“مفيش وراهم غيرنا، بقينا إحنا مصدر الدخل الوحيد لهم، الواحد مبقاش عارف يلاقيها منين ولا منين، محل لا تتجاوز سعته 20 مترًا وطالبين ضرائب معرفش أجيبها منين، أنا لو ببيع مخدرات مش هلاحق عليهم”، بصوت يكسوه الأنين والانكسار، أطلق “أحمد. س” صاحب أحد المحال التجارية بمحافظة الشرقية (شرق القاهرة) صرخاته منددًا بما أسماه “أتوبيس الضرائب”.
“أتوبيس الضرائب”، حملة حكومية ممنهجة تنظمها وزارة المالية المصرية للكشف عن المحال التجارية المتهربة ضريبيًا أو غير المسجلة في مصلحة الضرائب، الحملة تأتي في صورة “أتوبيس” يقل موظفين ومحققين من المصلحة للمرور على جميع المنشآت في مختلف المحافظات، لمراجعة أوراقها وتحرير مخالفات للمتقاعسين.
الحملة أثارت حالة من الهلع والخوف لدى الغالبية العظمى من التجار، في ظل اتهامات الأخير بالمبالغة وخروج التحقيقات عن إطارها القانوني، الأمر الذي دفع نسبة كبيرة منهم إلى الاعتراض عبر غلق المحال لعدة أيام، ما تسبب في إحداث حالة من الشلل التام في بعض المحافظات، وعليه جاءت القرارات بوقف الحملة في بعض المناطق، فهل ينجح أسلوب العصيان المدني في وأد مثل هذه التحركات؟
إملاءات صندوق النقد
في نوفمبر 2016 أعلن صندوق النقد الدولي موافقته على منح مصر قرض بقيمة 12 مليار دولار على عدد من الدفعات، الموافقة جاءت بعد سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية تحت مسمى “الإصلاح الاقتصادي” وعلى رأسها قانون القيمة المضافة الذي يستهدف زيادة الإيرادات الحكومية من خلال الضرائب.
القيمة المضافة هي إحدى أنواع الضرائب غير المباشرة التي تفرضها الدولة على السلع والمنتجات والخدمات على أن يتحملها المستهلك دون غيره في نهاية الأمر، وتختلف اختلافًا كليًا عن الضرائب المباشرة الأخرى كتلك المحددة على الدخول والثروات سواء كانت للأفراد أم الكيانات.
عمل أجهزة مكافحة التهرب الضريبي في تلك الحملات الرقابية اقتصر على تحرير محضر ضبط لعدم التسجيل في ضريبة القيمة المضافة، وهو بمثابة إنذار لهذه المنشآت لحثها على سرعة التسجيل
هذا النوع من الضرائب يتعارض وفق بعض الجهات الحقوقية مع أساسيات العدالة الاجتماعية، إذ تفرض الدولة الضرائب على الجميع بشكلٍ متساوٍ رغم اختلاف قدرتهم على الدفع، وهو عكس نظام الضرائب التصاعدية التي تقوم على رفع نسبة وقيمة الضريبة كلما ارتفع الدخل.
الملفت للنظر أن العائدات من الضرائب غير المباشرة تعادل ثلاثة أضعاف عائدات الضرائب المباشرة، وفق بيانات البنك المركزي في الفترة بين عامي 2006 و2015 مثلت الضرائب غير المباشرة من ضرائب مبيعات وقيمة مضافة ودمغة وجمارك نحو 45% من إجمالي حصيلة الإيرادات الضريبية للحكومة المصرية، في حين مثلت الضرائب المباشرة على الدخول والأرباح نحو 11% من إجمالي الإيرادات الضريبية لنفس الفترة.
أتوبيس الضرائب
نجاح نسبي
الحملة وفق مسؤولي وزارة المالية المصرية حققت نجاحًا نسبيًا في تحقيق أهدافها، فوفق عبد العظيم حسين رئيس مصلحة الضرائب، تم تسجيل عدد كبير من المحال التجارية والمنشآت الصناعية والخدمية في ضريبة القيمة المضافة، بعد أن تم إثبات تهربها من التسجيل.
حسين أشار إلى أن الحملة لم تغلق أي منشأة أو محل تجاري، واكتفت بتحرير محاضر تهرب والمطالبة بسرعة التسجيل، منوهًا أنها كشفت عن ارتفاع نسب التهرب من التسجيل في ضريبة القيمة المضافة وصلت في بعض الأنشطة لنحو 55% ممن ينطبق على أعمالهم حد التسجيل، مما يضع الملتزمين بتحصيل الضرائب في منافسة غير عادلة مع هؤلاء المتهربين، على حد قوله.
