لم تَخلُ حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني من أي نوع من أنواع الجرائم المروعة ضد الإنسانية، مارسَ كل أشكال القتل والتعذيب والتدمير والانتقام والتطهير العرقي بحقّ أهالي قطاع غزة، على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
لا يحظى العديد من فصول المعاناة والجرائم الكبرى بالمساحة الكافية من التغطية، أمام حجم المجازر والقتل المتتالي، والتجاهل المستمر من منظومات الانحياز الدولي المشغولة بتحميل الضحية المسؤولية، وسط مواقف خجولة ومجتزأة للمؤسسات الحقوقية الدولية الغائبة إلى حد كبير عن توثيق هذه الجرائم.
وإحدى أبشع هذه الجرائم الاختفاء القسري للآلاف من أهالي قطاع غزة، والتي لن تنتهي معاناتها وآلامها وآثارها مع توقف آلة الحرب وضجيج المدافع، فالمصير المجهول للعديدين سيبقى بلا إجابات واضحة، ويترك آلاف العائلات بعلامات استفهام كبيرة وجروح تنزف.
جريمة بغطاء رسمي
يُقصَد بـ”الاختفاء القسري” الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، ما يحرمه من حماية القانون (المادة 2 والديباجة من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري).
تُعرِّف منظمة العفو الدولية ضحية الاختفاء القسري بوصفه شخصًا اختفى فعليًّا بعيدًا عن أحبائه ومجتمعه، بعدما تقبض عليه جهات رسمية، من الشارع أو من منزله، ثم تنكر ذلك الأمر، أو ترفض الكشف عن مكان وجوده. ولا يتم إطلاق سراح هؤلاء الأشخاص مطلقًا، ويبقى مصيرهم مجهولًا.
ووفقًا للمنظمة ذاتها، غالبًا ما يتعرض الضحايا للتعذيب، أو يقتل العديد منهم. ويعلمون أنه ليس لدى عائلاتهم أية فكرة عن أماكن وجودهم، وليست ثمة فرصة لأي شخص لأن يأتي لمساعدتهم.
تعدُّ منظمة العفو الدولية الاختفاء القسري إحدى أدوات الإرهاب، وأنه يُستخدم استراتيجيةً لبث الرعب بين أفراد المجتمع، إذ لا يقتصر الشعور بانعدام الأمن والخوف الناجم عن الاختفاء القسري على أقارب الضحايا فحسب، بل يطال التجمعات المحلية والمجتمع بأكمله.
وفقًا للأمم المتحدة، يُعرَّف “الاختفاء القسري” بـ 3 عناصر متراكمة: الحرمان من الحرية ضد إرادة الشخص المعني؛ وضلوع جهات رسمية، على الأقل بالقبول الضمني؛ ورفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده.
في السياق الفلسطيني، وفي قطاع غزة على نحو التحديد، تتقاطع التعريفات والشروط الواردة في المواثيق الدولية، مع حالات التغييب بالقوة التي تنتجها قوات الاحتلال للآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني الذين فُقدوا على مدار أيام حرب الإبادة المستمرة، وترفض سلطات الاحتلال الكشف عن مصائرهم.
تمارس دولة الاحتلال جريمة الإخفاء القسري للفلسطينيين بوصفها جزءًا أساسيًّا من استراتيجيات التطهير العرقي المرتكَبة ضد الشعب الفلسطيني، وتحظى هذه الجريمة بغطاء رسمي وقانوني من مختلف مستويات صنع القرار لدى الاحتلال الإسرائيلي.
حقائق وأرقام
لم يتمكن أي من الجهات المحلية أو الدولية من تقديم أرقام دقيقة لأعداد المفقودين في قطاع غزة، والذين يصنَّف الغالب منهم ضمن المختفين قسريًّا في ضوء مجهولية مصائرهم، ارتباطًا بالإجراءات الإسرائيلية الرافضة للكشف عنها.
وفقًا لتقديرات المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، تجاوز عدد المفقودين جراء الحرب على قطاع غزة 13 ألفًا، ولا يزال بعضهم تحت الأنقاض، أو دُفنوا في مقابر جماعية عشوائية، أو أُخفوا قسرًا في سجون ومراكز اعتقال إسرائيلية، حيث تعرض عدد منهم للقتل في داخلها.
وأكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عدد حالات المفقودين المسجّلة قد بلغ 6 آلاف و500 حالة في غزة منذ بداية “النزاع”، فيما أكد تقرير صادر عن وزارة الصحة في قطاع غزة أن الوزارة تلقَّت أكثر من 6 آلاف بلاغ عن مفقودين حتى يناير/ كانون الثاني 2024، فيما وثقت الوزارة حتى يونيو/ حزيران من العام نفسه وجود نحو 10 آلاف جثة مجهولة الهوية.
بدوره وثَّق الجهاز المركزي للإحصاء وجود أكثر من 10 آلاف مفقود في قطاع غزة، منهم أكثر من 4 آلاف و700 من الأطفال والنساء، أما منظمات الأسرى فقد أوضحت أنه وفقًا لما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية، فإن سلطات الاحتلال تحتجر أكثر من 4 آلاف و500 مواطن من غزة منذ بدء الحرب، دون معلومات واضحة عن مصائرهم أو أماكن احتجازهم.
وكانت منظمة العفو الدولية أصدرت بيانًا منذ ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، عبّرت فيه عن “قلق عميق” يساورها بشأن مصائر فلسطينيين من غزة وأماكنهم، تحتجزهم قوات الاحتلال، مشيرة إلى “أنباء عن وقوع حالات اختفاء قسري بالجملة” طالبت بالتحقيق فيها، فيما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أنها تلقَّت “تقارير مقلقة” من شمال غزة، عن حالات “احتجاز جماعي وسوء معاملة واختفاء قسري” لآلاف من الرجال والفتيان الفلسطينيين.
محطات متعددة ومصير مجهول
شكَّلت فصول الحرب على قطاع غزة محطات عديدةً، مارسَ عبرها الاحتلال جرائمه بخطف وتغييب آلاف الفلسطينيين دون أية تفاصيل حول مصائرهم، كان أبرز هذه المحطات:
حملات الاعتقال الموسَّعة: عمد الاحتلال إلى شن حملات اعتقال موسَّعة بعد محاصرته الأماكن السكنية في قطاع غزة، أخرج خلالها سكان هذه المناطق إخراجًا جماعيًّا إلى محطات اعتقال وتحقيق ميداني، فُرز خلالها المعتقلون إلى فئات، أُطلق سراح بعضهم، فيما بقيت مصائر المتبقين مجهولة، وسط شهادات من المُطلَق سراحهم حول وجود حالات إعدام ميداني، إضافةً إلى حالات موسَّعة من الاعتقال.
الحواجز والممرات الأمنية: منذ بداية حملات التهجير ودفع أهالي مناطق قطاع غزة إلى النزوح مرات متعددة، عمد جيش الاحتلال إلى وضع حواجز عسكرية للتفتيش والرقابة على الممرات الأمنية التي ادّعى مرارًا أنها ممرات آمنة لخروج المدنيين، كان أبرزها نقاط التفتيش على محور نيتساريم الفاصل ما بين شمالي قطاع غزة وجنوبيه.
إضافةً إلى نقاط مستحدَثة خلال العمليات العسكرية التي تستهدف المدن والمخيمات، مثل التفتيش للمُهجَّرين من مخيم جباليا، وسبقها نموذج مماثل في مدينة خان يونس، حيث وُثِّق العديد من حالات الاختفاء لمواطنين خلال عبورهم هذه الحواجز، وبقيت مصائرهم مجهولة، فيما أكدت العديد من الشهادات أيضًا أن قوات الاحتلال قد أطلقت النار مرات متعددة على عدد من المارّين عبر هذه الحواجز، فيما أكدت شهادات أخرى حالات إعدام ميداني بعد الاحتجاز، إضافةً إلى العديد من حالات الاعتقال.
