في أحدث تطور على صعيد تطبيع العلاقات التركية السورية، خرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس الأربعاء، مجدِّدًا دعواته لرئيس النظام السوري بشار الأسد لعقد لقاء مشترك، والمضيّ في تطبيع علاقات الجانبَين ووضعها في “المسار الصحيح”.
ووجّه الرئيس التركي رسالة إلى الأسد، جاء فحواها بأن “يعي ما يجري داخل سوريا ومحيطها عبر إعادة تقييم تهديدات الأمن”، باعتبار أن “الخطر الحقيقي في المنطقة يأتي من إسرائيل، وليس من السوريين”.
ورغم مغادرة الوفد السوري خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية بالقاهرة، في سبتمبر/ أيلول، القاعة، مع بدء كلمة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، سارع الرئيس التركي الذي غادر أثناء كلمة الأسد خلال القمة العربية-الإسلامية في الرياض، الاثنين الفائت، إلى تبرير غيابه بالقول: “إن المغادرة كانت لعقد اجتماع مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وليست احتجاجًا على كلمة الأسد”.
آثار ذلك لغطًا في الأوساط السورية المعارضة، وأثار جملة من التساؤلات عن سبب إصرار الرئيس التركي على دعواته المتكررة للأسد مرة بعد مرة، رغم كل الهشاشة والخور الذي يعصف بنظامه وحتى بحلفائه.
حديث أردوغان جاء متزامنًا مع مقابلة متلفزة أجراها وزير دفاعه يشار غولر، على قناة TV100، إذ علّق الوزير على سؤال حول إمكانية اجتماع الرئيس أردوغان مع الأسد، قائلًا إن “الرئيس أردوغان يُعد قائدًا عالميًا، وما يقوله يجب أن يؤخذ بجدّية”، مضيفًا أن “على الأسد أن ينظر إلى هذا العرض كفرصة لبلاده الممزقة وتحقيق السلام في سوريا”.
ما بين اللغة “التحذيرية المتعالية” التي أطلقها وزير الدفاع التركي، ولغة المجاملة والمداراة التي وجّهها أردوغان للأسد، يعود ملف التطبيع المعقّد بين أنقرة ودمشق إلى الواجهة مجددًا، لا سيما أنه تزامن مع فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولاية أمريكية جديدة، وهو القادم بملفات ساخنة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها التوقعات بسحب قواته من شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة قوات “قسد” الكردية، ذراع حزب العمال الكردستاني المصنّف تركيًا على لوائح الإرهاب.
يرى مراقبون أن تصريحات غولر تمكّنت من إرسال رسالة لدمشق وحلفائها، مفادها أن رغبة تركيا بتطبيع العلاقات معها لا تعني أن يدها مفتوحة دون شروط، خاصة فيما يتعلق بضمان أمن حدودها وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، مع تقديم الضمانات اللازمة لهم.
التطبيع واستراتيجية “كفّ المشكلات”
ترعى روسيا عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق منذ العام 2022، إلا أن مسار التقارب دائمًا ما يصطدم بمطالب النظام السوري بانسحاب تركيا من الأراضي السورية وهو الأمر الذي ترفضه أنقرة قبل بدء أي عملية التفاوض.
إذ تعتبر وجودها العسكري في سوريا لحماية أمنها القومي، فيما تلخّص مطالبها برغبتها في تطهير مناطق وحدات حماية الشعب بالكامل، والقضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، إضافة إلى العودة الآمنة للاجئين، وأن تكون كل من حمص ودمشق وحلب “مناطق تجريبية” لعودة آمنة وكريمة في المرحلة الأولى، ومن ثم توسيع هذا الإطار.
في الصدد ذاته، عاد وزير الدفاع التركي غولر ليؤكد أن بلاده لن تتخلى عن أمنها القومي، ولن تسمح بإنشاء ممرّ إرهابي على حدودها الجنوبية، كما أن انسحاب قوات بلاده مرتبط بتحقيق هذه الأهداف، بالتنسيق مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية.
ومن المعروف أن الأسباب التي استدعت التدخل التركي في الشمال السوري لا تزال قائمة حتى الآن. فحسب مركز “الإمارات للسياسات”، تأتي مساعي تركيا نحو التطبيع من رغبتها لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، إضافة إلى أن وجود جيش النظام فيه مصلحة لتركيا تتعلق بقوات “قسد” الانفصالية، وبسبب التقارب العربي مع سوريا، إضافة إلى كون سوريا بوابة العبور الاقتصادي نحو المشرق والخليج العربي.
