تشكل العملية الإبداعية بشكل عام والرواية كجنس أدبي خاص متنفسًا حقيقيًا في نقل تفاصيل التجارب التاريخية – واقعًا وتخيلًا – نقلًا واسعًا وعميقًا إلى المتلقين، وبالنسبة لبلد مثل الجزائر التي عاشت وقائع تاريخية ونضالًا سياسيًا طويلاً ضد الاستعمار الفرنسي ما أدى إلى اندلاع ثورة التحرير الجزائرية عام 1954 حتى حصلت على الاستقلال في 5 من يوليو/تموز 1962، فقد كان طبيعيًا أن تجمع الرواية الجزائرية التي صُبغت بصبغة ثورية بين التاريخي والتخيلي في كتابتها للثورة، إذ أعادت كتابة التاريخ روائيًا وسايرت الواقع السياسي ونقلت مختلف التغيرات التي طرأت على المجتمع الجزائري.
كيف حضرت ثورة التحرير في الرواية الجزائرية؟
خصوصية الثورة الجزائرية لم تكن فقط بالخروج في وجه الاستعمار، ولكنها امتدت لتصل إلى حمل السلاح في وجه المستعمر والتوجه إلى الأدغال من أجل نصب الكمائن وتخريب المنشآت الحيوية للفرنسيين وزعزعة استقرارهم، كل ذلك شكل مادة حية لتسطير صفحات طويلة من البطولة، ففي النهاية لا يمكن عزل الأدب عن واقع السياسة لأن الأدب مأخوذ بتتبع الواقع الذي ترسمه السياسة وتترك آثاره على الفرد والمجتمع، وحتى إن كان الأدب غارقًا في الرمزية فإنه يظل مشدودًا إلى الواقعية لأنها تجسد مكونات الخيال الأدبي.
التاريخ لا يُكتب مرة واحدة، فالحدث يحدث مرة ولكن يُكتب عنه مرات، وهذا ما فعلته الرواية الجزائرية بعد الاستقلال، أعادت كتابة التاريخ في فضاء الخيال
وقد ظلت ثورة التحرير الجزائرية حاضرة بقوة في الرواية الجزائرية كنشيد يحتفي ببطولاتها وأمجادها وتاريخها، واستمر تأثير الثورة على الكتابة الأدبية لمدة طويلة وكان هذا طبيعيًا لأنها مثلت صرخة مدوية في وجه العالم ولذا نادرًا ما نجد نصًا أدبيًا يخلو من ملامحها، ولكن هذا التأثر بدأ قويًا غداة الاستقلال إذ كان يهمين بشدة على مخيلة الكتاب حتى بدأ في الخفوت تدريجيًا ووصل إلى مرحلة فقدت فيها الثورة بريقها المقدس بسبب الخطاب السياسي ليكشر الواقع بما يحمله من أوضاع متردية عن أنيابه ويدعو كتاب الرواية إلى المراجعة.
مسار تحولات الرواية الجزائرية
التاريخ لا يُكتب مرة واحدة، فالحدث يحدث مرة ولكن يُكتب عنه مرات، وهذا ما فعلته الرواية الجزائرية بعد الاستقلال، أعادت كتابة التاريخ في فضاء الخيال، حفرت في الأحداث ورممت الشقوق عبر شخوصها من الأبطال المنسيين الذين خاضوا رحلتهم الطويلة في البحث عن الذات والهوية، وعليه فعلى الرغم من حضور الثورة بقوة في الكتابات الأدبية، فإن هموم المواطن الجزائري كانت موجودة أيضًا في خلفية الأحداث تبحث عن نفسها وسط الأوضاع الجديدة.
المرحلة الأولى: الكتابة الروائية السياسية للتعبير عن واقع ما بعد الثورة
كان الروائيون الأوائل الذين رسخوا الرواية الجزائرية الحديثة من جيل الثورة والاستقلال وذلك مثل عبد الحميد بن هدوقة الذي كتب رواية “ريح الجنوب” ومحمد عرعار الذي ألف “وما لا تذره الرياح” والطاهر وطار الذي أبدع روايته “اللاز” وقد جمع هؤلاء المبدعون في كتاباتهم بين السياسة والأدب ليس فقط بسبب طبيعة المرحلة ولكن لأنهم كانوا منخرطين بالفعل في العمل السياسي، فقد كان ابن هدوقة ممثلاً لحزب أنصار الديمقراطية وحركة الطلاب الجزائريين في أثناء دراسته، كما كان عضوًا في حزب جبهة التحرير بعد الاستقلال وانضم عرعار للجبهة نفسها أيضًا، وكان الطاهر وطار يعمل في السياسة والصحافة التونسية وانخرط في جبهة التحرير إبان تأسيسها، وعشية الاستقلال تفرغ للعمل السياسي بجبهة التحرير حيث عمل كمراقب في الجهاز المركزي للحزب.
