ترجمة وتحرير: نون بوست
في خضم سباق المملكة المتحدة لتأمين علاقات تجارية جديدة بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي، تبذل وزارة التجارة الدولية في المملكة المتحدة حاليًا جهودا جبّارة للحصول على أكبر عدد ممكن من الصفقات التجارية “السهلة”. ويوم 18 شباط/ فبراير الجاري، وقّعت المملكة المتحدة اتفاقية تجارية جديدة مع “إسرائيل” لتحلّ محل “اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” “.
منذ سنوات، أثارت العلاقات التجارية بين المملكة المتحدة و”إسرائيل” قلقا شديدا بيد أنها وصلت إلى ذروتها خلال الآونة الأخيرة. وفي شهر أيار/ مايو الماضي، سلّط أكثر من 70 نائبا من مختلف الأحزاب الضوء على تداعيات تجارة الأسلحة التي تجمع المملكة المتحدة و”إسرائيل”، خاصة بعد أن بثّت وسائل الإعلام صور القناصة الإسرائيليين وهم يطلقون النار على الفلسطينيين العُزّل في غزة. في الأثناء، اتخذ مجلس الشيوخ الإيرلندي خطوة غير مسبوقة من خلال تقديم مشروع قانون يدعو إلى الحدّ من التجارة مع المستوطنات غير القانونية، وهو الأمر الذي تضمنته أجندة الناشطين منذ عقود.
تقويض حقوق الفلسطينيين
كيف يمكن للحكومة البريطانية أن تسارع إلى اعتبار هذه الاتفاقية من ضمن أهم أولوياتها في الوقت الذي تثار فيه العديد من التساؤلات حول التجارة مع “إسرائيل”؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال تنطوي على محورين، وتستدعي إحداث تغيير كبير على كلا الجانبين. في المقام الأول، دأبت الحكومة البريطانية على تقويض حقوق الشعب الفلسطيني وسلامته من خلال الحفاظ على علاقة “العمل المعتادة” التي تجمعها مع “إسرائيل”، حتى في ظل استمرارها في انتهاك حقوق الفلسطينيين بشكل منهجي. ثانيًا، تواجه المملكة المتحدة عجزًا هائلًا في إجراءاتها الديمقراطية على مستوى العمليات التي تتمحور حول التجارة.
بالنسبة لـ”إسرائيل”، لم تمهّد علاقات التعاون مع الاتحاد الأوروبي الطريق للوصول إلى الأسواق العالمية فحسب، وإنّما فتحت المجال أمام التعاون السياسي والثقافي الذي يكتسي أهمية بالغة بالنسبة إليها لمحو الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني
لفهم خفايا الصفقة التجارية بين المملكة المتحدة و”إسرائيل” التي جرى الاتفاق عليها مؤخرًا، فإنه من الضروري فهم الاختلال الخطير الذي يشوب اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل”، التي تقوم عليها الاتفاقية التجارية الحالية. وُقّعت الاتفاقية بين “إسرائيل” والاتحاد الأوروبي سنة 1995، ودخلت حيز التنفيذ سنة 2000. ومنذ ذلك الحين، سيّرت هذه الاتفاقية التجارة بين كلا الجانبين، حيث وفرت الظروف الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والبحثية التفضيلية فيما بينها. كما مثّلت حجر الأساس للعديد من أشكال التعاون الأخرى، بما في ذلك العلاقات الدبلوماسية.
بالنسبة لـ”إسرائيل”، لم تمهّد علاقات التعاون مع الاتحاد الأوروبي الطريق للوصول إلى الأسواق العالمية فحسب، وإنّما فتحت المجال أمام التعاون السياسي والثقافي الذي يكتسي أهمية بالغة بالنسبة إليها لمحو الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك المشاريع الثقافية التي تشرف عليها الدولة، على غرار مسابقة يوروفيجن المقبلة التي من المقرر تنظيمها في تل أبيب.
تكنولوجيات الحرب والمراقبة
إلى جانب هذه المشاريع الثقافية، لعبت علاقة “إسرائيل” بالاتحاد الأوروبي دورًا محوريا في التجارة العالمية للأسلحة، لاسيما في مجال تطوير تكنولوجيات جديدة للحرب والمراقبة. وقد تمكنت شركات التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية من الانتفاع بأكثر من 500 مليون دولار من صندوق الاتحاد الأوروبي، الذي رصد أموالا لتمويل برنامج الأبحاث “هوريزون 2020”. فضلا عن ذلك، استغل الاتحاد الأوروبي علاقته مع “إسرائيل” لتعزيز القوى الأوروبية بحثًا عن زيادة العسكرة والتوريق وإنشاء “قلعة أوروبا” ومراقبة الدولة التي استُخدمت لقمع الاحتجاجات والنزاعات.
جنود إسرائيليون يطلقون الرصاص المطاطي على المتظاهرين الفلسطينيين في الخليل يوم 22 شباط/ فبراير
انطلاقا من هذه الأسباب وغيرها، طالب نشطاء حقوق الإنسان على مدى سنوات بضرورة مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل”. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” سبّبت لحظات محرجة للاتحاد الأوروبي في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، هدم الجيش الإسرائيلي البنى التحتية التي موّلها الاتحاد الأوروبي في الضفة الغربية المحتلة، كما رفضت “إسرائيل” رفضا قاطعا المحاولات المتواضعة التي قام بها الاتحاد الأوروبي لتنظيم دخول البضائع القادمة من المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية نحو البلدان الأوروبية عن طريق وضع وسوم تعريفية عليها.
