص جميعها في تحضير الأسماك وتصديرها إلى البلاد الأوروبية.
وبالنسبة للصيادين، لم يكن الأمر سهلاً لهذه الدرجة، لأنهم بالكاد يتقاضون عُشر المبلغ الذي تُباع به الأسماك في الخارج، ولكن بمقارنة هذا المبلغ بالعمل على الأرض، يجد الصيادون أن هذا المبلغ أفضل بكثير من أي عمل آخر.
وتتزايد أعداد الصيادين كل عام بما بدأ يُخفَّض من كمية الأسماك بالمنطقة، ومنذ عام 2000 بدأت أعداد السمك تتضاءل، وأخذت مشكلات أخرى تتصاعد في الجزيرة، ولعل أبرز المشكلات التغير المناخي الذي شهدته المنطقة، الذي أثَّر على تساقط الأمطار وجعلها في تناقص مستمر، مما تسبب في انخفاض مستوى البحيرة بمقدار 130 سنتيمترًا خلال 4 أعوام.
كما أثَّر ارتفاع درجات الحرارة بالمنطقة إلى تزايد أحجام الطحالب وانتشارها في البحيرة، التي في العادة لا تشكل جزءًا من غذاء الأسماك هناك، وإنما تؤثر بالسلب على حياة الأسماك، لأنها تمتص غاز الأكسجين، مما يزيد من نسبة كبريتيد الهيدروجين، الذي يتزايد باستمرار، ما يؤثر على حياة الأسماك في قاع البحيرة، لأنه يتسبب في تسميم عدد كبير منها، وبالتالي يؤدي إلى نفوقها حول الجزيرة، مما يجعل الصيادين ينتقلون بقواربهم لمسافات أبعد للعثور على أسماك صحية وسليمة.
قوارب الصيد الراسية في الميناء الصغير من جزيرة ميجينجو
تعد بحيرة فيكتوريا أكبر بحيرة في إفريقيا، وقد أدى فقدانها للبيئة الملائمة للأسماك إلى زيادة المخاطر على الملايين الذين يعيشون على شواطئها في أوغندا وكينيا وتنزانيا، وخلال العقود الأربع الماضية، فقدت البحيرة ما يصل إلى 80% من أنواع الأسماك المحلية، و70% من الغطاء الحرجي في المنطقة، وفقًا لمجموعة حماية الحياة البرية.
ومنذ نحو 10 سنوات، كانت المناطق الصخرية المحيطة بالجزيرة تحوي في طياتها كميات كبيرة من الأسماك، يبلغ وزنها يوميًا نحو 3 أطنان، وعلى مر السنين، تضاءلت كميات كبيرة من الأسماك في مجتمعات الصيد حول بحيرة فيكتوريا بسبب الصيد الجائر وغزو نباتات ياسنت الماء (ورد النيل سميك الساق) التي أعاقت التحرك على البحيرة والوصول إلى الموانئ.
الحياة على جزيرة صغيرة
على هذه الصخرة التي يمكن اجتيازها كلها في دقيقة واحدة مركزان للشرطة، يضمان 24 جنديًا مسلحًا بأسلحة كثيرة، ومنقسمين بواقع 12 جنديًا كينيًا، و12 آخرين من أوغندا، لكن السكان يقولون إن الدافع الحقيقي لتمسك كل بلد بالجزيرة هو صيد الأسماك الذي يدفع الكثيرين للعمل هناك لكسب أكثر مما يقومون به في البر الرئيسي، سواء الكيني أم الأوغندي.
وفي حين تستغرق رحلة القارب من البر الرئيسى الكيني إلى ميجينجو ساعتين، فإن الرحلة من ميجينجو إلى جينجا في أوغندا تستغرق 18 ساعة، وهذا أحد الأسباب الكامنة في مطالبة الكينيين بامتلاك الجزيرة الخاصة بهم.
الطلب المتزايد على أسماك البياض النيلي الكبيرة أدَّي إلى مزيد من التوترات بشأن جزيرة ميجينجو
وفي الوقت الذي يعود فيه الكثير من الكينيين إلى منازلهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، فإن معظم الأوغنديين يزورون عائلاتهم مرة أو مرتين في السنة نظرًا لبعد المسافة، وفي الطريق يدفعون بعض الأسماك إلى دوريات الشرطة الأوغندية بأنها “ضريبة حماية”.
كما تضم الجزيرة عدة أحياء ومناطق، فنجد هناك كنيسة محلية صغيرة ومطاعم وسينما، لكنها ليست بالمعنى التي تتخيله، فهي غرفة صغيرة بحوائط صفيح مموج، بها شاشة عرض صغيرة بحجم التلفاز وكراسي من البلاستيك، كما أن بها 3 مراحيض فقط، يتشارك فيهم سكان الجزيرة جميعهم.
وكل صباح يخرج جيش غفير من قوارب الصيد من الجزيرة للبحر على مساحة 25 كيلومترًا، حيث تصل عدد هذه القوارب حول الجزيرة في ساعة الذورة إلى مئات القوارب، رغم أن معظم الصيادين لا يملكون قاربًا، ويتعين عليهم دفع 80% من صيدهم لأصحاب القوارب في البر الرئيسي.
