تتوالى التسريبات الصحفية بشأن ما تقوم به القوات الأمريكية في العراق من نشاطٍ تحاول فيه استمالة العشائر العربية السنيَّة في المحافظات التي تعرضت للتدمير على يد عصابات داعش والمليشيات، طيلة السنوات السابقة، وفي أغلب تلك التسريبات نجدها تصدر عن “مصدر مطلع” أو “مصدر رفض الكشف عن اسمه”، وكأن الحديث الصريح عن تلك التسريبات فيه محظورات يتجنب المتحدثون تبعاته، أو أن تلك التسريبات مصدرها أجهزة مخابرات تحاول تحقيق غرض ما، يخدم أصحابها، أو يمكن أن تكون عبارة عن تهيئة للساحة العراقية لحدث يحاكي تلك التسريبات.
خلاصة تلك التسريبات، نقلت معلوماتها عن “مصادر مطلعة”، تفيد، بأن القاعدة العسكرية الأمريكية في “عين الأسد”، ستصبح نقطة انطلاق وتدريب لقوات عراقية من المكون العربي السنَّي وتحديدًا العشائري منه، في المحافظات السنيَّة (نينوى وصلاح الدين والأنبار)، وأن اجتماعًا تنسيقيًا انعقد هناك بين شيوخ عشائر تلك المحافظات المذكورة وقيادات عسكرية أمريكية رفيعة، تناول اقتراح تشكيل “حشد عشائري سنَّي” من غير العناصر المنضوية تحت الحشد الشعبي الرسمي، ويتم تدريبهم في معسكرات قاعدة “عين الأسد” و”الحبانية” وتسليحهم بأسلحة خفيفة ومتوسطة، لغرض مسك زمام الأمور في تلك المحافظات ومنع انتشار المليشيات المسلحة التابعة لإيران فيها، استعدادًا لتحرك ضد طهران في مرحلة لاحقة.
وفي رد فعلٍ أولي صدر من التيارات السياسية العراقية الموالية لإيران، حذَّر عضو تحالف الفتح النائب حنين القدو، من قيام القوات الأمريكية بتدريب عناصر موالية لها في القواعد التي توجد فيها بالأنبار، تحت عنوان الحشد العشائري، مبينًا، أن تشكيل حشد عشائري ولائه ليس للحكومة العراقية، من الأمريكان وتسليحهم، يشكل خطورة كبيرة على وحدة العراق، فيما قال القيادي في مليشيا الحشد علي الحسيني، إن الحكومة العراقية مطالبة بالرد من أجل إيضاح هكذا أنباء في سبيل تأكيدها أو نفيها، لأن هذا التصرف تدخل أمريكي سافر في الشأن العراقي.
واشنطن تريد صنع أدوات لها في العراق
وعلى ما يبدو، إن صحت تلك التسريبات، أن الولايات المتحدة الأمريكية أدركت حجم خسارة نفوذها بالعراق، وحجم تفوق النفوذ الإيراني عليها، فإيران نجحت بتأسيس أحزاب ومليشيات تابعة لها وإيصالهم للسلطة، وهي الآن مسيطرة على إرادة العراق السياسية والعسكرية، ولها القدرة على التحكم به سياسيًا وعسكريًا.
بينما الولايات المتحدة التي غيرت النظام العراقي السابق، وجدت نفسها وبسبب تخبط إداراتها السابقة، خارج الملعب السياسي والعسكري العراقي، بل إن من يمسكون زمام الأمور في هذا البلد، عازمون الآن على وضع حدٍ لوجود قواتها (ذات الحجم القليل) في العراق.