في حين احتج الكثيرون على الاتفاقية لأسباب سياسية، ظلت هناك نقطة تقنية مثيرة للدهشة، إذ تشترط المادة الثانية في هذه الاتفاقية إلى جانب جميع الأفضليات التجارية التي تمنحها ضرورة “احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية”. في المقابل، لطالما استنكر الفلسطينيون طوال عقود طويلة سجل “إسرائيل” في مجال حقوق الإنسان، باعتبارهم ضحايا التمييز وسوء المعاملة والفصل العنصري.
الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان
لم يكن الفلسطينيون الوحيدين الذين أثاروا القلق بشأن سجل انتهاكات “إسرائيل” في مجال حقوق الإنسان. فقد أدرجت وزارة الخارجية البريطانية باستمرار “إسرائيل” ضمن قائمة “الدول ذات الأولوية في مجال حقوق الإنسان”، إلى جانب السعودية وسريلانكا وروسيا وغيرها من الأنظمة القمعية، كما أصدرت بانتظام تصريحات تعبر من خلالها عن قلقها إزاء انتهاكات “إسرائيل” للقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق باحتلالها للأراضي الفلسطينية.
يعد توقيع الصفقة التجارية بين المملكة المتحدة و”إسرائيل” دلالة سيئة من حيث التزامات المملكة المتحدة تجاه الشعب الفلسطيني
في السنة الماضية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية “تحذيرات” غير مسبوقة ضد “إسرائيل” مرتين بشأن أنشطتها التي تكاد تشبه جرائم الحرب. وفي ظل توقيع الاتفاق التجاري الأخير، فإنه من المقرر أن تعلن لجنة مستقلة نتائج بحثها في آذار/ مارس أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عقب التحقيق الذي ركز على الهجمات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت “مسيرة العودة الكبرى”، الاحتجاجات الضخمة التي قادها المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة في شهر آذار/ مارس الماضي.
من المتوقع أن يقدم التقرير توصيات متعلقة بخطوات عملية المساءلة التي قد تتضمن عقوبات. فهل حان الوقت المناسب حتى تسرّع المملكة المتحدة في نسق تبادلها التجاري مع “إسرائيل”؟ أشارت الحكومة البريطانية في السنة الماضية إلى أنها لم تقيّم مدى التزام “إسرائيل” بالشروط الواردة في اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” بشأن حقوق الإنسان والديمقراطية. ولكنه من الصعب أن نتخيل توصل اللجنة لأي تقييم مفاده أن “إسرائيل” ملتزمة بشروط الاتفاقية، خلال الفترة الفاصلة بين صدور التصريح وتوقيع هذه الاتفاقية.
في الواقع، يعد توقيع الصفقة التجارية بين المملكة المتحدة و”إسرائيل” دلالة سيئة من حيث التزامات المملكة المتحدة تجاه الشعب الفلسطيني. ولكنه يمثل أيضا نذير شؤم لطريقة سير المفاوضات التجارية في مجال خطوط الأنابيب.
غياب المساءلة
فصل أقل من شهر بين الفترة التي صدرت خلالها التقارير الأولى التي دفعت المملكة المتحدة للتوصل إلى اتفاق مع “إسرائيل” والفترة التي وقعت خلالها الصفقة بالفعل، ولم تُنظم أي استشارة عامة أو مناقشة برلمانية. وهذا أمر وارد الحدوث، بما أنه لا يُشترط على الصفقات التجارية أن تتقيد بمبدأ المساءلة الديمقراطية.
يتكفّل المجتمع المدني بمسؤولية تحقيق المساءلة عندما تفشل الحكومات في القيام بذلك
بناء على ذلك، يمكن لمسؤولي التجارة أن يشرعوا في المفاوضات، ويتفقوا سرا على الصفقة، ثم يوقّعوها، علما بأن البرلمان قد لا يمنحهم الموافقة بشأن الصفقة النهائية. وعلى الرغم من تشديد وزراء التجارة على أهمية “التمسك بقيمنا” في مجال حقوق الإنسان، إلا أنهم لا يتخذون أي إجراءات لضمان ذلك.
في دولة ديمقراطية حديثة، نحن في حاجة إلى بعض الإجراءات الأساسية لضمان دعم التجارة لحقوق الإنسان بدلاً من تقويضها. وقبل الشروع في أي صفقة تجارية، ينبغي إجراء تقييمات شاملة لتحديد تأثيرها على المجتمع والاقتصاد والبيئة والتنمية وحقوق الإنسان. وفي حال مضت الصفقة قدما، تصبح موافقة البرلمان ضرورية لتحديد حدود هذه الصفقة وأهدافها.
في المقابل، يتكفّل المجتمع المدني بمسؤولية تحقيق المساءلة عندما تفشل الحكومات في القيام بذلك. وهذا يشمل دعم الديمقراطية التجارية، ومطالبة المملكة المتحدة بإنهاء تجارتها للأسلحة مع الأنظمة القمعية، بما في ذلك “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى منع استيراد البضائع الاستيطانية من الأراضي المحتلة، سواء كانت في فلسطين أو الصحراء الغربية.
المصدر: ميدل إيست آي