ترجمة وتحرير: نون بوست
أصبحت مثل هذه المشاهد مألوفة جدًا لدرجة أنها تمر مرور الكرام: مجموعة من الرجال يحملون أكياس الطحين تستهدفهم غارة إسرائيلية، في مجزرة هدفها الوحيد هو فرض المجاعة الجماعية.
إن نشر صور المذبحة يعني المخاطرة بحظر المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، لذا سأصف المشهد بالكلمات.
أكياس طحين وأشلاء بشرية تمتد على مساحة كبيرة شمال رفح؛ حيث استهدفت غارة جوية إسرائيلية مركبة “توك توك” بالقرب من نقطة توزيع مساعدات في منطقة المعراج.
سبع جثث في أوضاع مختلفة، والعدد الإجمالي للقتلى 11 شخصًا. في المقدمة، جثة رجل فوق جثة أخرى، وخطوط حمراء من الدماء التي نزفت من دماغ أحدهم.
خلفه جثة رجل آخر وسط حمام من الدم، ملابسه مغطاة بغبار أبيض، وخلفه بقايا متناثرة من كيس الطحين الذي كان يحمله.
تمر عربة يجرها حصان، ويهرب أحد الصبية مبتعدًا، بينما ينظر المارة في ذهول، ولا يعرفون ماذا يفعلون. الطحين ثمين، لكن الحياة البشرية ليست كذلك.
في الأثناء، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أنه “سعيد بعدد شاحنات المساعدات التي سمحت إسرائيل بدخولها”، وأنه لن يطبق العقوبات كما هددت بلاده في 13 أكتوبر/ تشرين الأول.
وقال مساعدوه إن إسرائيل اتخذت “خطوات مهمة” لمعالجة المخاوف الأمريكية بشأن الوضع الإنساني في غزة، لكنهم لم يوضحوا ماهية هذه الخطوات.
لا شك أن بلينكن كان يتحدث بطريقة روتينية، لكن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لم تشاطره تفاؤله بوصول المساعدات إلى غزة؛ حيث ذكرت أن شهر أكتوبر/ تشرين الأول شهد أقل كمية من المواد الغذائية التي تدخل غزة منذ عام.
انظروا في المرآة
لم يحاول منفذو المجاعة الجماعية الذين تزداد ثقتهم بأنفسهم يوما بعد يوم تأكيد هذا التفاؤل.
فقد قال العميد إيتسيك كوهين للصحفيين الإسرائيليين أنه “لا توجد نية للسماح لسكان شمال قطاع غزة بالعودة”، مضيفًا أنه سيتم السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول “بانتظام” إلى جنوب القطاع، ولكن “لم يعد هناك مدنيون” في الشمال.
وقد تراجع عدد من كبار الضباط عن تصريحاتهم هذه بمجرد صدورها تقريبًا، لأنها كانت دليلًا فعليًا على جريمتين من جرائم الحرب: استخدام التجويع كسلاح والترحيل القسري.
إذا كان الديمقراطيون يرغبون حقًا في معرفة سبب تخلي أعداد كبيرة من قاعدتهم الانتخابية – الشباب الجامعيون والأمريكيون العرب والمسلمون – عن مرشحتهم لصالح “قوى الظلام”، فهذا هو السبب.
إن كامالا هاريس “المبتسمة” تتحمل مسؤولية المشاهد التي نراها في غزة ولبنان كل يوم، بقدر ما يتحملها الرئيس جو بايدن وبلينكن، فهي لم تنأَ بنفسها أبدًا عن سياسة إدارة بايدن تجاه غزة، وكما قالت بنفسها، فقد كانت معهم عندما تم اتخاذ القرارات.
رسالتي لهم هي: لا تبحثوا عن سبب هزيمتكم في أي مكان آخر، فقط انظروا إلى أنفسكم في المرآة.
ينطبق الأمر نفسه على كل من يستمر في القول بأن على إسرائيل الآن “إنهاء المهمة“، في كناية عن تسريع التجويع والتهجير القسري والقتل الجماعي.
وهذه هي العقلية التي يجهز بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب حكومته.
وبصفته المرشح الذي يتبنى سياسة “وقف الحروب”، قال ترامب للإمام الساذج في هامترامك بولاية ديترويت إنه سيجلب السلام، وفي واحدة من أكثر الحيل الانتخابية إثارة للسخرية، ظهر الإمام وزملاؤه على المنصة مع ترامب.
