التسريب الحصري الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني عن لقاء سري جمع بين مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني صلاح عبد الله الشهير بصلاح قوش ورئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، وجد انتشارًا كثيفًا بعدما تناقلته عدد من الفضائيات والصحف العربية والأجنبية خلال دقائق معدودة، وأغضب مدير جهاز الأمن السوداني صلاح قوش مما جعله يُصدر بيان نفي متعجل لم يراع فيه أبسط القواعد المتبعة في مثل هذه الحالات.
فقد سارع إلى مهاجمة قناة الجزيرة قائلاً: “الخبر الذي بثته قناة الجزيرة عن لقاء مدير الجهاز صلاح قوش برئيس الموساد الإسرائيلي على هامش مؤتمر ميونخ للأمن عارٍ عن الصحة”، واتهم الجهاز في البيان الذي أذاعه التليفزيون الرسمي، الجمعة، قناة الجزيرة التي نقلت الخبر عن موقع “ميدل إيست آي” بفبركته في ظل حملة شائعات يتعرض لها السودان، وفق ما ورد في نص البيان.
التعجل في إصدار بيان النفي أظهر خطأين فادحين وقع فيهما جهاز المخابرات السوداني هما:
1- أصدر بيان النفي مباشرة، وهذه طريقة غير متبعة دوليًا في مخاطبة الرأي العام الخارجي، فكان من باب أولى أن يعد جهاز الأمن السوداني رده على تسريب ميدل إيست ويرسله إلى الجهات الحكومية ذات الاختصاص كوزارة الخارجية أو المتحدث الرسمي باسم الحكومة، وذلك لإحكام التنسيق مع أجهزة الدولة المختلفة، ثم إتاحة المجال للمختصين للتدقيق في المحتوى وتصحيح الأخطاء الواردة في البيان وأبرزها ما سنورده في الفقرة الثانية.
2- وقع الأمن السوداني في خطأ آخر عندما سارع إلى مهاجمة الجزيرة، في حين أنها ليست مصدر الخبر بل نقلت عن موقع ميدل إيست أونلاين، وهذا ما يعكس ضعف التأهيل الإعلامي لمنسوبي جهاز الأمن، فالبيان لم يُشر مطلقًا إلى الموقع البريطاني صاحب الأسبقية والحصرية في الموضوع لدرجة أنه لم يعتمد على المصدر العسكري السوداني الأول الذي سرّب لقاء صلاح قوش مع يوسي كوهين بل تأكّد من مصدر دبلوماسي آخر تفاصيل الاجتماع بدقة، كما في تقرير الموقع.
صلاح قوش.. تاريخ مثير للجدل
قبل أن نبحث في طموحات صلاح عبد الله العريضة وأحلامه لتسلم السلطة في السودان يجدر بنا أن نقدم لمحات عن شخصيته وتاريخه، فهو من خريجي كلية الهندسة بجامعة الخرطوم وكان مسؤولًا عن جهاز المعلومات الخاص بتنظيم الإخوان المسلمين الذي كان أقوى تنظيم في الجامعة في العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي، ثم عمل في مجاله لفترة بعد التخرج في ثمانينيات القرن الماضي.
نقطة التحول التي شكلت علامة فارقة في تاريخ قوش السياسي والمخابراتي، بدأت في العام 2004 عندما عيّنه الرئيس البشير مديرًا لجهاز المخابرات وظل في منصبه حتى 2009
نبغ قوش في العمل الاستخباري وجمع المعلومات كما يقول رفقاؤه، وكان ذلك سببًا في التحاقه بجهاز المخابرات الذي أسسه الإسلاميون بزعامة الراحل حسن الترابي عقب الانقلاب العسكري الذي أوصل الرئيس عمر البشير إلى السلطة عام 1989، وهكذا تدرج قوش في جهاز المخابرات حتى وصل إلى منصب نائب مدير العمليات، ونظرًا للخلفية الهندسية لقوش تم تعيينه مديرًا لمصنع اليرموك الحربي الذي اتهمت الخرطوم “إسرائيل” بقصفه، وعندما اختلف البشير مع حليفه حسن الترابي عام 1999 وأسس الأخير حزب المؤتمر الشعبي المعارض انحاز قوش إلى البشير، وبحسب خبراء، فإن الرجل لعب دورًا محوريًا في القضاء على أنصار الترابي في جهاز الدولة، خاصة الأجهزة النظامية، وذلك بحكم صلته بالترابي واطلاعه المسبق على أغلب أسراره.