وقد منح هذا الرصيد من التجربة السياسية هؤلاء الكتاب بعدًا سياسيًا قويًا للروايات التي كتبوها، حيث ساهموا في نشر الوعي السياسي وتحدثوا عن آمال الطبقة الكادحة، ومن أشهر الروايات الممثلة لهذه المرحلة رواية “اللاز” للطاهر وطار.
وتحكي رواية “اللاز” عن سنوات ثورة التحرير وذلك من خلال شخصية اللاز اللقيط المنبوذ الذي أراد أن يغير مجرى حياته فتحول إلى مناضل ثوري ومن ثم أُلقي القبض عليه من قوات الاستعمار الفرنسية ولكنه تمكن من الهرب وفر إلى الجبل ليلتقي هناك بعدد من الثوار مع زعيمهم زيدان الرجل الثوري الذي اغتيل في نهاية المطاف بسبب رفضه التخلي عن أفكاره الشيوعية.
اللاز في هذه الرواية يجسد الشعب الجزائري الذي طحنه الفقر والشقاء والبؤس، إنه الوطن الذي قرر أن يغير مجرى حياته ويقف في وجه الاستعمار، ورغم أنه ليس ثوريًا ولكنه لم يكن يومًا مستسلمًا، لقد كان مدركًا بفطرته أن ثمة خطأ في الواقع الحاليّ ويجب تغييره، إنه نموذج لجميع الفئات الجماهيرية التحتية التي تعاني من القهر الاجتماعي والاضطهاد، واللاز كلمة أجنبية تعني البطل، أما زيدان فقد جسد صورة المثقف الذي آمن بقضيته ونبلها وحتمية انتصارها وظل يدافع عن أفكاره حتى الرمق الأخير.
المرحلة الثانية: تكريس أيدولوجية السلطة المهيمنة
في هذه المرحلة ظهرت الكتابات الروائية التي تحتفي بالثورة وتمجدها، فخلال هذه المرحلة رأينا صورًا جميلة لقرى الجزائر الصادمة التي تعيش لحظات إشعال فتيل الثورة، لحظات القلق والخوف والتحفز يموج فيها أناس طيبون وثائرون: أناس كانوا يعيشون حياة ضياع وذل فلم يجدوا بدًا من تغيير تلك الحياة برمتها وتغيير أوضاع بلادهم، لقد اتخذت هذه المرحلة الثورة الجزائرية بكل ما تزخر بها من تضحيات وانتصارات كمسرح للأحداث، ولكن بالغ البعض في تضخيم هذه الثورة وعظمتها إلى حد اعتبارها أسطورة.
الجزائر إذًا لم تكن عاقرًا، حيث حبلت وستلد، وابنها هو جنين الثورة الذي وضعته في الأول من نوفمبر
ومن أشهر روايات هذه المرحلة رواية “زمن العشق والأخطار” للكاتب محمد مفلاح التي تدور أحداثها في إحدى القرى الصغيرة بالريف الجزائري، وبطلة الرواية هي كلثوم زوجة المعلم محمد الطالب التي كانت لا تنجب فطلبت من زوجها أن يذهب إلى مسعود من أجل أن يكتب لها حرزًا أو يقرأ لها ما حفظه من آيات القرآن، ولكن زوجها يرفض الذهاب لمسعود لأنه تاجر جشع يملك الكثير من الأراضي ويتحالف مع الفرنسيين، كما أنه يتاجر بأحلام البسطاء ويستغلهم ولهذا يرد الطالب على زوجته قائلاً “سي الكلب… تفو عليه… لن أدخل بيته ولو كانت الحياة على يده” ويطمئن الطالب زوجته بأن الأمل في الإنجاب ما زال موجودًا وبالفعل تتمكن زوجته من الحمل، وعندما تسأل زوجها أي الأسماء ستختار لابنك يرد عليها قائلاً “نوفمبر” ولكنها تقول إنها لم تسمع بهذا الاسم من قبل ليرد هو قائلاً “ستسمعين به في الأيام القادمة”.
الجزائر إذًا لم تكن عاقرًا حيث حبلت وستلد، وابنها هو جنين الثورة الذي وضعته في الأول من نوفمبر حيث استمر في رحم كلثوم وظل ينمو وينمو والبطولة هنا صنعها كل أطياف الشعب وهو ما تجلى في عملية ولادة كلثوم حيث ولدت على يد عشرات النسوة الجزائريات وبالتالي فنوفمبر هو ابن الشعب.
المرحلة الثالثة: ظهور رواية المعارضة والابتعاد عن برواز تمجيد الثورة
في 8 من أكتوبر/تشرين الأول 1988 خرجت الجماهير الجزائرية الغاضبة إلى الشوارع احتجاجًا على الأوضاع المعيشية وطالبوا بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وخلال تلك المرحلة ظهرت الرواية المعارضة، حيث اسيقظ الكتاب من سباتهم العميق وتركوا جانبًا أحلامهم الوردية، وعليه فقدت رواية السلطة هيبتها لتأتي بعد ذلك أحداث يناير 1992 حيث بدأت الحرب الأهلية في الجزائر على هيئة صراع مسلح اندلع بين النظام الجزائري وفصائل موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعصفت تلك الأحداث بالمجتمع الجزائري وعليه فقد اتخذت الرواية منعرجًا كبيرًا لتتحدث عن المأساة الجزائرية.
