قبل 13 عامًا، هيمنت التكهنات حول المدة التي قد يبقى فيها رئيس النظام السوري بشار الأسد في السلطة. بدا الأمر وكأنها بداية النهاية وأن سقوطه “مسألة وقت”، لكن عكس كل التوقعات حارب الأسد للحفاظ على قبضته بالمناطق المتبقية، بعدما قتل نظامه مئات الآلاف وأخفى قسرًا عشرات الآلاف وأخضع آلافًا آخرين للتعذيب، كما شرّد نصف السكان ودمّر وفتّت البلد من أجل مصلحته الخاصة وفي سبيل بقاء “سوريا الأسد”.
والآن لم ينجُ الأسد فحسب من عاصفة الأعوام الماضية، بل لا يزال متحديًا ويُظهر بشكل متزايد علامات الثقة، حتى في منعطف 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حين خشيَ أن ينجرف إلى مواجهة مع “إسرائيل” أو أن يطاح بنظامه، استثمر أوراقًا لمواجهة التحدي الذي هدد وجوده، إلى درجة أنه طمح باستعادة عافيته ورفع العقوبات.
في الواقع، يتصارع الأسد الآن مع تحديات متعددة وعلى جبهات مختلفة لحماية نظامه، فكيف يستفيد من الديناميكيات الحالية لتغيير توازن القوى في المنطقة من أجل إعادة تنظيمه استراتيجيًا، وكسب الوقت لإنهاء عزلته الدولية وإعادة بناء مشروعيته السياسية؟
اللعب بين المتناقضات
لا ترتبط العلاقة بين إيران ونظام الأسد بالجانب العسكري والسياسي فحسب، فعلى مدى السنوات الماضية غذّت إيران من نفوذها الشعبي في سوريا واخترقت القطاعات الاقتصادية والثقافية والدينية، وأما الجانب العسكري فلا تزال الكثير من ميليشيات الحرس الثوري تنتشر في عموم المناطق السورية. في حين سعت روسيا إلى الهيمنة السياسية والعسكرية، من خلال إعادة هيكلة مؤسسات النظام والاستفادة من هذا التوغل لتوسيع اختراقها الاقتصادي.
لقد كانت المساعدات العسكرية والاقتصادية من إيران وروسيا عاملًا حاسمًا ساعد النظام على تعزيز حكمه، ومن دونه لما كان الأسد هنا اليوم. ورغم كل ما يقال عن ضعف الأسد وعجزه، يرى المحللون أن الرعاية الروسية الإيرانية المزدوجة تركت للأسد هامشًا من النفوذ ومجالًا للمناورة، فعندما تكون لديه خلافات مع الروس يحاول التفلت منهم بالاقتراب أكثر من الإيرانيين، والعكس صحيح.
وبعد وقف إطلاق النار في سوريا بداية عام 2020، أجرى الأسد إعادة هيكلة هادئة في أجهزته العسكرية والاستخباراتية، ونفّذ تغييرات جديدة في الأجهزة الأمنية تجاوزت النفوذ الروسي والإيراني، وتحديدًا في الاستخبارات العسكرية، والمخابرات الجوية، وبعض قطاعات الجيش والاقتصاد.
وتشير هذه التغييرات إلى أن الأسد يلعب لعبة طويلة لضمان بقائه في السلطة، ورغم كل ما يقال عن تبعيته لإيران، لكنه يريد علاقة ندّية مع الإيرانيين، ويحاول اليوم إعادة بناء مركزيته عبر ترتيب العديد من المؤسسات، لا ينهي الأسد الدور الإيراني، لكن يحاول أن يعطيه دورًا محدودًا لا يؤثر على بنية النظام ومركزيته على حدّ تعبير الباحث عباس شريفة.
وفي خضمّ الحرب الحالية على غزة، اتخذ الأسد سلسلة من الخطوات لإعادة مشروعية حكمه دوليًا وإصلاح علاقاته مع أعدائه السابقين، فرغم الضربات التي شنّتها “إسرائيل” ضد أهداف داخل دمشق، بذل الأسد كل جهد ممكن للابتعاد عن هذه الحرب، وبينما انخرط آخرون من شركائه في محور المقاومة في فتح جبهات مع “إسرائيل”، كان الأسد العضو الوحيد الذي لم يهاجم “إسرائيل” أو يسمح بأي هجمات عليها من الأراضي التي يسيطر عليها.