نقطة التحول التي شكلت علامة فارقة في تاريخ قوش السياسي والمخابراتي، بدأت في العام 2004 عندما عيّنه الرئيس البشير مديرًا لجهاز المخابرات وظل في منصبه حتى 2009، إذ احتدمت الخلافات بينه وبين نافع علي نافع مساعد البشير ونائب رئيس الحزب الحاكم والأخير كان يسيطر على مفاصل الدولة والحزب آنذاك، فاصطدم معه قوش وعمد البشير إلى فك الاشتباك بينهما عن طريق إقالة قوش من جهاز الأمن وتعيينه مستشارًا للشؤون الأمنية وهو منصب لم يمكث فيه كثيرًا بسبب تجدد الصراع بينه وبين نافع وخروجه إلى العلن عندما عاد نافع وقوش إلى التلاسُن، إثر قيام الأخير بإدارة حوار مع الأحزاب السياسية، بينما رد نافع علي نافع في برنامج “مؤتمر إذاعي” أن الحزب الحكام غير معني بهذا الحوار، فعلق عليه قوش في مؤتمر صحفي آخر بأن “كلام نافع يخصه هو”، وما لبث أن أصدر الرئيس البشير قرار الإعفاء عام 2011 الذي فُسِّر بوجود صراعات داخلية بالحزب، ولم يتبق حينها لقوش سوى عضويته في البرلمان عن دائرة مروي.
محاولة انقلابية
بشكلٍ مفاجئ اعتُقل قوش بعد نحو عام من إعفائه ليُسجن 7 أشهر بتهمة المشاركة في محاولة انقلابية، واتُهم بالتآمر على الدولة، حيث أعلنت السلطات السودانية حينها أن الأجهزة الأمنية اعتقلت 13 من ضباط الجيش وجهاز الأمن والمخابرات وعناصر مدنية “لتورطهم” في محاولة انقلابية، ومن أبرزهم مدير جهاز المخابرات السابق الفريق صلاح قوش وقائد الحرس الرئاسي الأسبق اللواء محمد إبراهيم الشهير بـ”ود إبراهيم”.
أُفرج عنه عام 2013 بموجب عفو رئاسي بعد وساطات تبنتها قيادات رفيعة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم لكنه نفى أي تورط له في محاولة الانقلاب، بعدها تراجع ظهور اسم قوش في عالم السياسة والأمن، وانتقل الرجل إلى عالم المال والأعمال إضافة إلى تصريحات صحفية يدلي بها بين الحين والآخر من موقعه الوحيد “نائب في البرلمان”، إلى أن ظهر اسمه مجددًا في 11 من فبراير/شباط 2018 حيث أصدر الرئيس البشير قرارًا مفاجئًا بإعادة تعيينه مديرًا عامًا لجهاز الأمن والمخابرات السودانية ليعود المدير السابق للجهاز إلى منصبه بعد نحو 10 سنوات من الإقالة.
إعادة قوش مديرًا لجهاز الأمن خلفًا لنائبه السابق محمد عطا شكلت مفاجأة ثقيلة لم يستوعبها الشارع السوداني لأيام، وبحسب مراقبين، فإن إعادة تعيين صلاح قوش يأتي استجابة لمقتضيات المرحلة في ظل تحديات داخلية وإقليمية ودولية، انعكست بشكل مباشر على مجمل الأوضاع في السودان، لا سيما أن الرجل يمتلك شبكة علاقات واسعة إقليميًا ودوليًا مكنته إبان قيادته لجهاز الأمن في أن يحدث اختراقات في مجالات متعددة في تلك الفترة من تاريخ حكم البشير، حيث استطاع أن يخلق تعاونًا وثيقًا مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في إطار الحرب ضد الإرهاب.
فخلال عمله داخل جهاز الاستخبارات، صعد قوش سريعًا في درجات المناصب، وأسندت إليه مهام التنسيق مع الجهاديين الأفغان الذين استقروا في السودان برفقة زعيمهم أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة الذي مكث في ضيافة الحكومة السودانية بين عامي 1990 و1996 ثم ترك نحو 12 مليون دولار بهدف استخدامها في عمليات الجهاد.
قوش لعب دورًا كبيرًا في تعزيز التعاون بين المخابرات الأمريكية وجهاز الأمن السوداني
ونتيجة لسياسات الحُكم الإسلامي في السودان، تعرّض البلد لعقوبات الولايات المتحدة التي أدرجته على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقطعت علاقتها الدبلوماسية به وأوقفت عمل سفارتها في الخرطوم، ليبدأ فصل العقوبات الاقتصادية التي رُفعت لاحقًا في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أواخر عام 2017.