ومن أهم روايات هذه المرحلة رواية “سيدة المقام” للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، وتدور أحداث الرواية في الجزائر خلال حقبة السنوات المشحونة التي سبقت تفكك الجزائر وتحولها من دولة الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية وما تلا ذلك من إجراء الانتخابات البرلمانية عام 1991 وهي الانتخابات التي كانت على وشك أن تسفر عن فوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ ولكن نتيجة الانتخابات عُلقت وتحولت الجزائر إلى ساحة حرب لم ترحم أحد.
بطلة الرواية هي مريم راقصة الباليه التي تُصاب برصاصة في رأسها خلال المظاهرات التي اندلعت عام 1988 فتمنعها الرصاصة من ممارسة الرقص ولكنها تصمم على تأدية دور شهرزاد في عرض الباليه المأخوذ من السيمفونية الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه للموسيقي الروسي الشهير ريمسكي كورساكوف، وتموت مريم بعد تأدية الرقصة وعلى خلفية الأحداث يأتي صوت صديقها وهي يقرأ يومياته الأدبية التي كتبها عن كل ما يجري في البلاد من ممارسات فاشية باسم الإسلام.
المرحلة الرابعة: ثورة الكتابة
خلف العنف جرحًا لم يندمل في المجتمع الجزائري وحاولت الكتابة أن توقف هذا النزيف بخيوط الأمل، وهنا بدأ يثور التساؤل لقد كانت ثورة التحرير دائمًا تيمة مركزية في كل روايات الأدب الجزائري وهي التيمة التي بُنيت عليها جميع كتابات الجيل الأول من الروائيين ولكن يجب الانفصال عن هذه التيمة، حيث يجب على الكتاب أن يحلقوا بعيدًا مبتعدين عن تكرار معالجة الثورة روائيًا ويجب الابتعاد أيضًا عن رواية معارضة السلطة لأنها تدور في نفس الفلك وتحمل بعدًا أيدولوجيًا ظل لصيقًا بالرواية منذ عهد بعيد، وخلال هذه المرحلة ظهرت الروايات التي لم تكن تبالي بتقديم الرؤية الأيدولوجية قدر اهتمامها بالتركيز على الرؤية الجمالية ومع ذلك ظلت الثورة حاضرة ولكنها في خلفية الأحداث مثل الموسيقى التصويرية التي تعزف لحنًا هادئًا ولكنها لا تتدخل في مسار الأحداث.
الرواية الجزائرية واكبت السياسة، فلطالما كانت الأحداث التي تمر بها البلاد هي بؤرة الكتابة السردية مرجعية الحكي وتشكلاته، وطالما أسست ذاكرة الجزائر أزمنة الرواية وفضاءاتها، ولكن بعد مرور سنوات من الثورة توقفت السياسة عن إحداث أي جديد على الساحة واستمر الأدب في التقدم حيث لم يعودا جنبًا إلى جنب ليخبرنا الأدب في النهاية بأن حرب التحرير لم تكن سوى مشورع لم يكتمل إنجازه
ومن أشهر روايات هذه المرحلة رواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة أحلام مستغانمي وتدور أحداث الرواية حول البطل خالد بن طوبال الرسام الذي فقد ذراعه في أثناء حرب التحرير ولكنه لم يتوقف عن الإبداع، ويقع خالد في غرام حياة ليكتشف بعد ذلك أنها ابنة أحد أصدقائه الذي كان يقاتل معه في أثناء الاحتلال الفرنسي، وتتوالي الأحداث عن قصة حب خالد وحياة وعلى الرغم من محاولة أحلام إبعاد تيمة الثورة عن عملها، فإنها كانت حاضرة على خلفية الأحداث وبقوة.
وما نخلص إليه يكمن في أن الرواية الجزائرية واكبت السياسة فلطالما كانت الأحداث التي تمر بها البلاد هي بؤرة الكتابة السردية مرجعية الحكي وتشكلاته، وطالما أسست ذاكرة الجزائر أزمنة الرواية وفضاءاتها، ولكن بعد مرور سنوات من الثورة توقفت السياسة عن إحداث أي جديد على الساحة واستمر الأدب في التقدم حيث لم يعودا جنبًا إلى جنب ليخبرنا الأدب في النهاية بأن حرب التحرير لم تكن سوى مشورع لم يكتمل إنجازه وبأنه بالتأمل العميق في الواقع الحاضر ثمة أمر خاطئ وهو ما تداركه المجتمع الجزائري في الوقت الحاليّ وتجلى في خروج الجماهير الغفيرة المطالبة بعدم ترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة للرئاسة.