قد يتذكّر قارئ رواية “الجهل” لميلان كونديرا وصفه لمفهوم النوستالجيا كألمٍ ناتجٍ عن الفراق والبُعد، فيقول “إنّ النوستالجيا هي المعاناة الناتجة من الرغبة غير المشبعة بالعودة”. ويضيف: “وهي عادةً ما تعني الحزن الناجم عن استحالة عودة المرء إلى بلده الأصلي”. لكنّه يسترسل في شرحه للكلمة باعتبارها ذلك الألم الناتج عن الجهل، وكأنه يشير إلى وجع مزمن سببه غياب المعرفة الذي يستدعي العاطفة والمخيلة.
يرجع أصل الكلمة إلى اللغة اليونانية؛ حيث “نوستوس” تعني العودة، أما “ألغوس” فهي المعاناة. حيث كان لنوستوس أهمية خاصة في الحضارة الإغريقية القديمة، وعنه كتب الشاعر الملحمي هوميروس”الأوديسة“، التي تحكي رغبة الملك “أوديسيوس” الملحّة بالعودة إلى موطنه بعد خوضه لحرب طروادة التي استمرّت لمدة 10 سنوات متتالية.
في علم النفس، يحتلّ المصطلح مكانةً مهمّة لما يرتبط به من جوانب نفسية مهمّة أخرى، كالذكريات والسعادة والاكتئاب والاغتراب والهوية الشخصية وغيرها الكثير. لكن من جهةٍ ثانية، فعلاقة الدماغ بالماضي وتذكّر أحداثه ليست مؤلمة بالضرورة، حيث أنّ أدمغتنا لها آلياتها الخاصّة التي تخدمنا وتقلّل ألمنا حين يتعلّق الأمر بماضينا وما حدث فيه.
تحيّز ورديّ.. نحن نتذكّر الماضي الإيجابيّ أكثر
وجدت إحدى الدراسات المنشورة في مجلة الشخصية أنّ الأشخاص عادةً ما يركّزون على الجانب الإيجابيّ ويقلّلون من شأن الجانب السلبيّ لأحداث الماضي التي يرون أنّ لها تأثير كبير عليهم، سواء ساهم في إحداث تغييرٍ في حياتهم أو على إحساسهم بهويّتهم الذاتية. فيما أكّد القائمون على الدراسة نفسها أنّ الناس يسعون جاهدين طوال حياتهم للحفاظ على شعورٍ إيجابيّ ومتّسق مع الذات حين يتعلّق الأمر بتذكّرهم للماضي.
“استعراض الماضي الوردّي” هو أحد أنواع التحيّزات المعرفية التي يتبنّاها الدماغ في علاقته مع أحداث الماضي بشكلٍ ورديّ وأكثر إيجابيّةً ممّا كان عليه وقتذاك
وبكلماتٍ أخرى، حين يفكّر الشخص بحدثٍ ما كان له تأثير كبير عليه، فإنه يستغرق بالتفكير في ذلك الحدث وما وراءه، ويحاول فهمه وفهم أسبابه وجوانبه الكثيرة والمعقّدة، بحيث يعمل الدماغ، بأثرٍ رجعيّ، على تحميل ذلك الحدث جوانب إيجابية أكثر من السلبية وذلك بهدف احتوائه بشكلٍ يتّسق مع الذات الحاليّة ويقلّل من ألمها وندمها وأيّة مشاعر سلبية أخرى.
يأخذنا هذا التفسير إلى ما يُعرف في علم النفس بمصطلح “استعراض الماضي الوردّي Rosy retrospection“، وهو أحد أنواع التحيّزات المعرفية التي يتبنّاها الدماغ في علاقته مع أحداث الماضي بشكلٍ ورديّ وأكثر إيجابيّةً ممّا كان عليه وقتذاك. وعلى الرغم من أنّ هذا التحيّز قد يعمل على تشويه رؤيتنا للماضي والواقع إلى حدٍ ما، إلّا أنّه في الوقت نفسه يخدم بشكلٍ جزئيّ رؤيتنا لذواتنا ويساعدنا على تقديرها بشكلٍ أفضل.
