تتزايد الضغوطات المسلطة على الرئيس الجزائري “المريض” عبد العزيز بوتفليقة وجماعته، يومًا بعد يوم، من جهات عدة في البلاد، ما من شأنه وفق العديد من الجزائريين أن يسرع في إعلان بوتفليقة عدوله عن ترشحه لولاية رئاسية خامسة.
حرب التسريبات
خلال الأيام الأخيرة، تتالت التسريبات التي لا تخدم بوتفليقة والدائرين به، في إشارة لوجود مجموعة “نافذة” في البلاد، تسعى لإبعاد بوتفليقة الذي جاء إلى السلطة سنة 1999، عن قصر المرادية وفسح المجال أمامها للانفراد بحكم البلاد النفطي.
آخر هذه التسريبات ما أدلى به مصدر أمني جزائري للشبكة الإخبارية “يورونيوز“، مساء أمس الجمعة، حيث قال المصدر إن طائرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عادت من جنيف إلى الجزائر من دون أن يكون الرئيس بوتفليقة على متنها، وإلى الآن لم تشر وسائل الإعلام الرسمية والخاصة في الجزائر إلى هذا الخبر.
وقال مصدر رسمي ثانٍ في الحكومة الجزائرية ليورونيوز أيضًا، إن الرئيس بوتفليقة استدعى أول أمس الخميس مستشاره الدبلوماسي ووزير الخارجية السابق رمطان لعمامرة إلى جنيف للتفاوض بشأن إمكانية تعيين الأخير رئيسًا لوزراء البلاد.
وكان لعمامرة قد التحق بقصر المرادية في منصب مستشار لبوتفليقة، قبل أسبوعين من الآن، وشغل سابقًا منصب وزير الخارجية في الفترة بين 2013-2015، ثم وزير الدولة ووزير الخارجية والتعاون الدولي من 2015 إلى 2017، ومنصب الأمين العام للخارجية الجزائرية في الفترة ما بين 2005-2007، كما كان سفيرًا في واشنطن وإثيوبيا وجيبوتي، وشغل أيضًا منصب مفوض للسلم والأمن للاتحاد الإفريقي في الفترة بين 2008-2013.
الاحتجاجات التي تعرف مختلف مدن البلاد، انطلقت في البداية عبر دعوات مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي
نفس المصدر قال إن قائد الجيش الجزائري الفريق قائد صالح، طلب من الرئيس بوتفليقة البقاء في جنيف حتى يوم الـ3 من مارس/آذار وهو آخر يوم لتقديم أوراق الترشح الرسمية، ويذكر أن بوتفليقة موجود في جنيف منذ الأحد الماضي، لإجراء فحوص طبية روتينية، وفق ما أعلنته الرئاسة في بيان، وكان قد أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 18 من أبريل/نيسان.
وكان رئيس الوزراء السابق ومدير حملة بوتفليقة الانتخابية عبد المالك سلال، أكد أن ملف ترشح الرئيس سيُقدم رسميًا اليوم الأحد، وهو الموعد النهائي لتقديم طلبات الترشح لانتخابات الرئاسة بالمجلس الدستوري.
لم تتوقف التسريبات عند هذا الحد، ففي اليومين الماضيين، صدر تسريبان، واحد من فرنسا والثاني من داخل الجزائر، ويحمل الاثنان معًا رسائل سلبية عن بوتفليقة ومعسكره، بما يزيد من حالة الرفض الواسعة للعهدة الخامسة، ويدعم وجهة نظر المعارضين لها بقرائن جديدة.
التسريب الأول يخص ما نشرته مجلة “لوبس” الفرنسية من وثائق سرية لأجهزة الاستخبارات المحلية، تعود من خلالها إلى السنوات الأولى لبزوغ نجم بوتفليقة في السياسة، وكيف استطاع الوصول إلى رتبة الرجل الثاني في النظام الجزائري، ونُسب التسريب الثاني إلى مكالمة هاتفية بين عبد المالك سلال مدير الحملة الانتخابية لبوتفليقة، مع علي حداد رجل الأعمال المقرب من النظام، تضمنت جزءًا من خططهما لتجاوز حالة الاحتجاجات، وتملك الجهات التي سربت هذه التسريبات نفوذًا كبيرًا في الدولتين الفرنسية والجزائرية.
