عُقد في العاصمة الأذربيجانية “باكو”، في الـ21 من هذا الشهر، مؤتمر بعنوان “العالم التركي وخوجه أحمد يسوي”، يتناول المؤتمر الذي سيستمر حتى نهاية الأسبوع، بحضور شخصيات سياسية وفكرية وأكاديمية أذربيجانية وتركية، حياة رائد التصوف التركي الشاعر أحمد اليسوي، وأفكاره في التصوف.
ولد أحمد بن إبراهيم بن إلياس اليسوي عام 1093، في مدينة “صايرام” التي تقع اليوم في كازاخستان، ثم انتقل وهو في السابعة بعد وفاة والده إلى مدينة “يسي”، بدأ تعلم الشريعة والتصوف منذ الصغر على يد الشيخ التركي “أرسلان بابا” وانتقل بعد ذلك إلى بخارى، أكبر مركز إسلامي في آسيا الوسطى آنذاك.
أصبح اليسوي مريدًا لدى الشيخ يوسف الهمذاني، وهو من أبرز علماء المذهب الحنفي آنذاك، فأخذ عنه أصول الفقه والحديث، ثم اتجه بعد ذلك إلى طريق التصوف، وأصبح في وقت قصير من أبرز شيوخ التصوف في بخارى، وبعد وفاة الشيخ الهمذاني عاد إلى مدينة “يسي”، وأسس الطريقة الصوفية المعروفة بـ”اليسوية”، وهي أول طريقة صوفية تركية خالصة.
خوجه أحمد يسوي
أثّر خوجه أحمد يسوي على كثير من المتصوفة الأتراك في وسط آسيا، وكانوا يطلقون عليه لقب “بِير” بمعنى شيخ الطريقة، وانخرط اليسوي في تلقين تعاليم التصوف السني لمريديه، ومما ورد عن حياته أنه كان يقوم بتقسيم يومه إلى ثلاثة أقسام: قسم للذكر والعبادة، وقسم لتعليم طلابه، والقسم الأخير للعمل، حيث كان يصنع الملاعق الخشبية ويعتاش ببيعها.
جدير بالذكر أن الطريقة الصوفية التي أسسها اليسوي لم تكن مجرد طريقة صوفية منعزلة عن بيئتها، كما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان، لكنها كانت حركة قوية تم استخدامها في انتشار الإسلام بشكل كبير في آسيا الوسطى، فبحسب المستشرق والمؤرخ الروسي المعروف فاسيلي بارتولد، المختص في تاريخ الحضارة الإسلامية، فإن هذه الفترة المذكورة كانت مواتية تمامًا لانتشار الدعاية للدين والتصوف، حيث كان السلطان سنجر الذي وحّد بلاد ما وراء النهر وخراسان، قد وافته المنية، ثم خلفه خوارزم شاه، الذي أبدى استعدادًا قويًا من أجل تأسيس دولة إسلامية قوية.
ترك اليسوي العديد من الآثار، مثل أشعاره الغزيرة في التصوف، التي جُمعت في كتابه المعروف بـ”ديوان الحكمة”
فقد استطاع شيوخ المتصوفة أن يكونوا أصحاب نفوذ قوي في كل مناطق آسيا المسلمة، فشُيّدت التكايا والزوايا في كل جهة، واتسعت شهرة الشيخ أحمد اليسوي والتف حوله آلاف المريدين من تركستان وبخارى وسمرقند وخراسان، وساعده على ذلك أنه كان على علم بعلوم وآداب العرب والفرس أيضًا، فإلى جانب التركية التي كتب بها منظوماته الصوفية بلغة بسيطة اقتبسها من الأدب الشعبي، كان يكتب بالفارسية، شأنه في ذلك شأن أقرانه من الصوفية في بيئته، أما آداب وسلوك طريقته فكان يمارس طقوسها بالعربية.
ترك اليسوي العديد من الآثار، مثل أشعاره الغزيرة في التصوف، التي جُمعت في كتابه المعروف بـ”ديوان الحكمة”، ولهذا الكتاب مكانة كبيرة بين الآثار التركية، حيث عبّر عن عناصر الأدب الشعبي التركي القديم التي تتمثل فيها روح الإسلام، وهو من أقدم معالم الأدب التركي القديم، بالإضافة إلى رسالته المعروفة بـ”فقر نامه” التي تناولت مقامات التصوف وآداب الطريقة.
رغم أن خوجه أحمد يسوي لم يأتِ إلى الأناضول، فإنه أثَّر بشكل كبير على متصوفة الأناضول مثل الشاعر والمتصوف يونس إمره وحاجي بكتاشي ولي
استمر اليسوي في كتابة منظومات صوفية أخلاقية تحت عنوان “الحكمة”، كان يشرح فيها آداب التصوف وإدراك كنه معانيه، حتى بلغ الثالثة والستين من عمره، فبدأ – كما هو متبع في تقاليد الصوفية – في تشييد صومعة للعبادة في أحد أطراف تكية على عمق ثلاثة أذرع، وانزوى بداخلها، وفي كثير من المقاطع الشعرية في ديوان الحكمة، شرحٌ لأسباب إيثاره العزلة، بلغة صوفية خالصة.
رحل اليسوي عام 1166 ودُفن في مدينة “يسي”، وفي عام 1397 أقام تيمورلنك بناءً فخمًا على قبره، وتعد هذه التحفة المعمارية من أعظم آثار تركستان، وقد انتشرت اليسوية بعد ذلك في أغلب مناطق آسيا الوسطى، بفضل الشهرة التي حققها اليسوي، بسبب قدرته على مخاطبة الطبقات المختلفة، وما زال للطريقة اليسوية أتباع ومريدون حتى اليوم.
افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسجد خوجه أحمد يسوي في مدينة “تركستان” جنوبي كازاخستان
وأخيرًا، رغم أن خوجه أحمد يسوي لم يأت إلى الأناضول، فإنه أثَّر بشكل كبير على متصوفة الأناضول مثل الشاعر والمتصوف يونس إمره وحاجي بكتاشي ولي، وقد دخل “مقام اليسوي” عام 2003، إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي، وخصص عام 2016 للتعريف باليسوي، من خلال 250 فعالية في عدة دول مختلفة للتعريف به، وفي تركيا، أطلقت الحكومة على 2017 “عام اليسوي”، وأقامت العديد من الفعاليات عنه في أغلب المدن التركية.