عشرات التجار في عدد من المدن التي جابها أتوبيس الضرائب قرروا غلق منشآتهم وتعليق العمل لحين وقف الحملة بصورة كلية، وهو ما حول الكثير من المناطق إلى مدن أشباح تفتقد لأدنى مقومات الحياة
وفي الإطار ذاته أكد رضا عبد القادر نائب رئيس مصلحة الضرائب المصرية عدم غلق الضرائب لأي محال، موضحًا أن عمل أجهزة مكافحة التهرب الضريبي في تلك الحملات الرقابية اقتصر على تحرير محضر ضبط لعدم التسجيل في ضريبة القيمة المضافة، وهو بمثابة إنذار لهذه المنشآت لحثها على سرعة التسجيل ومن ثم الالتزام بتحصيل ضريبة القيمة المستحقة على مبيعاتها من السلع أو على ما تقدمه من خدمات خاضعة للضريبة وتوريدها إلى مصلحة الضرائب المصرية.
فيما كشف وزير المالية المصري الدكتور محمد معيط عن منح مهلة لمدة 5 أسابيع لإتاحة الفرصة أمام المخاطبين بقانون الضريبة على القيمة المضافة للتسجيل طواعية، وذلك قبيل اتخاذ أي إجراءات بشأنها، استجابة لضغوط الشارع بعد تصاعد نبرات التنديد والسخط على الحملة وتجاوزها للدور المنوط بها.
وزير المالية المصري محمد معيط
العصيان المدني
حالة من الشلل التام أصابت العديد من المحافظات المصرية في أعقاب جولة “أتوبيس الضرائب” لا سيما في محافظات دمياط والشرقية والدقهلية، حيث لجأ أصحاب المحال والمنشآت إلى غلقها بالكامل تجنبًا للوقوع كـ”ضحايا” في أيدي مسؤولي الضرائب بحسب وصف “شريف. ع”.
شريف وهو صاحب معرض سيارات بالشرقية أشار في حديثه لـ”نون بوست” أن موظفي الهيئة تدخلوا في أمور لا علاقة لهم بها، كملفات تأمين العاملين بالمعرض وسجلات المصروفات الخاصة به، هذا بخلاف الحديث عن أمور أخرى لا علاقة لهم بها، كالدهانات المستخدمة وأنواعها وثمنها، مضيفًا “ملهمش فيها أصلاً”.
فيما أشار “مصطفى. ض” صاحب محل موبيليا (أثاث) في دمياط إلى أن الشارع الذي يعمل به والمكون من قرابة 15 محلاً ومصنعًا صغيرًا قد أغلق بالكامل مع قدوم “الأتوبيس”، كاشفًا في تصريحاته لـ”نون بوست” “عاوزين يخربوا بيتنا، مش كفاية إن العملية نايمة ومفيش شغل”.
وأضاف أن بعض موظفي الضرائب يبتزون التجار بهدف الحصول على تسهيلات معينة، مادية كانت أو معنوية، لافتًا إلى أنه يعطي بصورة دورية موظف الضرائب الخاصة بالدائرة التي يعمل بها راتبًا شهريًا مقابل صمته والابتعاد عنه، وإلا فسيتحول محله إلى قبلة لموظفي الهيئة ليل نهار، وغرامات لا قبل لهم بها.
عشرات التجار في عدد من المدن التي جابها أتوبيس الضرائب قرروا غلق منشآتهم وتعليق العمل لحين وقف الحملة بصورة كلية، وهو ما حول الكثير من المناطق إلى مدن أشباح تفتقد لأدنى مقومات الحياة، الخطوة التي أثارت قلق المسؤولين سواء في تلك المحافظات أم داخل أروقة وزارة المالية، ومن ثم كان رد الفعل.
بلغت الحصيلة الضريبية الفعلية 566.140 مليار جنيه بزيادة 28.2 مليار جنيه عن الربط المستهدف بالموازنة العامة لذلك العام
وقف الحملة
لم يتحمل المسؤولون ضغط العصيان المدني كثيرًا، خوفًا من تداعياته على الحالة المعيشية والاقتصادية فضلاً عن الأمنية على المناطق التي لجأ فيها تجارها إلى هذه الإستراتيجية الجديدة، إذ قرر الدكتور كمال شاروبيم محافظ الدقهلية، وقف جميع حملات الضرائب على المحلات التجارية، في قرى ومدن ومراكز المحافظة كافة.