انتشار واسع للاحتجاجات
ليست التسريبات وحدها ما يزيد من تضييق الخناق على بوتفليقة وجماعته، فانتشار الاحتجاجات أيضًا له دور كبير في ذلك، فقد شهدت الجزائر أمس الجمعة مظاهرات هي الأضخم منذ سنوات ضد ترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة.
وقدرت مصادر أمنية جزائرية أعداد المتظاهرين الذين خرجوا في العاصمة وحدها بعشرات الآلاف، فيما قدر العديد من الناشطين المتظاهرين بمئات الآلاف في مختلف أنحاء الجزائر، وهو الرقم الأضخم في تاريخ البلاد المعاصر.
وخرجت المظاهرات في عدة مدن أبرزها العاصمة وعنابة والبليدة وسطيف ووهران وغرداية وتيزي وزو وبجاية وسكيكدة وبسكرة والبويرة والمسيلة وباتنة والمدية وتيارت وسيدي بلعباس، وكانت المشاركة متفاوتة في هذه التجمعات.
ورغم قرار منع التظاهر الساري منذ العام 2001 في العاصمة الجزائرية، وتحذير رئيس الحكومة أحمد أويحيى من تكرار “سيناريو سورية” في بلاده جراء التظاهرات التي ترفض ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، فقد شهدت هذه المدينة المظاهرة الأكبر في البلاد، وحاول المتظاهرون التقدم نحو القصر الرئاسي ومقر رئاسة الحكومة في المرادية، إلا أن قوات الأمن منعتهم من ذلك باستعمال الغاز المسيل للدموع، وأسفرت الصدامات عن إصابة 56 شرطيًا وسبعة محتجين، كما تم توقيف 45 شخصًا، وفق الشرطة.
اتسمت مظاهرة الجمعة الثانية بالسلمية
شارك في مظاهرات العاصمة واحدة من أشهر أبطال حرب التحرير ضد فرنسا في الفترة من 1954 وحتى 1962 وهي جميلة بوحيرد التي تبلغ من العمر الآن 83 عامًا، وشخصيات معارضة على غرار رئيس الوزراء الأسبق علي بن فليس، ورئيس جبهة العدالة والتنمية عبد الله جاب الله.
يذكر أن الاحتجاجات التي تعرفها مختلف مدن البلاد، انطلقت في البداية عبر دعوات مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى دعوات أخرى أطلقتها حركة “مواطنة” وحركات وأحزاب المعارضة الرافضة لإعادة ترشح بوتفليقة، قبل أن تخرج للعلن وتنتشر في شوارع البلاد المختلفة.
واتسمت المسيرات التي انطلقت خلال الأسبوع الماضي، بالسلمية وشارك فيها مختلف طبقات المجتمع، وسط انتشار أمني غير مسبوق في العديد من المناطق خاصة الحساسة منها، خشية انفلات الوضع وحدوث أعمال شغب وعنف من بعض الأطراف.
وسائل الإعلام تدخل على الخط
ضمن الضغوطات أيضًا، نجد التغطية الإعلامية للاحتجاجات، فللمرة الأولى منذ بدء حركة الاحتجاج في الجزائر، افتتح التليفزيون الوطني الجزائري، أمس الجمعة، نشرته الإخبارية بمشاهد لتظاهرات في العاصمة الجزائرية، لكن دون الإشارة إلى أن المحتجين يطالبون برفض ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة.
وأوضح التليفزيون أن المتظاهرين الذين نزلوا بكثافة للشارع في العاصمة وباقي مدن البلاد، طالبوا بـ”تغيير سلمي”، وكان صحافيو وسائل الإعلام العامة (الإذاعة والتليفزيون) قد نددوا مؤخرًا علنًا بالتضييق المفروض من رؤسائهم على تغطية الأحداث المتعلقة بالاحتجاجات غير المسبوقة في البلاد.
كما نقلت وكالة الأنباء الرسمية في الجزائر، احتجاجات أمس، وكتب “خرج آلاف المواطنين في الجزائر العاصمة وعدة ولايات من الوطن بعد ظهر اليوم (أمس) الجمعة في مسيرات سلمية تطالب بالتغيير وبإصلاحات عميقة في تسيير شؤون البلاد، حسب ما لوحظ بعين المكان”.