النوستالجيا كآلية دفاع ضدّ الواقع الصعب
علميًا، يحدث الأمر نتيجةً لسعي الدماغ إلى تسهيل تخزينه للذكريات طويلة الأمد وتقوية استرجاعها لاحقًا، حيث إنّ إزالة التفاصيل السلبية والثقيلة قد تقلّل من عبء تلك الذكريات على الدماغ، الأمر الذي يؤدّي إلى استخدام اتصالات عصبية أقل. فكّر بالأمر كما لو أنّ الدماغ عبارة عن حاسبٍ آليّ والذكريات هي البيانات والملفّات التي يحتوي عليها. وأنتَ حين تتخلّص وتزيل البيانات غير الضرورية أو الخطرة، أو حين تعمل على إعادة صياغتها وبنائها بطريقةٍ أبسط، فأنتَ تعمل على تحسين عمل الحاسب وتقوية أدائه اللازم لإكمال المهمّات.
الذكريات المتحيّزة الإيجابية يمكن أنْ تمنع الاكتئاب وتحقّق درجةً من السعادة والشعور بالرضا وتحقيق الذات
أحد الأسباب المحتملة الأخرى لهذا التحيّز هو ميلنا إلى عدم ملاحظة الأمور التي تحدث في منتصف القصّة، أو الأجزاء الأقل إثارةً منها. فيما تخبرنا نظريّة أخرى أنّ أدمغتنا تعمل على إعادة بناء ذكرياتهم للأحداث بناءً على السردية أو الرواية التي يبنونها عن أنفسهم ويرغبون في تقديمها وسردها.
فيما يجادل بعض الباحثين بأنّ استعادة الأحداث الوردية تعد تحيزًا مفيدًا للحفاظ على تقدير الذات. إذ أنّ الذكريات المتحيّزة الإيجابية يمكن أنْ تمنع الاكتئاب وتحقّق درجةً من السعادة والشعور بالرضا وتحقيق الذات. فيما وجدت دراسة أخرى، شارك فيها 750 متطوّعًا، أنّ القدرة على النظر إلى الماضي بطريقة إيجابية تلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق الرضا التام عن الحياة.
أشار فرويد إلى أنّ عقولنا اللاواعية تعمل على إخضاع الأفكار التي تهدّد صورتنا المثالية لأنفسنا ورؤيتنا لذواتنا للرقابة، بما في ذلك الذكريات والصور التي شكّلناها عن الماضي
العديد من الأبحاث الداعمة لتلك النظريّات تركّز أيضًا على أنّ الحنين الإيجابيّ للماضي، أو النوستالجيا، غالبًا ما ينشأ في حالات الملل أو الشعور بالوحدة والاغتراب والعزلة، ما يدعم من كونها آلية دفاع يقوم بها الدماغ عندما يشعر الشخص بأنّ حياته فقدت معناها أو بأنّ تغيّرًا كبيرًا حدث معه للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الإيجابية والجيدة بما تحمل معها من عواطف إيجابية تمكّنه من التعامل مع التحديات الحالية وإعلاء قيمة الذات وزيادة الشعور بتقديرها.
تتفّق كلّ تلك النتائج والمعطيات مع ما أشار إليه فرويد منذ عقود عن أنّ عقولنا اللاواعية تعمل على إخضاع الأفكار التي تهدّد صورتنا المثالية لأنفسنا ورؤيتنا لذواتنا للرقابة، بما في ذلك الذكريات والصور التي شكّلناها عن الماضي. بحيث يمكن اعتبار الذاكرة والنوستالجيا وسيلةً لإعادة كتابة الذات، فقدرتنا على التذكّر وما نتذكّره هو ما يشكّل ذواتنا، وإذا فقدنا اتّصالنا بذاكرتنا فإننا نفقد اتّصالنا بذواتنا، وإذا تذكّرنا بشكلٍ سلبيّ يعني أنّنا ننظر، بشكلٍ أو بآخر، لذواتنا وأنفسنا بشكلٍ سلبيّ.
ومع ذلك، قد يكون الحنين الإيجابيّ متزامنًا مع استياء عميق من الحاضر ما يجعل الشخص يبحث عن طريقة يهرب فيها إلى عالم متخيّل أقرب للمثالية في الماضي البعيد. ما يعني أنّ علينا أنْ نكون حذرين وواعين تمامًا في نهاية المطاف أنّنا نميل إلى التركيز على تجاربنا الإيجابية وذكرياتنا السعيدة أكثر من السلبية.