وفي غضون أيام من انتخابه، كان ترامب قد بدأ بالفعل يملأ حكومته بأشخاصٍ قدّموا لإسرائيل كل التبريرات الممكنة لتنشر الحرب في المنطقة.
اختيارات ترامب
روّج موقع التواصل الاجتماعي “تروث سوشيال” التابع لترامب لمايك والتز باعتباره “خبيرًا في التهديدات التي تشكلها الصين وروسيا وإيران والإرهاب العالمي”.
وقد صرح والتز، الذي سيصبح مستشار ترامب للأمن القومي، لشبكة فوكس نيوز في سبتمبر/ أيلول أن وقف إطلاق النار واتفاق إطلاق سراح الرهائن لن ينهي الصراع، وقال: “ستواصل إيران تأجيج الاضطرابات لأنها تريد تدمير إسرائيل، إن تقديم التنازلات لإيران هو في الواقع ما يزعزع الاستقرار”.
والتز عدو مخلص لوقف إطلاق النار، وكذلك فيفيك راماسوامي، الذي سيقود مع إيلون ماسك “إدارة الكفاءة الحكومية”.
وقد قال راماسوامي: “لديّ ثقة تامة بأنه إذا تُرك (الجيش الإسرائيلي) دون قيود، سيكون قادرًا على إنجاز مهمة الدفاع عن إسرائيل”.
يأتي بعد ذلك سفير ترامب لدى إسرائيل، الإنجيلي المسيحي مايك هاكابي، والذي يرفض استخدام بعض الكلمات؛ حيث قال لشبكة “سي إن إن” في عام 2017: “لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية، إنها يهودا والسامرة، ولا يوجد شيء اسمه مستوطنات، إنها تجمعات سكانية وأحياء ومدن، ولا يوجد شيء اسمه احتلال”.
وهناك بيتر هيغسيث الذي قال لشبكة فوكس نيوز: “أعتقد أن هذه هي اللحظة المناسبة للحكومة الإسرائيلية، وليس الحكومة الأمريكية، لاتخاذ إجراءات ضد إيران لمنع حصولها على القنبلة.. لقد قال الغرب دائمًا إنه لا يمكن السماح بامتلاك إيران والملالي درعًا نوويًا… تخيلوا كيف ستبدو المنطقة والعالم إذا حدث ذلك. لقد قامت إسرائيل بالفعل بالكثير من الأشياء السرية لردعهم، اغتيالات، واختراق منشآتهم، وإتلاف أجهزة الطرد المركزي، وسوف يقومون بالمزيد من ذلك، لأنه من الواضح أن هذه الإدارة لن تفعل ذلك”. هذا هو كلام وزير الدفاع في إدارة ترامب القادمة.
أما بالنسبة لمنصب وزير الخارجية الأمريكي، الذي يعد المنصب الأهم على الإطلاق، فقد اختار ترامب ماركو روبيو، الذي كتب بعد رحلته الأخيرة إلى إسرائيل (رحلته الرابعة): “أعداء إسرائيل هم أيضًا أعداؤنا، فالنظام الإيراني ووكلاؤه – حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، والعديد من الجماعات في سوريا والعراق – يسعون إلى تدمير إسرائيل كجزء من خطة متعددة المراحل للسيطرة على الشرق الأوسط وزعزعة استقرار الغرب، والدولة اليهودية في الخطوط الأمامية لهذا الصراع”.
ويرى روبيو أن محاولة المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبار ضباط الجيش الإسرائيلي أمر مشين: “المحكمة لا تلاحق الأسد الذي قتل شعبه بالغاز، ولا تلاحق شي جين بينغ، الذي يرتكب إبادة جماعية ضد الأويغور، وبدلاً من ذلك تستهدف بلدًا بذل جيشه جهودًا كبيرة لحماية أرواح المدنيين، إنه نفاق صادم”.
ومن قد يكون أفضل من شريكك في لعب الغولف لتعيينه مبعوثًا خاصًا إلى الشرق الأوسط؟
قال ستيف ويتكوف، وهو مطور عقاري في نيويورك، عن خطاب نتنياهو الأخير أمام مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس: “لقد شعرت أنه خطاب وجداني، لكن لم يشعر العديد من هؤلاء الديمقراطيين بالأمر على هذا النحو”؟
هذه هي الجوقة التي من المفترض أن توجه الرئيس الجديد لإنهاء جميع الحروب في الشرق الأوسط وخارجه.