العمليات العسكرية المُركَّزة: شكَّلت العمليات العسكرية المركَّزة المباغتة، التي شنها جيش الاحتلال على مناطق محددة شملت تجمعًا للنازحين والمواطنين، أحد أبرز محطات الاختفاء القسري، وكان أبرز هذه النماذج عملية مجمع الشفاء الطبي في مارس/ آذار 2024، سبقتها عملية مماثلة في مستشفى ناصر في مدينة خان يونس خلال فبراير/ شباط من العام ذاته.
وفي كلتا العمليتين وُثِّقت عمليات اعتقال موسَّعة، إضافةً إلى إعدامات ميدانية شملت دفنًا في مقابر جماعية، إضافةً إلى عمليات اختطاف لجثامين الشهداء، ما فتح الباب مشرعًا أمام مصائر مجهولة للمئات، وجدت جثث البعض منهم متحللة بشكل يتعذر من خلاله التعرف على هويات غالبيتهم.
المقابر الجماعية: في مواقف متعددة، وظروف مختلفة، دُفِن عدد كبير من جثامين الشهداء مجهولي الهوية في مقابر جماعية، بسبب عدم إمكانية تعرُّف هوياتهم بسبب التشوه أو تحلل الجثامين. وفي حالات أخرى عمل جيش الاحتلال على دفن العديد من الشهداء في حفر كبيرة داخل مناطق العمليات، مثل المقابر التي اُكتشفت في أكثر من منطقة.
اختطاف الجثامين: عمد الاحتلال في العديد من عملياته العسكرية إلى تنفيذ عمليات اختطاف لجثامين شهداء ارتقوا خلال العدوان، دون أن يُعلم ذويهم عن استشهادهم، ما يجعل من مصائرهم في عداد المفقودين نظرًا إلى أنه لم توجَد جثامينهم بعد انتهاء العمليات العسكرية وانسحاب جيش الاحتلال.
المقاتل غير الشرعي والسجون السرية
سنَّت “إسرائيل” قانونًا حملَ عنوان “المقاتل غير الشرعي” جرت المصادقة عليه في العام 2002، يشرِّع اعتقال الأفراد الذين يُشتبه بكونهم منخرطين في “أعمال عدائية” ضد “إسرائيل”، أو كونهم أعضاء في قوة ترتكب “أعمالًا عدائية” ضدها، واحتجازهم إلى أجل غير مسمى دون لائحة اتهام، ومحاكمتهم دون إبراز الأدلة، بحجّة وجود ملف سرّي لدى الأجهزة الأمنية يدين المحتجزين.
يصنِّف الاحتلال الإسرائيلي معتقلي قطاع غزة بوصفهم “مقاتلين غير شرعيين” محتجزين وفقًا للقانون المذكور منذ العام 2005، وبالتالي يُحرَمون وفقًا لهذا القانون من أية حقوق قانونية، بما فيها حق المراجعة القضائية وإجراءات المثول أمام محكمة وتوكيل محامٍ. وعدَّت سلطات الاحتلال غالبيةَ المعتقلين الفلسطينيين أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة في نهاية العام 2008 ومطلع العام التالي، معتقلين وفقًا لهذا القانون، والأمر سواء بالنسبة إلى معتقلي القطاع في الأعوام اللاحقة.
على إثر حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، اُجرِيَت تعديلات على قانون “المقاتل غير الشرعي”، فتحت المجال بشكل أوسع أمام توسيع عمليات الاعتقال وتسهيل إجراءاتها، وإقرار تعديل مؤقت يسمح لضباط الجيش برتبة مقدم أو رئيس فريق المحققين في جهاز الأمن العام بممارسة سلطة الاعتقال التي كانت تتطلب في السابق ضباطًا أعلى رتبة.
أكدت منظمات حقوقية فلسطينية مختصة بشؤون الأسرى أن سلطات الاحتلال تمارس جريمة الاختفاء القسري استنادًا إلى قانون “المقاتل غير الشرعي” الذي يُشكِّل في جوهره انتهاكًا واضحًا وصريحًا “لسلامة إجراءات التقاضي”، مؤكدة أن القضاء الإسرائيلي يساهم في جريمة الاختفاء القسري لأسرى قطاع غزة، مطالبة بمحاسبة “إسرائيل” على ذلك.
