في سعيها المستمر منذ عقود لانتزاع حقوقها وفرض تأثيرها في الحيز العام، لا ينفصل نضال المرأة السودانية عن المرأة العربية بشكل عام، فهو جزء من التحدي النسوي الكبير ضد المنظومة الأبوية المتمثلة بالسلطة السياسية أو الاجتماعية.
تتحدى المرأة السودانية القمع المزدوج الذي يمارس عليها بموجب الأيديولوجيا الاستعمارية التي تحط من قيمة المرأة وقدرتها على اختيار مصيرها أو الدفاع عن الإنسان والمطالبة بالعدالة للجميع وباسم الجميع، إلا أن المرأة السودانية لا تتوقف عن دقّ جدار الخزّان لتنال مكانتها المستحقة، وهو ما نراه مؤخراً في نضالها ضد حكم البشير، نضالٌ في الحاضر لكن جذوره تعود للتاريخ.
في تاريخ نضال المرأة السودانية
في التاريخ القديم والحديث، أثبتت المرأة السودانية وجودها ومكانتها، فقد حكمت في العصور القديمة أيام الممالك وقاتلت في الحروب، وكانت سياسية محنكة وأمّاً مربية. فعلى سبيل المثال، حكمت الكنداكة أماني ريناس قبائل النوبيين في السودان لمدة 25 عاماً منتصرة على الروم، منذ سنة 40 قبل الميلاد حتى 10م، وكانت امرأة محاربة إذ فقدت إحدى عينيها في المعارك.
واحدة من كل ثلاث نساء في السودان تتزوج قبل سن الـ 18 عاماً، في حين أن 9 من كل 10 خضعن لتشويه أعضائهن التناسلية (ختان الإناث)
وإذا نظرنا للتاريخ الحديث نجد تغيّراً بمكانة وشكل دور المرأة السودانية في الحيز العام، دور متأثر بالقوى الاستعمارية التي انتدبت السودان منذ أواخر الثمانينات حتى استقلاله. هنا حاولت الايديولوجيا الاستعمارية إعادة تركيب موازين القوى بالمجتمع السوداني لتحطّ من مكانة المرأة وتهمّش دورها. على الرغم من ذلك، لعبت المرأة السودانية في عصر الاستعمار المصري-الإنجليزي أدواراً هامة في مساندة المناضلين ضد الاستعمار ودعم المعارضة السودانية، إذ لم يكن يسمح لها بأن تكون عضواً في تكتلات المعارضة مثل جمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض، لظروف التقاليد والاستعمار. إلا أنها نشطت بالعمل السري بتأمين اجتماعات المعارضة وتوزيع المنشورات، ويذكر من بين النماذج الشهيرة التي تحولت إلى رمز، العازة محمد عبد الله، زوجة المناضل علي عبد اللطيف.
اتخاذ هذه المكانة مرّ بمراحل ومنعطفات عدة يعتبر من أهمها إنشاء أول مدرسة للبنات عام 1907، في ظل الاستعمار، والذي انعكس على مجمل قضاياها حينها. فتحت المدرسة على يد الشيخ بابكر بدري، مما أسس لوجود نخبة نسائية مثقفة ساهمت بشكل فعّال لاحقًا بدحر الاستعمار، وقدمت إطاراً تفسيرياً لدور المرأة البارز حتى اليوم في السودان.
بوعي قومي عميق ومسؤولية مجتمعية كبيرة، دخلت المرأة السودانية السياسة وشغلت مناصب مختلفة، بالرغم من كل ما تعرضت له من ضغوطات إلا أنها بقيت تدفع نفسها إلى مقدمة صفوف النشاط السياسي والاجتماعي.
ومنذ عام 1953 نالت المرأة السودانية لأول مرة حقها في التصويت والترشح السياسي من خلال الانتخابات العامة، فكانت فاطمة أحمد إبراهيم أول مرشحة مستقلة تدخل البرلمان كرئيسة للاتحاد النسائي السوداني في عام 1965 أيّ بعد قرابة عشر سنوات تقريباً من صدور القرار. ثم توالى ارتفاع نسبة المشاركة السياسية للنساء كناخبات، حيث تتراوح ما بين 60-65%، لكنها ما زالت تحتاج الانتماء إلى الأحزاب، ممثلة المرأة السودانية، سواء كان هذا التمثيل في الحزب الحاكم أو في أحزاب المعارضة.
نضال مستمر ضد البشير
ولم تقف تحديات النساء السودانيات حتى مع بدء حكم البشير عام 1989، فقد وقفن في عهده بوجه العديد من الانتهاكات الحقوقية المتمثلة بقضايا الحريات السياسية والعنف المنزلي وزواج الأطفال والاغتصاب، التي لا تعتبر جميعها جرائم يحاسب عليها القانون السوداني. نشطت في هذه المجالات في إطار جمعيات حقوقية ومنظمات مجتمع مدني عدة، استجابة للأرقام المفزعة في العديد من ملفات حقوق المرأة.