النشاط الأمريكي في المناطق الغربية من العراق، من الممكن اعتباره محاولة من واشنطن لتدارك ما فاتها من نفوذ في هذا البلد، وهي تراهن على المكون العربي السنَّي هذه المرة
وبالتالي فإن النشاط الأمريكي في المناطق الغربية من العراق، من الممكن اعتباره محاولة من واشنطن لتدارك ما فاتها من نفوذ في هذا البلد، وهي تراهن على المكون العربي السنَّي هذه المرة، مستفيدةً من رد فعل هذا المكون على ما تم اقترافه بحقه من جرائم استهدفتهم بسبب كونهم عرب وسنَّة، ويشعرون حاليًّا أن هناك خطرًا جديًا وشيكًا، باستئصالهم من العراق بظرف سنين قليلة، إذا استمر التغير الديمغرافي الذي تقوده الحكومة الطائفية حاليًّا على نفس المنوال.
ماذا تبتغي واشنطن من ذلك كله؟
لكن ماذا تريد واشنطن بتحركاتها الحاليّة؟ هل تريد تغيير ولاء النظام السياسي العراقي، من ولاء إيراني إلى ولاء أمريكي؟ وهل نستطيع أن نعتبر الزيارات المتكررة لمسؤولين أمريكيين وغربيين إلى العراق، تندرج في هذا الاطار؟ فقد شهد العراق زيارات عديدة ومتكررة من المسؤولين الأمريكيين وعدد كبير من القادة الغربيين، في الفترة التي تسلم فيها عادل عبد المهدي منصب رئاسة الوزراء، وكانت هناك تسريبات حقيقية بأن كثيرًا من تلك الزيارات كانت تحمل رسائل مباشرة وواضحة للحكومة العراقية، بضرورة الابتعاد عن إيران ووضع حدٍ لأدواتها العسكرية المتمثلة بالحشد الشعبي وضرورة العمل على حلّه.
لكن الجميع يعرف أن هذا المسعى غير ذي جدوى مع الحكومة العراقية، بسبب الترابط العضوي بين أحزاب السلطة ومعها المليشيات والنظام الإيراني، والانفكاك عن الأخير أمر متعذر عليهم بشدة، وبالتالي فإن واشنطن تريد المراهنة هذه المرة على المكون العربي السنَّي، لغرض فك ارتباط إيران بالعراق، لكن المراهنة على السنًّة، لن تجعل الأمور تذهب لتغير ولاء النظام العراقي، إنما أقصى ما سينتج عنه، هو طرد أدوات إيران من مناطق غرب العراق، وقطع تواصلها مع مثيلاتها في سوريا ولبنان، ورغم أن هذا الهدف أحد الأهداف المهمة للإدارة الامريكية، لكنه لا يمثل كل طموحات واشنطن في العراق.
يبدو أن الامريكان يريدون من تلك العملية، تحقيق حالة التوازن في العراق، بين نفوذها ونفوذ إيران بالمرحلة الأولى، ومن ثم تحقيق التفوق عليها لاحقًا
كما أن صُنع مجاميع مسلحة سنيَّة فحسب، لا يحقق لها تفوقًا سياسيًا على الأطراف الشيعية التي تمتلك أحزابًا سياسية خبرت اللعبة السياسية جيدًا، وهنا يأتي الحديث عن رجوع بعض القادة السنة ذوي الثقل السياسي الكبير أمثال طارق الهاشمي ورافع العيساوي وأثيل النجيفي، وغيرهم من السياسيين الذين تم إقصاؤهم من العملية السياسية من الأطراف الشيعية، ولم تبق إلا على شخصيات سياسية سنيَّة هزيلة لا تؤثر على نفوذ الأحزاب الشيعية في البلد، بل هي داعمة لها، وإذا كانت الولايات المتحدة من وراء تلك الجهود، فهذا يعني أن الأمريكان يريدون تأسيس كيان سياسي سنَّي يقود تلك المجاميع المسلحة التي يتم العمل على إنشائها الآن.