ورغم اعتقاد المحللين أن تتحرك جبهة سوريا عقب هجوم السابع من أكتوبر، لأن فيها حوالي 70 ميليشيا مرتبطة بإيران، زاد الأسد من الضغط على الميليشيات الإيرانية، ولم يتفاعل أي تفاعل إيجابي مع “طوفان الأقصى”، لا على مستوى الخطاب الرسمي ولا على مستوى الجهد الإعلامي، ولا على مستوى جمع التبرعات ولا على مستوى المظاهرات، استراتيجيًا أصبح النظام في موقع آخر مختلف عن كل قوى المحور.
ورغم تحالفه مع “حزب الله” ودعمه المعلن ضد “إسرائيل”، بذل الأسد على مدار العام الماضي قصارى جهده لتجنّب التورط المباشر في جبهة لبنان. والواقع أن التوغل الإسرائيلي الأخير داخل الأراضي السورية أثار الكثير من التساؤلات والجدل، إذ عجز الأسد حتى عن الدفاع عن آخر ورقة تمنحه بعض الشرعية أمام أنصاره.
إن رفض الأسد مواجهة التوغلات الإسرائيلية المتكررة في الأراضي السورية، وخاصة في منطقة القنيطرة بالقرب من مرتفعات الجولان، يشير إلى رغبته في تجنب أي تصعيد، وأن البقاء بالنسبة إليه يتفوق على كل الاعتبارات الأخرى.
وتشير العديد من التقارير إلى أن الروس والسعوديين والإماراتيين حذّروا الأسد من عدم الانخراط في الحرب بأي شكل من الأشكال، وإلا فسيتمّ إسقاطه، وأخذ الأسد التحذيرات على محمل الجد. كذلك تشير عدة تقارير إلى أن “إسرائيل” حذّرت الأسد من أنه ما لم يتعاون معها في منع نقل الأسلحة من سوريا إلى لبنان، فسيلقى نفس مصير حسن نصر الله.
وخلال الشهور الماضية نفّذت “إسرائيل” مئات الغارات الجوية على سوريا في إطار ما تقول إنها حملة لمنع إيران من ترسيخ وجودها العسكري هناك، كما زاد نطاق وحجم الهجمات بشكل كبير في الأيام الأخيرة، في حين توعّد النظام بالردّ مرارًا دون أي تنفيذ على أرض الواقع.
وبحسب الصحفي المختص في الشأن الإسرائيلي خالد خليل، فإن الأسد يحاول بشكل مستمر إيصال رسائل ومؤشرات تؤكد وقوفه على الحياد وعدم انخراطه في الحرب، فحتى بعد استهداف “إسرائيل” مبنى القنصلية الإيرانية وسط دمشق، ظهر الأسد بعد أسبوع مع زوجته وهما يتناولان الإفطار في طرطوس، وبعد عدة أيام ظهر مجددًا داخل مطعم في باب شرقي، ليبعث برسالة واضحة أنه “خارج المحور وخارج هذه المعركة”.
لكن لماذا ابتعد الأسد بشكل مدروس عن محور المقاومة ووحدة الساحات، رغم أنه مدين ببقائه لطهران، كما يواجه حليفه “حزب الله” محاولة استئصال من قبل “إسرائيل”، خاصة مع استهداف غالبية قيادات الحزب، بما في ذلك نصر الله وهاشم صفي الدين وعشرات من كبار القادة الآخرين في لبنان وسوريا.
يرى كثير من المحللين أن الأسد يتميز “ببراغماتيته الماكرة المليئة بالانتهازية”، حيث يزن المكاسب والخسائر أكثر من الميليشيات مثل “حزب الله” والحوثيين، ويدرك أن حجم الخسائر التي يمكن أن يتكبّدها أو قد تتسبّب في سقوطه، أكبر من أي سيناريو قد يجلب له مكاسب مؤقتة. وبالتالي إن تحفظ النظام من الانضمام إلى تهديدات إيران ضد “إسرائيل” ينبع من شعور النظام بأنه ليس لديه ما يكسبه من التصعيد.