خطة إسرائيل لما بعد غزة
هذا جانب واحد من الصورة التي تتشكل يوما بعد يوم، أما الجانب الآخر فيتعلق بخطط إسرائيل للتعامل مع إدارة ترامب، والتي بدأت معالمها تتضح.
زار مستشار نتنياهو الخاص ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر دونالد ترامب في مقر إقامته في مارالاغو بفلوريدا للتفاهم حول القضايا التي يريد ترامب حلها قبل 20 يناير/ كانون الثاني، عندما يتولى منصبه، وما الذي يفضل أن تتركه إسرائيل ليحله بنفسه.
اصطحب ديرمر معه معلومات استخباراتية عن البرنامج النووي الإيراني والتهديد المحتمل لـ”تقدم طهران نحو التسلح النووي”.
ولم يغادر ديرمر فلوريدا دون أن يطمئن على صهر ترامب، جاريد كوشنر، الذي أثلجت خططه لتطوير واجهة بحرية في غزة صدور المسؤولين الإسرائيليين.
وقال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يبدو أنه أصبح صوت التيار الرئيسي في الحكومة أكثر من أي وقت مضى، إن الوقت قد حان لضم الضفة الغربية، وأصدر تعليماته للمسؤولين المشرفين على المستوطنات “للبدء في تجهيز طاقم مهني شامل لإعداد البنية التحتية اللازمة” لبسط السيادة.
وكما ذكرنا في وقت سابق، فإن دانييلا فايس، زعيمة حركة “نحالا”، وهي حركة استيطانية أرثوذكسية، تنتظر “اختفاء الفلسطينيين من غزة”، لأن لديها آلاف اليهود الذين ينتظرون إعادة توطينهم هناك.
ولكن أهم ما جاء على لسان وزراء الحكومة الإسرائيلية ،هو الخطاب المفصل الذي ألقاه وزير الخارجية الإسرائيلي المعيّن مؤخرًا جدعون ساعر.
ففي اعتراف ضمني بأن إسرائيل لن تجد السلام من خلال اتفاقيات التطبيع مع رؤساء الدول العربية، قال ساعر إن حلفاء إسرائيل الطبيعيين في المنطقة هم الأقليات المضطهدة التي لا تتمتع بجنسية، وذكر الأكراد والدروز بالتحديد.
وقال ساعر في حديثه عن الأكراد: “إنهم أقلية قومية في أربع دول مختلفة، يتمتعون في اثنتين منها بحكم ذاتي: بحكم الأمر الواقع في سوريا وبحكم القانون في الدستور العراقي”، وأشار إلى أن الأكراد “ضحية للقمع والعدوان في إيران وتركيا”، مضيفًا أن “هذا الأمر له جوانب سياسية وأمنية” بالنسبة لإسرائيل.
وصفة لحرب إقليمية
لا يخفى على أحد أن إسرائيل تدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يهيمن على إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي في العراق، وقد كانت إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي دعمت استفتاء الاستقلال الذي نظمته حكومة إقليم كردستان عام 2017، والذي رفضت بغداد الاعتراف به.
ومن ناحية أخرى، فإن وحدات حماية الشعب الكردية، التي تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا، هي فرع من حزب العمال الكردستاني الذي يشن تمردًا على تركيا منذ عقود، وكلاهما داعم لفلسطين منذ فترة طويلة.
لكن بالنسبة لأي شخص في تركيا أو إيران، فإن تصريح ساعر هو تهديد مباشر بالتدخل العسكري من قبل إسرائيل نفسها.
لذا، لم يكن من المستغرب أن يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقطع جميع العلاقات مع إسرائيل يوم الأربعاء الماضي.
في تسريب حديث لمحادثاتها مع المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين، أكدت إسرائيل على استراتيجيتها تجاه لبنان وسوريا والعراق، مما كشف عن أهدافها الإقليمية بشكل واضح. تسعى إسرائيل إلى دفع حزب الله شمال نهر الليطاني وقطع إمداداته من إيران عبر سوريا والعراق، بالإضافة إلى هدف آخر يتمثل في تفكيك أو إضعاف محور المقاومة الذي بنته إيران منذ ما قبل غزو العراق في 2003، على الرغم من أن ذلك الغزو قد أسهم في تسريع نفوذ إيران الإقليمي.