من هذا يبدو أن الأمريكان يريدون من تلك العملية تحقيق حالة التوازن في العراق، بين نفوذهم ونفوذ إيران بالمرحلة الأولى، ومن ثم تحقيق التفوق عليها لاحقًا، وفي حال لم تنجح المساعي الأمريكية في ذلك، فإنها على الأقل تضمن ولاء المناطق السنيَّة، وستقوم بتشجيع أهلها على إقامة إقليم خاص بهم يتمتع بإدارة شبه مستقلة عن بغداد، وتحت المظلة الأمريكية، وله تعاون وثيق مع الإقليم الكردي، وإذا تطورت الأحداث إلى ما لا يحمد عقباه أمريكيًا، فإن المنطقة العربية السنيَّة بالإضافة إلى المنطقة الكردية ستكون جاهزة لمشروع دولة موالية للولايات المتحدة، قابلة للحياة والنجاح بعيدًا عن إيران ونفوذها الذي سينحسر في جنوب العراق فقط.
ما أجندة الشعب العراقي؟
إذا كان لواشنطن أجندة في العراق، ولطهران كذلك أجندة مخالفة لها، فمن الأولى أن يكون للشعب العراقي صاحب الأرض هو الآخر أجندة وطنية تصب بخدمة شعبه، ومن الذكاء بالنسبة للشعب العراقي وهو يعيش في حالة الضعف الذي نراه، أن يجد في كل تلك التناقضات بين الإيرانيين والأمريكيين، فرصة وبارقة أمل يستطيع أن يقوم فيها بتغيير الواقع العراقي إلى ما هو أفضل.
الاحتلال الإيراني احتلال استئصالي، يعتقد أن أرض العراق هي أرضه وقد أخذت منه ويريد استعادتها، فيما الاحتلال الأمريكي هو احتلال اقتصادي وثقافي وقيمي، ونحن قادرون على الصمود أمام احتلال بهذه المواصفات، فشتان بين الاحتلالين
فعلى العرب السنة أن يتعاملوا بإيجابية مع المساعي الأمريكية، فقط إذا كانت تصب في تقويض النفوذ الإيراني، ويضمنون فيها عدم تذويب ومحو المكون العربي السنَّي وتهجيره من أراضيه، وعلى العرب الشيعة أن يواصلوا انتفاضتهم على الأحزاب الموالية لإيران ورفض التجنيد في صفوف ميليشياتها، للوصول إلى مرحلة يمكنهم فيها تقويض النفوذ الإيراني في مناطقهم، وعلى الكرد أن يدركوا أن مصير شعبهم مرتبط بحرية باقي المكونات العراقية، ويجب أن يعملوا على نهاية مشرفة للصراع بينهم وبين أخوانهم العرب، الذي لم يأت إلا بالدمار على الجميع.
وإذا كانت النتيجة من كل هذا، أن يكون البلد بكليته تحت النفوذ الأمريكي، فلا بأس به مرحليًا، ولنا تجربة من تاريخ الشعوب، وكيف انعتقت من النفوذ الأمريكي بمرور الوقت وبسواعد أبنائها، مثال ذلك التجربة الألمانية التي احتل بلدهم من الروس والأمريكان، والتجربة اليابانية التي احتلت بلدهم من الأمريكيين، وتجربة كوريا الجنوبية وتجارب أخرى عديدة، لم يمنعها الاحتلال من استعادة سيادتها بمرور الوقت.
وعلى العراقيين جميعًا أن يعلموا، أن الاحتلال الإيراني احتلال استئصالي يعتقد أن أرض العراق هي أرضه وقد أُخذت منه ويريد استعادتها، فيما الاحتلال الأمريكي احتلال اقتصادي وثقافي وقيمي، ونحن قادرون على الصمود أمام احتلال بهذه المواصفات، فشتان بين الاحتلالين، ولا بد للعراقيين من الاختيار بين ما هو سيء وما هو أسوأ، وهو طريق لا بد للعراقيين المضي فيه للوصول إلى استعادة كرامتهم وحريتهم بنهاية المطاف.