ويشتبه عدد من المحللين في أن استمرار “إسرائيل” في ضرب مواقع إيرانية أو تابعة لـ”حزب الله” بدقّة في سوريا، يتم بمساعدة من استخبارات النظام، حتى إن هناك اتهامات من كبار المسؤولين الإيرانيين بأن الذي أعطى الإحداثيات لـ”إسرائيل” لضرب الأهداف الإيرانية هو نظام الأسد.
ومع استمرار الحرب في غزة ولبنان، تبنّت “إسرائيل” موقفًا أكثر عدوانية ضد الوجود الإيراني وحزب الله في سوريا، تضرب الطائرات الإسرائيلية بانتظام وبإفلات من العقاب، لدرجة أنه في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 نشرت تصريحات منسوبة إلى علي أكبر ولايتي، مستشار الشؤون الدولية للمرشد الأعلى علي خامنئي، انتقد فيها نظام الأسد لعدم محاولته التصدي للحملة الجوية الإسرائيلية المكثفة في سوريا.
ولدرجة أن ولايتي اعتبر أن الأسد خان الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي وقفت إلى جانبه في أصعب الظروف، كما طالب الحكومة السورية وبشار الأسد بتقديم تفسير. لكن حتى الآن لا يوجد إجماع في طهران بشأن تورُّط نظام الأسد، كما نفت طهران أي أخبار بخصوص تدهور علاقاتها مع النظام السوري.
ومؤخرًا زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق، لمحاولة إقناع الأسد بالانخراط في عمليات محدودة ضد “إسرائيل”، لكن طلبه لم يجد آذانًا صاغية، حتى أن الفريق المصاحب للأسد رفض عقد مؤتمر صحفي مشترك مع عراقجي، ويعتقد الباحث السوري أيمن الدسوقي أن التصريحات الإيرانية الأخيرة بخصوص الأسد ونظامه، تؤشر إلى أن لديها مخاوف جدّية من نوايا الأسد ومحاولة إعادة تموضعه إقليميًا.
كما يعتقد البروفيسور إيال زيسر، نائب رئيس جامعة تل أبيب ورئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط المعاصر، أن الأسد لن يتخلّى بالكامل عن علاقته مع إيران، لكنه من ناحية أخرى لا يريد أن يجرّه الإيرانيون إلى مواجهة مع “إسرائيل”.
ورغم كل شيء قدّمه بشار للإسرائيليين من حيث النوايا والقدرة، فإنهم لا يثقون به، لكنهم في نفس الوقت يتخوفون من استبداله، ويعتقدون أن استدارته للمحور الإيراني هي استدارة تكتيكية، وربما يعود لفتح العلاقات مع إيران عندما يشعر بأي خطر وجودي.
ويتفق العديد من المحللين على أن بقاء الأسد في السلطة في حالته الضعيفة يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية بشكل أفضل بكثير من سيناريو الفوضى أو البديل، ويشير الباحث عباس شريفة إلى أن هناك بدائل كثيرة لنظام الأسد، لكن لا أحد من القوة الدولية يريد تغيير النظام في الوقت الحالي.
واللافت أن نظام الأسد لم يتجنّب المواجهة مع “إسرائيل” فحسب، بل اتخذ خطوات استثنائية لترضية “إسرائيل”، فقد امتنع عن إصدار بيانات الدعم المعتادة لـ”حزب الله” أو إيران، وذهب إلى حدّ طرد ممثلي حركة الحوثيين الموالية لإيران من دمشق، وأعاد السفارة اليمنية إلى الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية.
وبدعم روسي، أغلق النظام بعض مراكز التجنيد التي أنشأتها إيران لجلب المقاتلين إلى لبنان، كما امتنع عن نقل الأسلحة إلى “حزب الله”، وترك هذا الأمر للقوات الإيرانية فقط، وكذلك حاول تقييد حركة “حزب الله” والميليشيات الموالية لإيران في مرتفعات الجولان ومحافظات ريف دمشق وبادية حمص.