يعتبر الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، في حديثه لـ”نون بوست”، أن تصريحات الرئيس التركي ووزير دفاعه ليست جديدة، إنما هي ضمن سياق السياسة التركية الممتدة منذ أكثر من عامين، بالتوجُّه إلى قبول المبادرة الروسية بشكل عام، والانفتاح الكامل على التقارب مع الأسد لأسباب داخلية وخارجية.
أما الأسباب الداخلية -حسب الباحث علوان- فتكمن في السجالات التركية الدائمة حول السوريين، وما تقوله المعارضة التركية بضرورة الانفتاح على الأسد، إذ يعود أردوغان لوضع الكرة بملعب النظام، فيما يثبت النظام للجميع أنه لا يريد تحمل المسؤولية، خاصة مسؤولية إعادة اللاجئين.
أما الأسباب الخارجية، فهناك جملة كبيرة من التناقضات والتدافعات بالملف السوري، على رأسها التوجه العربي للتطبيع مع الأسد، ما يحدو بالأتراك لحل بعض المشكلات العالقة مع النظام، رغم معرفته كما الدول العربية بأنه لن يغيّر سلوكه.
لكن بالمقابل، تؤمن تركيا والدول العربية أن القطيعة لم تحل الكثير من المشاكل، وأن النظام بقيَ يصدّر المشكلات خاصة المتعلقة بالأمن في المنطقة، كتصدير الكبتاغون والسلاح والإرهاب والخلافات الإقليمية والدولية ما بين فاعلين على مستوى المنطقة، فالتوجه التركي ما زال قائمًا نحو استراتيجية “كفّ المشكلات” عبر محاولات التطبيع مع النظام.
توقيت التصريحات
تسعى أنقرة التي قررت تسريع تعاملها مع الملف السوري أكثر، سواء بالشق السياسي أو العسكري، لترتيب أوراقها نحو استكمال شريطها الأمني الذي تواصل العمل عليه منذ العام 2016 سواء بالتفاوض أو بالعمليات العسكرية، وترى الآن مع الفراغ السياسي الأمريكي أن الفرصة سانحة لتسريع خطواتها، مع آمال عريضة بإدارة الرئيس الأمريكي الجديد ترامب، والذي بنت تجاهه أنقرة توقعات مستقبلية أكثر إيجابية.
وزير الدفاع يشار غولر كان قد اعتبر أن “ترامب في ولايته الجديدة سيركز على موضوع سحب القوات الأميركية في سوريا والمنطقة”، مضيفًا أنه “في فترة رئاسته الأولى أصدر أوامره 3 مرات لسحب القوات من سوريا، ومع ذلك لم يتم تنفيذ ذلك”.
المراهنة التركية على الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سوريا يدعمها العلاقات الشخصية بين الرئيسَين أردوغان وترامب، إضافة إلى إطلاق واشنطن يد أنقرة بالتمدد بالشمال السوري من خلال عمليتَين عسكريتَين ضد قوات “قسد” الكردية المدعومة أمريكيًا، الأولى في عفرين عام 2018، والثانية في تل أبيض بريف الرقة الشمالي ورأس العين بريف الحسكة الشمالي الغربي شتاء 2019.
يشير قتيبة إدلبي، وهو زميل أول ومدير مكتب سوريا في المجلس الأطلنطي، إلى أن التصريحات التركية ما هي إلا لإرسال إشارات توضّح أن تركيا لديها خيارات أخرى بما يخص التطبيع كالتوافق مع ترامب، كما أن لديها علاقات وطرفًا يمكن الاعتماد عليه على الأرض داخل سوريا.
ونوّه إدلبي خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا على ما هو مطروح اليوم بناءً على بعض المحادثات التي جرت بين أردوغان وترامب، ليس انسحابًا من شمال شرق سوريا، إنما انسحابًا من الخط الحدودي ما بين سوريا وتركيا، أي منطقة شمال خط M4، بما يضمن عمليًا خروج الولايات المتحدة من خط الاشتباك ما بين “قسد” وتركيا، ويضمن لتركيا تأمين شريطها وفصل شمال شرق سوريا ذي التبعية الكردية عن تركيا بريًا.
موضحًا أن هذا السياق الذي يتم الحديث خلاله عن الانسحاب، يتعلق بمن سيكون ضمن فريق ترامب الذي سيتسلّم ملف زمام الشرق الأوسط والملف السوري خلال الفترة القادمة.