تدخلت السلطات لحل النزاع بين دولة كينيا وأوغندا بشأن جزيرة ميجينجو في
ورغم تضاؤل مخزون الأسماك بشكل حاد في أكبر البحيرات بإفريقيا، لا يزال يوجد بعض الأنواع المربحة بشكل متزايد مثل البرمون النيلي (البياض النيلي) التي لا تزال وفيرة في المياه العميقة المحيطة لبحيرة فيكتوريا التي تحيط بميجينجو، مما يجعل الجزيرة مركزًا ذو قيمة للصيد وفريدًا من نوعه من ناحية، ومحل تنافس بين الدولتين من ناحية أخرى.
وبفضل استمرار الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي والطلب المتزايد مؤخرًا على البياض النيلي في آسيا، أصبحت الأسماك الكبيرة تُصدَّر بملايين الدولارات، وارتفعت أسعار البياض النيلي بنسبة 50% في السنوات الخمسة الأخيرة، حيث حققت الأسماك ذات النوعية الجيدة ما يزيد على 300 دولار للكيلوغرام الواحد في الأسواق الدولية.
في حين تشكل أسماك المياه العذبة مصدرًا للربح، حيث تعتبر مثانة السباحة أو مثانة الغاز لأسماك البياض النيلي الكبيرة من الأطعمة الشهية، إلا أن الطلب المتزايد على أسماك البياض النيلي الكبيرة أدَّى إلى مزيد من التوترات بشأن جزيرة ميجينجو، حتى طالب سياسيون كينيون محليون في الآونة الأخيرة الحكومة الكينية بأن تطلب من محكمة العدل الدولية التدخل واتخاذ قرار بشأن الحدود.
أصغر حرب في القارة السمراء
عام 2004، وعندما كانت الجزيرة لا تزال بالكاد مأهولة بالسكان، بدأت أوغندا بإرسال قوات مسلحة وأفراد من مشاة البحرية إلى ميجينجو لفرض ضرائب على الصيادين وتوفير الحماية لهم ضد القراصنة.
توصل البلدان في عام 2016 إلى اتفاق على تشكيل لجنة مشتركة للبت في السيادة على الجزيرة، لكن هذه اللجنة لم تصدر حتى الآن أي تقرير
وبدأ الصيادون الكينيون يشكون من تعرضهم لمضايقات من جانب القوات الأوغندية التي تتهمهم بالصيد غير القانوني في المياه الأوغندية، ويصادرون منهم الأسماك والمعدات، فيما يقول الصيادون إنها مياه كينية، وفي حين أن المياه الضحلة – حيث تُولد الأسماك – أكثر على الجانب الكيني، فإن المياه العميقة حيث الأسماك أكثر على الجانب الأوغندي.
ردًا على ذلك، أرسلت الحكومة الكينية قوات مشاة البحرية إلى ميجينجو في خطوة كادت أن تتسبب في حرب بين البلدين، وتجدد الخلاف مرة أخرى حين حاول ضباط الشرطة الكينية رفع العلم الكيني على الجزيرة لكن سكانها الأوغنديين احتجوا عليها، وسحبت قوات الأمن الأوغندية العلم على الرغم من اتفاق مبدئي للشرطة المشتركة، مما هدّد بإعادة نشوء نزاع جديد بين البلدين.
ومع بدء التوسع في إنشاء المستوطنات البشرية على الجزيرة الصخرية، توصل البلدان عام 2016 إلى اتفاق على تشكيل لجنة مشتركة للبت في السيادة على الجزيرة، بالاعتماد على الخرائط والوثائق القديمة التي يرجع تاريخها إلى زمن الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن العشرين لكن هذه اللجنة لم تصدر حتى الآن أي تقرير.
بالإضافة إلى التوترات السياسية، يقف النظام البيئي بجزيرة ميجنيجو على مشارف التعرض لكارثة عظيمة، ولم تؤثر هذه المشكلة المتفاقمة على سكان الجزيرة فقط، بل على القراصنة الذين يعيشون في عرض البحر أيضًا، وذلك لأن كل صياد عليه أن يدفع جزية تُقدر بـ35 دولارًا شهريًا للجنود الذين يشاركونهم العيش على الجزيرة، ليس مقابل الحماية، وإنما لكي يسمحوا لهم بالنزول للماء بوجه عام.
وهناك ضوابط وقيود على الصيد في الجزيرة، فمن المستحيل أن يخرج مركب للصيد ليلاً، وإلا فإنه سيتعرض لضبط الجنود ومعاقبتهم، ومن هنا، يقضي معظم السكان ليلهم في المناطق الترفيهية ويجلسون حول النار يحتسون الشراب، فالجزيرة ذات الكثافة السكانية العالية تحتوي على كازينو مؤقت في الهواء الطلق حيث يجرب الصيادون حظهم.
في هذه الأثناء، تُدار الجزيرة من كلا البلدين، ولكن التوترات تتصاعد في بعض الأحيان مع بعض الصيادين المحليين الذين يطلقون عليها “أصغر حرب في إفريقيا”.