ورغم ذلك، أكّد الأسد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي على أن علاقته مع إيران “استراتيجية”. لكن كما أشار تشارلز ليستر من معهد الشرق الأوسط، هناك العديد من الأدلة على أن الأسد ينأى بنفسه عن حلفائه، ويشير ليستر إلى أن الصمت الاستراتيجي للأسد مجرد تكتيك، لتجنّب المواجهة المباشرة مع “إسرائيل” مع الحفاظ والاستمرار في جني فوائد تحالفاته مع طهران و”حزب الله”.
عجيب فعلًا:
لم تترك اسرائيل قياديًا ايرانيًا او فلسطينيًا او لبنانيًا في سوريا إلا واغتالته، لكنها لم تغتل مسؤولًا سوريًا واحدًا، مع العلم ان المخابرات السورية هي التي تستقبل المسؤولين الايرانيين والفلسطينيين واللبنانيين.
لماذا تغتال اسرائيل الضيوف ولا تغتال الذين يستضيفونهم في…
— فيصل القاسم (@kasimf) November 3, 2024
وضمن هذه المعادلة المعقدة وعلى أساس ما سبق، يواصل الأسد اللعب على المتناقضات من خلال تبني القضية الفلسطينية إعلاميًا، لأنها تعني له علاقه في مشروعية الحكم لكن دون المخاطرة بمواجهة مباشرة مع “إسرائيل”، وكذلك يحاول المناورة بين إيران وروسيا من أجل إعادة مركزيته.
ثم التجاوب مرة مع المطالب الإسرائيلية والأمريكية بخصوص تحجيم نفوذ إيران وأذرعها، ومرة أخرى من خلال طمأنة طهران والحفاظ على دعم روسيا، في حين ينخرط في الوقت نفسه مع العالم العربي. ومع ذلك، يبدو أن الأسد مقيدًا، فلا هو قادر على التخلي تمامًا عن تحالفاته السابقة ولا الالتزام الكامل بتحالفاته الجديدة.
استثمار الأوراق
رغم أن نظام الأسد عاجز ومكشوف استراتيجيًا ولا يمتلك أي مقومات للصمود ويعيش الآن أزمة اقتصادية، وكذلك روسيا مشغولة في أوكرانيا والإيرانيين خاضعين لعقوبات اقتصادية، لكن الأسد انتهازي بشكل غير عادي وبارع في استثمار الأوراق التي لديه من أجل تعزيز وجوده، إذ لا يلعب على المتناقضات فحسب، بل لا يزال يقدم نفسه باعتباره البديل الأقل سوءًا، والوكيل الوحيد الراغب والقوي بما يكفي لضمان أمن “إسرائيل”.
يستعمل نظام الأسد ورقة غزة من أجل التفاوض بملفات ليس لها علاقة بالحرب الدائرة، ويرى عباس شريفة أن الأسد يريد أن يرسل رسائل واضحة لـ”إسرائيل” أنه مع أي اتفاق سلام، ولن يكون جزءًا من أي محور معادٍ للإسرائيليين، بانتظار أن يقبض الثمن كإعادة تطبيع العلاقات وفكّ العزلة الدولية وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.
كما يعتقد المحلل السياسي الروسي ديميتري بريدجي، أن الأسد يستفيد من الحرب الإسرائيلية في لبنان من خلال إحياء نفوذه الإقليمي. كذلك يسعى الأسد إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وتحسين صورته إعلاميًا، من خلال الترحيب باللاجئين الفارّين من القصف الإسرائيلي على طول الحدود اللبنانية السورية، ويشير الخبراء إلى أن المساعدات الدولية التي تم جلبها للاجئين قد توفر للأسد فرصًا اقتصادية.
في الواقع، انعكست عملية “طوفان الأقصى” بالفائدة على نظام الأسد وخاصة استثماره في ورقة الميليشيات، إذ بات يشعر أنها أصبحت عبئًا عليه ويريد التخلص منها، ويعتقد عباس شريفة أن النظام حقق من ورقة الحرب على غزة عدة مصالح، منها تخفيف الضغط والاستئثار الإيراني على نظامه، كما جنّب نفسه التوتر مع الإسرائيليين، وحقق حلمه من خلال العلاقات والتطبيع وربما التنسيق الأمني أيضًا في تبادل المعلومات مع المنظومة الأمنية في المنطقة ومع “إسرائيل” بشكل أساسي، لكن بطريقة غير مباشرة.