ويُعتبر التصريح الذي أطلقه جدعون ساعر بمثابة دعوة لحرب إقليمية، حيث تم تحديد سوريا كهدف رئيسي للعمليات البرية المقبلة. ولا يهدد ساعر فقط بتوجيه ضربات ضد القوات السورية، بل يضع في مرماه أيضا أكبر جيشين في المنطقة بعد إسرائيل، وهما تركيا وإيران. كما أن خطته تشكل تحدياً مباشراً لدوائر النفوذ الإقليمي في كل من البلدين.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن “صفقة القرن” التي يعيد ترامب وإسرائيل إحياءها، تهدد بتقليص آمالهم في الحصول على دولة مستقلة. إذا كان الفلسطينيون محظوظين وظلوا صامتين وتخلوا عن كافة طموحاتهم، فإنهم قد يُسمح لهم بالعيش كعمال ضيوف في مخيمات على الحدود الصحراوية مع مصر.
وبالحديث عن خريطة ترامب لفلسطين عام 2020، فإنه حتى تلك الخريطة التي كانت صادمة عند نشرها لأول مرة، ستشهد تقلصاً كبيراً في حال إعادة توطين اليهود شمال غزة وضم إسرائيل ثلثي الضفة الغربية.
تصعيد غير مسبوق
لا يمكن الجزم بمدى تحقق هذه الخطط على أرض الواقع، لكن ما هو مؤكد أن العالم العربي قد شهد تحولاً جذرياً خلال الـ 13 شهراً الماضية. فريق ترامب لن يعود إلى المربع الذي كان يوجد فيه في عام 2017.
في هذا السياق، يشير مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني السابق وأول سفير للأردن في إسرائيل، إلى التحولات الكبيرة في الرأي العام العربي. وكان المعشر من بين أولئك الذين عملوا على صياغة مبادرة السلام العربية لعام 2002، وهي آخر محاولة جدية للتفاوض على حل الدولتين مع إسرائيل.
يقول المعشر: “لقد أصبح الجمهور في العالم العربي أكثر تطرفاً بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولا أحد مستعد للتحدث عن السلام الآن. في الواقع، تعتقد الغالبية العظمى الآن أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الاحتلال هي المقاومة المسلحة، وهو ما لم يكن مطروحاً حتى بين الفلسطينيين في الماضي”.
وأضاف المعشر أنه في استطلاع تم بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أظهرت النتائج أن 65 بالمئة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة يعتقدون أن الحل الوحيد لإنهاء الاحتلال هو المقاومة المسلحة. وفي المقابل، أكثر من 80 بالمئة من الإسرائيليين لا يؤيدون حل الدولتين، وقد وصف نتنياهو هذا الحل بأنه “مكافأة للإرهاب”. هذه هي الصورة التي وصلنا إليها الآن.
ووزير الخارجية الأردني السابق يقول إن حل الدولتين أصبح غير ممكن
ويعتقد المعشر أن الحل الوحيد لإنهاء الصراع يتمثل في إنهاء الاحتلال، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال منح المواطنة المتساوية لجميع من يعيشون بين النهر والبحر.
سيكون من الحكمة لترامب أو أي رئيس أمريكي مستقبلي أن يستمع إلى هذا الصوت. صهيونية بايدن وإنجيلية ترامب محكوم عليهما بالفشل كمؤيدين لمشروع صهيوني أخفق على أرض الواقع.
اليوم، باتت إسرائيل مكاناً مختلفاً، وغير قادرة على العمل كدولة لجميع سكانها. كما أن العالم العربي قد تحوّل إلى التطرف بما فيه الكفاية ليؤمن بحتمية المواجهة مع إسرائيل.
من خلال نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والسماح لإسرائيل بضم هضبة الجولان، وابتكار اتفاقيات أبراهام، هيأت ولاية ترامب الأولى الظروف الملائمة للهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
وفي فترة ولاية ثانية، ومن خلال حكومة مكونة من أشخاص يؤيدون خطط إسرائيل لتمديد حربها إلى سوريا والعراق وإيران، فإن ترامب سيشعل صراعًا إقليميًا قد يتجاوز قدرة الولايات المتحدة أو إسرائيل على التحكم به.