بالمقابل، أشارت دراسة لمعهد الشرق الأوسط، أن “فترة ولاية ترامب السابقة في منصبه يجب أن تمنح أنقرة الكثير، ما يجعلها تشعر بالقلق في ولايته الثانية، فقد قوّضت تصرفات ترامب في ولايته الأولى المصالح التركية من سوريا إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، كما قد تشكّل رئاسة ترامب الثانية تحديات أخرى لأنقرة، أبرزها اختيار ترامب لمايك والتز المؤيد القوي لقوات “قسد” الكردية، والذي كان وراء فرض العقوبات على تركيا عام 2019″.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى محمد علوش الباحث في الشأن التركي، أن العامل الأمريكي مؤثر في عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق، كما أن فوز ترامب سيكون له أثر في تقليص الانخراط الأمريكي في الملف السوري، وبالتالي إن هذا سيوسّع من هامش تركيا للمضيّ قدمًا في مواصلة عملية التطبيع مع دمشق بما يحقق أهدافها، متوقعًا أن في مرحلة ما بعد فوز ترامب قد تكون هناك عوامل دافعة لعملية تطبيع تظهر في الفترة المقبلة.
وحسب رأي علوش، سيجلب التطبيع السوري مع تركيا للنظام مزايا كبيرة تتجاوز مسألة إعادة التعاون الإقليمي إلى المزايا الاقتصادية المفترضة، فضلًا عن تداخل مصالح الطرفَين في تقويض الإدارة الذاتية الكردية، وبالتالي هذه المزايا المشتركة تلعب دور محرك لعملية تطبيع، خاصة بالنسبة إلى الأسد الذي يعدّ اليوم بحاجة ماسّة لهذه المزايا أكثر من أي وقت مضى.
الجيش الوطني.. حسابات تركية جديدة
للمرة الأولى، تتطرق أنقرة لمستقبل الجيش السوري الوطني، الذراع العسكرية للحكومة المؤقتة السورية المعارضة، والذي تتولى تركيا دعمه والإشراف عليه، إذ قال وزير الدفاع التركي يشار غولر، إن “ما تسمّونه اليوم الجيش الحر سيكون جيش الجمهورية مستقبلًا، وإن رئيس النظام السوري بشار الأسد لا يملك قاعدة شعبية في بلاده، وإذا كان هناك دولة سورية فهؤلاء المواطنون هم من يشكّلها”، في إشارة إلى الجيش الوطني شمال سوريا.
ويسيطر الجيش الوطني المدعوم تركيًا بفيالقه الثلاثة على ريفي حلب الشمالي والشرقي وتل أبيض بريف الرقة، ورأس العين بريف الحسكة، وقد شارك إلى جانب الجيش التركي في معارك كبرى، كتحرير جرابلس عام 2016 والباب وما حولها عام 2017 من تنظيم “داعش”، إضافة إلى تحرير عفرين وريفها عام 2018، وتل أبيض ورأس العين عام 2019، من سيطرة “قسد”.
وقد اعتمد الجانب التركي على مجموعات كبيرة في الجيش الوطني للقتال خارج سوريا، في أذربيجان خلال حربها مع إرمينيا، وفي ليبيا ومؤخرًا النيجر، بهدف حماية مشاريع ومصالح تركيا هناك.
تشير دراسة لمركز “ستراتيجيكس للبحوث الاستراتيجية”، نُشرت في فبراير/ شباط من العام الفائت، إلى أن هناك إمكانية لتعويم الفصائل المسلحة المعارضة ضمن جناح يندمج بوجود عسكري لقوات النظام في إدلب وشمال حلب، وبضمانة روسية تركية مشتركة، على أن يبقى لأنقرة نفوذها السياسي والأمني ضمن تلك الفصائل، معتبرة أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا، والمدعوم بعدّة مؤشرات واقعية أبرزها وجود توافق تركي روسي نسبي.
حسب الباحث علوش، فإن أي تصور تركي لتسوية الصراع في سوريا يجب أن يتناول إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، بما يضمن وجود الفصائل التي تنضوي ضمن الجيش الوطني، إلا أن هذا النقاش ما زال من المبكر الشروع به، لكن بالتأكيد هو جزء من أي تطبيع بين الطرفين، بمعنى أنه لا يمكن لأي عملية تطبيع أن تتمّ من دون التوافق على مصير الفصائل العسكرية المعارضة المدعومة تركيًا، وكيف سيكون دورها ووظيفتها ومكانها في أي عملية حل سياسي شامل.
ختامًا، يبقى البازار السياسي التركي فيما يتعلق بموضوع التطبيع مع النظام مرهونًا بقدوم الإدارة الأمريكية الجديدة مطلع السنة القادمة، فكل الاحتمالات واردة أمام الملف السوري الأعقد في منطقة الشرق الأوسط، وما إذا كانت أنقرة ستنجح أخيرًا في إنشاء حزامها الأمني شمال شرق سوريا والتفرد بالبقعة الأهم على الجغرافيا السورية، لا سيما في ظل انشغال الإيرانيين بالضربات الأمريكية والإسرائيلية المتتابعة في سوريا، وغرق الروس أكثر في المستنقع الأوكراني.