وأوضحت المؤسسات ذات العلاقة أنه “مع بداية حرب الإبادة، أدخل الاحتلال تعديلات قانونية على قانون المقاتل غير الشرعي، ساهمت في ترسيخ جريمة الاختفاء القسري، إلى جانب رفض الاحتلال الإفصاح عن أية معلومات تخصّ معتقلي غزة، أو أي معطيات تتعلق بأعدادهم”.
وأشارت إلى أن “عدة التماسات قُدمت إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لغرض الكشف عن هويات المعتقلين وأماكن احتجازهم، وفي كل مرة كانت تثبت المحكمة ما أثبتته على مدار عقود طويلة أنها ذراع أساسية لترسيخ الجرائم بحق الفلسطينيين”.
وأكدت مؤسسات الأسرى “عدم وجود معلومات واضحة ودقيقة عن كافة أعداد معتقلي غزة بما فيهم النساء والأطفال، والشهداء الذين ارتقوا نتيجة لجرائم التعذيب أو الإعدام”، موضحة أن “ما هو متوفر من معلومات حول معتقلي قطاع غزة” حتى بداية أغسطس/ آب الماضي “فقط 1584 ممن صنفهم بـ”المقاتلين غير الشرعيين””، من أصل ما لا يقل عن 4 آلاف و500 معتقل من قطاع غزة منذ بدء الحرب وفقًا لوسائل إعلام اسرائيلية.
ومنذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، أصدر وزير الحرب الإسرائيلي في حينه، يوآف غالانت، قرارًا يقضي بعدِّ جميع المعتقلين من قطاع غزة “مقاتلين غير شرعيين”، واحتجازهم في معسكر سدي تيمان.
يُصنَّف معتقل سدي تيمان بوصفه “غوانتانامو إسرائيل”، وهو معتقل مقام داخل القاعدة العسكرية سدي تيمان التابعة للقيادة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي، وأعيد افتتاحه مع اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بغية احتجاز الفلسطينيين الذين اعتقلوا من القطاع، تحت مبرر أنهم عناصر “وحدة النخبة” من كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، الذين أُسِروا خلال معركة “طوفان الأقصى”.
وأقيمت داخل القاعدة العسكرية 5 منشآت تحتوي على أقفاص حديدية و”بركسات” لاحتجاز من يُعتَقل من غزة. ويهدف وجود المعتقل داخل قاعدة عسكرية أن يبقى الإشراف على المعتقلين من قبل الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، دون أن تكون لسلطة السجون الإسرائيلية أية صلاحية بشأنها، بغية التكتُّم على الإجراءات التي تنفَّذ ضد المعتقلين، وعدم الكشف عمّا يجري في منشآت الاعتقال أو السماح بالزيارات.
ووفقًا لمؤسسة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم”، فإن سدي تيمان ليس إلا “غيض من فيض”. مؤكدة أن آلاف الفلسطينيين يُحتجَزون في ظروف لا إنسانية ويعانون من تنكيل لا يتوقف، جزء منهم لا يعرف لماذا اُعتقل، مضيفة أن كل من يدخل معسكر التعذيب “محكوم عليه بألم ومعاناة متعمَّدَين وخطيرَين لا ينتهيان”.
ووفقًا للتقرير ذاته، فقد تبيَّن وفقًا لإفادات الأسرى “تحوُّل أكثر من 12 من مرافق الحبس الإسرائيلية، مدنية وعسكرية، إلى شبكة معسكرات هدفها الأساسي التنكيل بالبشر المحتجزين داخلها”، ما يؤكد أن عدد المعتقلات والسجون السرية أكثر مما كُشِف عنه، ما يعني بقاء العديد من المعتقلين ضمن المصير المجهول، ودون أية إمكانية أو أفق حقيقي للوقوف على طبيعة وضعهم، وهو ما يبقيهم ضمن دائرة المختفين قسريًّا، بقرار وغطاء رسمي من أعلى السلطات في دولة الاحتلال.