ربما كان من المتوقع أن يفعل الأسد المزيد لدعم حلفائه، على الأقل كعلامة على الامتنان، لكن النظام متآكل اقتصاديًا وعسكريًا وإداريًا، ومنظومة الإدارة والتكنوقراط أصبحت أيضًا متآكله وغير قادرة على تقديم خدمات للمواطنين، يفتقر النظام إلى الشرعية والوسائل اللازمة لإدارة البلاد بشكل فعّال، وكل ما يحتاج إليه في الوقت الحالي لإدامة حكمه غير موجود عند محور المقاومة، لذلك النظام مضطر استراتيجيًا وبراغماتيًا للاستفادة والاستثمار في الحرب على غزة ولبنان.
واللافت أنه بالفترة الأخيرة قلّل عدد متزايد من المسؤولين الغربيين من أهمية سقوط الأسد، وبدلًا من ذلك تحدثوا عن “تصحيح سلوكه”، وسبب ذلك موقف النظام من الحرب في غزة، واستخدام الأسد الإرهاب كورقة مساومة ووسيلة ضغط في تعاملاته مع القوى الغربية، وإظهار أن نظامه لديه هدف مشترك مع الغرب.
ويمكننا أن نلاحظ أن الأسد يواصل تكرار هذه الورقة في مجمل خطابه حتى يومنا هذا. والواقع أن هذه الرسالة حتى الآن تلقى صدى لدى المجتمع الدولي، ولا تريد أي قوة عالمية حاليًا الإطاحة بالأسد.
على المستوى الخارجي، يقوم بعض الفاعلين الإقليميين بتسويق موقف النظام من الحرب باعتبارها دليلًا آخر على سلامة نهج تعويمه، ففي يوليو/ تموز الماضي دعت 7 دول في الاتحاد الأوروبي (النمسا وإيطاليا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا واليونان وكرواتيا وقبرص) إلى مراجعة استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا.
وقبل عدة أيام سعت بعض دول الاتحاد الأوروبي بقيادة إيطاليا إلى تطبيع العلاقات مع الأسد وإعادته إلى الواجهة، وحاليًا تضغط رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لإعادة العلاقات مع النظام، وقالت ميلوني يوم الثلاثاء الماضي أمام مجلس الشيوخ الإيطالي قبل اجتماعها مع زعماء الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع: “من الضروري مراجعة استراتيجية الاتحاد الأوروبي بشأن سوريا”.
ومؤخرًا تمّ افتتاح القنصلية السورية في روما عقب مساعي إيطاليا للتقارب مع النظام السوري، كما قررت إيطاليا تعيين سفير لها في سوريا بعد أن سحبت سفارتها من دمشق منذ عام 2012، وعلّقت أنشطتها الدبلوماسية في سوريا بسبب استخدام النظام العنف ضد المواطنين، وهو أول تحرك أوروبي لإعادة تقييم العلاقات والتواصل مع النظام.
في الواقع، تبرز ميلوني كزعيمة لفصيل مكون من 8 أعضاء داخل الاتحاد الأوروبي، يتحدى سياسة “اللاءات الثلاث” التي تبناها الاتحاد الأوروبي بشأن سوريا: لا لرفع العقوبات، ولا لتطبيع العلاقات، ولا لإعادة الإعمار.
وعلاوة على ذلك، مهّدت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة، غير بيدرسن، حول الجهود الإنسانية التي يبذلها النظام السوري تجاه اللاجئين، إلى جانب قرار الرئيس بايدن بعرقلة تشريع التطبيع المناهض للأسد وتبادل إدارة بايدن خطوات إيجابية مع النظام، الطريق للجهود التي تقودها إيطاليا لاستعادة العلاقات الأوروبية السورية.
إن تدفق حوالي 500 ألف شخص من لبنان إلى سوريا بسبب الهجمات الإسرائيلية ومحاولة النظام الترحيب باللاجئين العائدين قد حسّن من صورة الأسد، حيث يرى بعض المسؤولين الأوروبيين أن في هذا إشارة إلى أن النظام أصبح أكثر استعدادًا للسماح للسوريين بالعودة، ومع ذلك وصفت عدة تقارير أن ما قام به الأسد لا يخلو من كونه دعاية لتحسين صورته.