المحافظ وخلال اجتماع المجلس التنفيذي للمحافظة، أمس، بحضور رؤساء المراكز والمدن والأحياء ومديري المديرات أشار إلى: “أنهم اختاروا وقتًا غير مناسب وكثير من المحلات بدأت تقفل، وحدثت مشكلة”، مضيفًا أنه تواصل مع وزير المالية واتفق معه على وقف هذه الحملة، موجهًا رؤساء المدن والمراكز والأحياء بحصر كل المحلات بمختلف أنشطتها لمعرفه غير المرخص منها وتوجيه إنذار لهذه المحلات لترخيصها حتى لا يتم إغلاقها فورًا.
وفي السياق ذاته أعلن أسامة سلطان رئيس الغرفة التجارية بمحافظة الشرقية، موافقة وزير المالية على إيقاف الحملات التي تنفذها حاليًّا مصلحة الضرائب على المحال التجارية بمراكز المحافظة، قائلاً “القائمون على الحملات التي خرجت من مصلحة الضرائب تعاملوا بعشوائية شديدة وتدخلوا في أمور لا تعني عملهم الضريبي بسؤال أصحاب المحلات عن وسائل الدفاع المدني وكذلك الأرقام التأمينية للعاملين بالمحال وغيرها من الأمور المتعلقة بالنشاط التجاري”.
وأشار إلى أن مجلس إدارة الغرفة شكل لجنة للوقوف على الوضع بالشارع التجاري، وتوصلت إلى أن هناك عددًا من الإجراءات التعسفية قامت بها اللجان المعنية بالتفتيش نتج عنها تزايد معدل الشائعات داخل الشارع التجاري واتجاه أكثر من 90% من المحال التجارية لإغلاق أبوابها.
غلق للمحال التجارية اعتراضًا على حملة الضرائب
زيادة إيرادات الضرائب
تشكل الضرائب العصب الأساسي للاقتصاد المصري خلال السنوات الماضية، تعزز الأمر بصورة أكبر في ضوء خطة الإصلاح التي قدمتها الحكومة لصندوق النقد للموافقة على القرض المطلوب، ففي إبريل الماضي أوضح وزير المالية السابق عمرو الجارحي، في حديثه، أن الحساب الختامي للعام المالي 2016/ 2017 يبين أن الإيرادات بلغت 660 مليار جنيه، منها 462 مليارًا في صورة ضرائب.
الوزير أضاف أن الحكومة تستهدف زيادة إيرادات الضرائب 32%، ما يعني وصولها لـ600 مليار جنيه في العام 2018، و670 مليارًا في العام الحاليّ، موضحًا أن هذه الزيادة لن تكون بسبب زيادة نسبة الضريبة، وإنما بسبب إصلاح المنظومة، والهدف الوصول بالإيرادات الضريبية خلال 5 سنوات لأن تكون 18% من الناتج المحلي.
وفي يوليو الماضي، أعلن وزير المالية الجديد محمد معيط عن تحقيق مصلحة الضرائب أكبر حصيلة ضريبية خلال العام المالي “2017 – 2018” في سابقة هي الأولى من نوعها على مدى السنوات الماضية سواء في الضريبة على الدخل أم الضريبة على القيمة المضافة، إذ بلغت الحصيلة الضريبية الفعلية 566.140 مليار جنيه بزيادة 28.2 مليار جنيه عن الربط المستهدف بالموازنة العامة لذلك العام والبالغ 537.9 مليار جنيه وبزيادة 157 مليارًا عن المحقق في العام المالي “2016-2017” والبالغ 409 مليارات جنيه.
معيط في حديثه أرجع هذه الطفرة الهائلة في إيرادات الضرائب إلى ارتفاع حصيلة الضرائب على الدخل بنحو 78 مليار جنيه لتحقق 304.497 مليار جنيه، وارتفاع حصيلة الضريبة على القيمة المضافة بقيمة 79 مليار جنيه لتسجل 261.643 مليار جنيه لترتفع حصيلة الضرائب دون الجهات السيادية نحو 414.166 مليار جنيه بزيادة 114 مليارًا عن العام المالي “2016 -2017”.
حالة من السخط سيطرت على أجواء الشارع المصري في أعقاب حملة الضرائب التي تشنها وزارة المالية استجابة لإملاءات صندوق النقد، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء للدفاع الشرعي عن النفس وفق أساليب يقرها القانون والدستور، على رأسها العصيان المدني.. فهل تنجح تلك الإستراتيجية في كبح جماح الأيادي العابثة بجيوب المصريين؟