فصول من المعاناة التي لا تنتهي
تحمل جريمة الاختفاء القسري العديد من فصول المعاناة التي لا تنتهي للأسر الفلسطينية، وتمسّ الجريمة بتأثيراتها العديد من مواضع الألم لدى المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، في الوقت الذي لا تحظى فيه بالاهتمام اللازم وسط تزاحم مظاهر المعاناة والمأساة في ظل استمرار حرب الإبادة.
تعاني العديد من العائلات من تجرُّع الآلام مرات متعددة بفعل المعلومات المتضاربة التي تصل حول مصائر أبنائهم المفقودين، إذ إن المصدر الوحيد للمعلومات حول هذا المصير من الشهادات الحية ممن عاصروا الحدث، وهي شهادات يحصل عليها الأهالي بجهد ذاتي في الغالب عبر البحث المباشر عن أشخاص عاصروا الحدث، خصوصًا في حالات الفقدان ضمن العمليات العسكرية أو على الحواجز، إذا تبحث هذه العائلات عن أي بصيص أمل يعطيها معلومة واضحة حول المصائر المجهولة لذويهم.
المصدر الأساسي للمعلومات حول الأسرى داخل سجون الاحتلال شهادات وأسماء ينقلها الأسرى الذين أُطلِق سراحهم عن المعتقلين الذين تواجدوا معهم في أماكن الاحتجاز ذاتها، وهي شهادات حملت معها أيضًا حسمًا لمصائر بعض المعتقلين الذين استشهدوا جرّاء التعذيب والانتهاكات داخل المعتقلات السرية، أو فقدوا حياتهم نتيجة لإصابتهم ومعاناتهم من الإهمال الصحي المتعمد من قبل إدارة هذه السجون.
وبقدر ما تُمثِّل هذه الأخبار بارقة أمل حول مصائر ذويهم، إلا أن احتمالات الموت أو التصفية تبقى حاضرة دائمًا في ضوء الشهادات حول حجم التعذيب وأدواتهم، إضافةً إلى إصرار الاحتلال الإبقاء رسميًّا على مصير العديد من هؤلاء المعتقلين مجهولًا.
تدريجيًّا، وبفعل جهود قانونية متعددة المستويات، تمكّن محامون من العاملين في المؤسسات الحقوقية من مقابلة بعض من أسرى قطاع غزة الذين نُقِلوا من السجون السرية والمعتقلات العسكرية إلى السجون الرسمية التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية، ما سمح بإفصاح أكبر عن مصائر العديد من الأسرى، خصوصًا بعد أن ألزمت الجهود القانونية سلطات الاحتلال على نقل جزء أساسي من المحتجزين إلى السجون الرسمية.
من جانب آخر، تصمِّم سلطات الاحتلال على تمسكها بجريمة عدم الإفصاح بشأن مصائر الآلاف الآخرين من المختفين قسريًّا، والموثَّق بحكم شهادات ميدانية وجودهم تحت مسؤولية جيش الاحتلال الذي احتجزهم وهُم على قيد الحياة، ويعكس هذا التصميم سبق إصرار سلطات الاحتلال على ممارسة عمليات تعذيب بشعة أو عمليات إعدام وتصفية سرية للعديد من المعتقلين، وإبقائهم ضمن مقابر الأرقام، أو تسليم جثامينهم فيما بعد ضمن الجثامين مجهولة الهوية، التي سبق وأن سُلّمت عبر الصليب الأحمر لوزارة الصحة في قطاع غزة دون أية وثيقة أو دلالات حول هويات أصحاب هذه الجثامين.
رغم حجم الجريمة وتأثيراتها الكبيرة، وعدد المفقودين الضخم من أهالي قطاع غزة، لا تزال الاستجابة محدودة لتنظيم جهود توثيق عدد حالات المفقودين، وتنظيم جهود الكشف عن مصيرهم ضمن شبكة عمل واسعة من الجهات ذات العلاقة، سواء محليًّا عبر التعاون التكاملي بين المنظمات الأهلية المختصة والأجهزة الحكومية، أو عبر التكامل مع جهود المؤسسات الحقوقية الدولية في إطار ملاحقة الاحتلال في المحاكم والمحافل القانونية الدولية، وإجباره على كشف مصير الآلاف المفقودين من سكان القطاع.