ونقلت العديد من الوسائل الإعلام العمومية والخاصة، منها الإذاعة الوطنية، هذا الخبر عن وكالة الأنباء الرسمية، وهو ما يؤكد تغيير توجه الإعلام بخصوص ما يحصل في البلاد، يشار إلى أن وسائل الإعلام العامة كانت قد عتمت تمامًا في 22 من فبراير/شباط الحاليّ على أول التظاهرات الكبيرة في البلاد، وخصوصًا في العاصمة التي يحظر القانون نظريًا فيها التظاهر منذ 2001.
إلى حدود سنة 2016، كانت دائرة الاستعلام والأمن مسؤولة عن إدارة وتنظيم السلطة السياسية والمالية في الجزائر
وبثت قناتان خاصتان يملكهما رجلا أعمال عرفا بقربهما من النظام، الجمعة مشاهد الاحتجاجات، وهو ما لم تفعلاه الأسبوع الماضي، وبثت قناة “دزاير نيوز” التي يملكها علي حداد وهو رئيس مجلس إدارة شركة أشغال عامة ورئيس منظمة أصحاب العمل، مشاهد للاحتجاجات التي قالت إن عدد المشاركين فيها بلغ “مليون شخص” في كامل أنحاء البلاد.
من جهتها بثت قناة النهار وهي ملك أكبر مجموعة إعلام خاصة في الجزائر، مشاهد لاحتجاجات الجمعة خصوصًا لمواجهات نهاية النهار بين شرطيين وشبان في العاصمة، وكان التليفزيون العام قد أشار الأربعاء في منتصف نشرته إلى مسيرات ضمت آلاف الطلبة، دون الإشارة إلى أنها احتجاجًا على ترشح بوتفليقة لولاية خامسة.
ويؤشر هذا النقل الإعلامي للاحتجاجات بعد تعتيم كبير مورس في الأيام الماضية، وجود تغيير ما سيحصل في القريب العاجل في أعلى هرم السلطة، ذلك أن السلطات الجزائرية منذ توليها حكم البلاد، تعرف بإحكام سيطرتها على وسائل الإعلام الخاصة والعامة في الجزائر، ولا سبيل لأي مؤسسة إعلامية أن تتكلم خارج ما يريد النظام، وخارج الرؤية التي يريد توجيهها إلى الداخل والخارج.
أي دور للمخابرات السابقة؟
رغم الطابع المفاجئ الذي اتسمت به هذه التحركات الاحتجاجية، فإن العديد من المقربين من المحيط الرئاسي، يؤكدون وقوف أطراف داخلية وخارجية وراء هذه التحركات الأخيرة، وما رفقها من تسريبات وتغطية إعلامية كبيرة في البلاد على عكس العادة.
ويرى مقربون من بوتفليقة، أن للمخابرات القديمة أي جماعة الجنرال توفيق، الدور البارز في هذه التحركات، ويتسم هؤلاء عادة بدقة كبيرة في التنظيم والعمل السري، وسرعة في الانتشار لما لهم من تأثير على دواليب الدولة، فعناصر المخابرات موجودة في كل مرفق من مرافق الحياة في الجزائر.
يسعى الجنرال توفيق إلى العودة مجددًا للساحة السياسية في البلاد
إلى حدود سنة 2016، كانت دائرة الاستعلام والأمن مسؤولة عن إدارة وتنظيم السلطة السياسية والمالية في الجزائر، وتشكل هذه الدائرة جهاز المخابرات الجزائري، وهي تضم هيكلاً مترامي الأطراف يقوده الجنرال توفيق، وبعد حل هذا الجهاز الاستخباراتي، بات جزء كبير من السلطة في يد الفريق قائد صالح، إلا أنه لم يتمكن من حل كامل الهيكل، وهو ما يفسر رجوعه بقوة.
وتسعى جماعة المخابرات القديمة، وفق موالي لبوتفليقة، إلى استعادة حكم البلاد وإحكام قبضتهم على السلطة التي استبعدوا منها منذ قرابة الثلاث سنوات، واستبعاد كل المناوئين لهم خاصة الفريق قائد صالح الذي يعتبر عدوهم الكبير.
هذه التطورات الميدانية الكبيرة في الجزائر، من شأنها أن تحمل معها في قادم الساعات، تغيرات كبرى ستؤثر في مستقبل البلاد، ذلك أن الوضع الآن حرج للغاية، ولا يمكن لأحد التنبؤ بما يمكن أن يحصل في بلد المليون شهيد.