وأصدرت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نداءً عاجلًا لجمع 324 مليون دولار لدعم هؤلاء اللاجئين، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن صندوق طوارئ بقيمة 500 ألف يورو.
وفي حين أن هذا التمويل يهدف إلى مساعدة السكان النازحين، إلا أن هناك مخاوف من تحويل الكثير منه إلى الدائرة النخبوية للأسد، كما حدث في الماضي، حيث كشف تحقيق أُجري عام 2022 أن ما يقرب من 25% من أموال الأمم المتحدة المخصصة لسوريا بين عامي 2019 و2020 ذهبت إلى شركات مملوكة لأفراد مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالأسد.
في الواقع، يمرّ الاتحاد الأوروبي بنقطة تحول في استراتيجيته وتحول في اللهجة تجاه الأسد، ومع تغير الموقف الإقليمي والعالمي تدريجيًا تجاه نظام الأسد، عادت المناقشات حول إرسال مبعوث للاتحاد الأوروبي إلى سوريا من أجل استئناف العلاقات الدبلوماسية مع النظام، وهو ما يمثّل تحولًا كبيرًا عن سياسة العقوبات والعزلة الدبلوماسية التي انتهجها الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة.
عامل الوقت
حسب خبراء وسياسيين، استفاد الأسد من تلكُّؤ الغرب في استخدام القوة ضده، مقابل دعم عسكري حاسم من إيران ثم روسيا، يضاف إلى ذلك الصبر واستثمار عامل الوقت، وهي الصفة المشهود بها لعائلة الأسد التي تحكم سوريا منذ بداية السبعينيات.
إن الأزمة التي اندلعت في 21 أغسطس/ آب 2013 بسبب استخدام النظام للأسلحة الكيميائية تشكّل مثالًا جيدًا على هذه الديناميكية، للحظة وجيزة بدا الأمر وكأن مصير الأسد قد حُسم، لكنه نجح في إنقاذ نفسه وكسب وقتًا ثمينًا لمعركته ضد أعدائه في الداخل.
فعندما لم تردّ إدارة أوباما عسكريًا على الهجوم الكيماوي في الغوطة في أغسطس/ آب 2013، استنتج الأسد أن الولايات المتحدة قررت أن إبعاده عن السلطة سيكون أسوأ من بقائه. لقد وافق الأسد على تفكيك ترسانته من الأسلحة الكيماوية التي كان قد نفى وجودها في السابق، لكنه كان يتمتع بالذكاء السياسي الذي جعله يدرك أن هذه الصفقة أعادته إلى اللعبة في وقت خطير.
ثم في مارس/ آذار 2017، قالت السفيرة الأمربكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، إن التخلص من الأسد لم يعد المحور الرئيسي للسياسة الأميركية. وكذلك قال رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون: “إن الأسد يمكن أن يبقى كجزء من اتفاق سلام”.
مدير الاستخبارات الوطنية الذي عينه ترامب – يرفض مرارًا وتكرارًا وصف بشار الأسد بأنه “عدو” أو “خصم” أو “تهديد” للولايات المتحدة. و يقول بدلًا من ذلك،” يبدو أنه يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار “مصالح” الأسد وما إذا كانت “تتوافق” مع مصالحنا. pic.twitter.com/tIZ3ub7aby
— ABBAS عباس شريفة (@abbas_sharifeh) November 14, 2024
في الحقيقة، أتقن نظام الأسد فن المماطلة للتغلب على خصومه، وعلاوة على ذلك إن استعداد الأنظمة العربية للتطبيع معه أنتج شعورًا قويًا بالانتصار لدى الأسد، وأقنعه بإمكانية الحصول على الكثير. وتعزز موقفه من خلال إعادة جامعة الدول العربية قبول سوريا كعضو في مايو/ أيار 2023، واليوم تعتقد بعض الدول العربية أن بقاء الأسد ضروري، وهي مستعدة لمساعدته على استعادة طريقه نحو الشرعية الدولية، في حين أن كل هذا في حد ذاته لن يخرج سوريا من مأزقها الحالي.