حراك المرأة السودانية لم يقتصر على المشاركة السياسية فقط، لكنه شمل ولا زال يشمل تنظيم فعاليات وبناء مؤسسات تنموية تساعد في توعية المرأة بحقوقها
وفقاً لإحصائيات نشرتها رويترز فإن واحدة من كل ثلاث نساء في السودان تتزوج قبل سن الـ 18 عاماً، في حين أن 9 من كل 10 خضعن لتشويه أعضائهن التناسلية (ختان الإناث). وفي سياق مناهضة هذه العادات نظمت جمعيات المجتمع المدني النسائي في السودان حملات محلية للقضاء على عادة ختان الإناث، مما سبب رفضاً كبيراً ومعارضة بعض رجال الدين، لذا فإن تحقيق أهداف المشروع ما زالت بعيدة.
ومن هنا نرى أن حراك المرأة السودانية لم يقتصر على المشاركة السياسية فقط، لكنه شمل ولا زال يشمل تنظيم فعاليات وبناء مؤسسات تنموية تساعد في توعية المرأة بحقوقها ومؤسسات لحماية الأطفال وتوجيههم. ومن بين هذه المنظمات نجد جمعية كافا السودانية، وهي جمعية غير حكومية تهتم بالأطفال المراهقين وتمكين المرأة وتدريبها، وجمعية عصماء المناهضة لختان الإناث وزواج الأطفال.
ناشطات بارزات ضد البشير
مع تواصل الاحتجاجات والمظاهرات التي تضم كل طبقات المجتمع السوداني منذ ديسمبر الماضي يبرز دور المرأة السودانية في الوقوف وإبداء رأيها والتخطيط للاحتجاجات والحشد، لكن الحكومة التي تستخدم تفسيرات الدين لاستبعاد وتهميش النساء بشكل منهجي.
تواجه السودانيات خلال هذه الفترة شتى أدوات القمع مثل الاعتقال والتهديد والاحتجاز والتضييق
قاتلت النساء في السودان دائماً ضد هذا النوع من الاضطهاد، لذلك ليس من الغريب أن نجد أعدادهن الكبيرة الآن في الميادين، رافعة الشعارات ومطالبةً بإسقاط البشير ومتحدثة باسم ولأجل الشعب السوداني في المنصات الإعلامية الدولية ومنصات التواصل الاجتماعي.
تظهر مقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي نساء من بورتسودان في الشرق إلى العاصمة الخرطوم، يسيرون ويهتفون ويصفقون ويغنون الأغاني. بعض المقاطع الأخرى تظهر السجينات اللواتي يحتجن في السجون. حتى النساء اللواتي لم يستطعن مغادرة بيوتهن يساعدن الشبان الملاحقين من قبل الأمن على الاختباء في المنازل والتستر عليهم.
لقمع هذه المشاركة الفعالة، تواجه السودانيات خلال هذه الفترة شتى أدوات القمع مثل الاعتقال والتهديد والاحتجاز والتضييق. تأكيداً على ذلك، وصفت الناشطة والحقوقية ولاء عصام البوشي، المشاركة في الاحتجاجات ضد البشير، أن الكثير من المتظاهرات اللاتي تم اعتقالهن تعرضن للاعتداء أو الضرب من قبل أفراد الأمن.
إمرأة سودانية تشارك في الاحتجاجات
ونضيف إلى ذلك معطيات منظمة العفو الدولية -نقلتها رويترز– بأن العديد من الفتيات المشاركات في المظاهرات تم اقتيادهن للمراكز الأمنية للاعتقال، كما قالت ولاء عبر برنامج “شباب توك” الذي يبث عبر قناة دويتشه فيله بأنه طُلب منها التوقيع على تعهد بعدم المشاركة مرة أخرى في الاحتجاجات وحين رفضت، قاموا باحتجازها لمدة خمس ساعات.
ليست ولاء الوحيدة التي برز نجمها في الآونة الأخيرة، إذ قالت الناشطة إيمان سيف الدين أن الاحتجاجات في السودان ليست وليدة اللحظة بل هي تراكمات من سنين العنف والإبادة الجماعية في جنوب السودان، وأنها تشارك وتدعم الاحتجاجات بصفتها مواطنة سودانية لها الحق في عيش حياة كريمة.
يذكر أن إيمان غادرت السودان تاركة وراءها جامعة وطلاباً تشرف على تعليمهم، أتى قرارها بعد محاولة الأمن اعتقالها عام 2016 من منزلها بسبب توثيقها للإبادة الجماعية التي حدثت في إقليم دارفور، ما اضطرها اللجوء إلى ألمانيا متخذة منها موطناً لتكمل به مسيرتها.
بالنسبة لإيمان وولاء ولكثير من نساء السودان اللاتي يخاطرن بحياتهن وحرّيتهن الجسدية على الخطوط الأمامية لهذه الاحتجاجات، فإن تحقيق الحرية وإسقاط نظام البشير ليس مستحيلاً. فقد أثبتن على مرّ التاريخ دورهن الفعال في نيل الحرية واسترداد الحقوق المسلوبة وتحقيق جزء من العدالة المنشودة للإنسان السوداني وحتى يصبح تقرير مصير المرأة في يدها، بعيداً عن أي سلطة سياسية أو اجتماعية قامعة، ودون الانسلاخ عن السودان كإرث ثقافي وحضارة عريقة. فكيف ستنجح المرأة السودانية في كسر جدران الخزان واستعادة دورها القيادي الأصيل