لكنّ قوش لعب دورًا كبيرًا في تعزيز التعاون بين المخابرات الأمريكية وجهاز الأمن السوداني، ففي أبريل/ نيسان من العام 2005، أرسلت الإدارة الأمريكية طائرة خاصة إلى الخرطوم لتقل صلاح قوش، حيث يُعتقد أنه قدّم معلومات تفصيلية عن الجهاديين العرب وتنظيم القاعدة الذين ساهم في تسليمهم، من دون علم وزير الخارجية السوداني، رغم أنه (قوش) أحد المطلوبين للمحكمة الدولية بجانب الرئيس عمر البشير إذ يشتبه في تورطهم في الإبادة الجماعية التي شهدها إقليم دارفور التي خلّفت وراءها 400 ألف قتيل وتشريد مليونيْ شخص.
وكما تعاملت واشنطن مع قوش رغم اعتباره أحد الأعداء رسميًا، كرّرت القاهرة نفس السيناريو، فمدير المخابرات السوداني الموضوع على القوائم السوداء لاتهامه بمحاولة اغتيال مبارك، أوحى لاحقًا لبعض المقربين منه بأنه قاد ملف عودة العلاقات بين السودان ومصر التي توترت عقب المحاولة الفاشلة، حيث تمكّن مع مدير المخابرات المصرية آنذاك عُمر سليمان من إقناع الرئيس المخلوع حسني مبارك بإعادة العلاقات بين البلدين.
يدعم الإمارات علنيًا ضد قطر
تقول مصادر من الحزب الحاكم إن قوش ظلّ ومنذ الإفراج عنه في يوليو/تموز من العام 2013 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، غير بعيد عن مجريات الأحداث، فيقال إنه ومن خلف الكواليس كان ممسكًا ببعض الملفات الاقتصادية، ويُنسب إليه التوسط لدى المسؤولين الإماراتيين الذين يتمتع بعلاقات وطيدة معهم على دعم حكومة البشير لتخفيف وطأة الأزمة التي يعانيها الاقتصاد السوداني حتى أفلحت جهوده عام 2016 في حصول البلاد على وديعة من الإمارات، بقيمة نصف مليار دولار إلى جانب التزام أبوظبي بتوفير حاجة الدولة من الغازولين لمدة ستة أشهر، وإنشاء محطة طاقة شمسية تنتج ألف ميغاواط من الكهرباء يوميًا.
وقوش لا يخفي دعمه الكامل للإمارات في صراعها مع قطر، حيث صرّح بعد أيامٍ قليلة من اندلاع الخلاف داعيًا قطر إلى ما أسماه “الانصياع لمتطلبات الأمن القومي الخليجي”، وأن تبتعد عن إيران التي رأى أنها تهدد الأمن في العالمين العربي والإسلامي، وأن تبتعد الدوحة عن الشبهات والتحريض الإعلامي، حسب وصفه
ذباب إلكتروني يدعم قوش للرئاسة
يصف المقرّبون من مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني صلاح عبد الله، بأنه شديد الطموح يُجيد مهمة الرجل القوي الذي يحب تسليط الأضواء الإعلامية عليه والترويج لنفسه، وبخلاف نبوغه الذي أظهره في أثناء دراسته للهندسة في جامعة الخُرطوم، فإنّ لقب قوش الذي أُطلق عليه منذ كان طالبًا في جامعة الخرطوم – نسبة إلى عالم رياضيات هندي – ما زال يُطارده إلى اليوم بعدما بات يُعرف به اختصارًا.
وتجلّى طموح قوش في إطلاقه تصريحات إيجابية بحق المتظاهرين وانتقد فيها بعض قرارات الحكومة ربما لتحسين صورته، كما أطلق حسابات على منصات التواصل الاجتماعي للترويج له شخصيًا كبديلٍ محتملٍ للبشير، ولكن الحسابات التي تدعمه تم كشفها بواسطة الشباب الداعمين للثورة ضد النظام، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة:
1- هذه الحسابات أغلبها يستخدم معرفات نسائية بصور جميلة للفت الانتباه.
2- حسابات جديدة تم إنشاؤها بعد اندلاع التظاهرات الأخيرة في ديسمبر الماضي أو يناير أو فبراير.
3- تحاول الترويج لصلاح قوش وأنه رجل المرحلة الذي يمكن أن يحافظ على أمن البلاد ويحقق طموحات الشباب.
4- جزء كبير من الحسابات التي تدعم قوش تعود لمعرفات تم إنشاؤها في مصر.
5- الحسابات المذكورة تغرد من أجهزة كمبيوتر ثابتة أو أجهزة لابتوب وليس من الهواتف الجوالة كالمغردين الآخرين.
لذلك لم يتوانَ الشباب السودانيين الناشطين في تويتر عن كشف حقيقة هذه الحسابات الداعمة والمروجة لصلاح قوش، وقام أحد الناشطين بعمل قائمة لرصدهم تحت مسمى “جِداد قوش”، و(جداد) تعبير محلي سوداني لوصف الذباب الإلكتروني التابع للنظام.
ليس لديه فرص في تولي الحكم
تتضارب الأنباء منذ بث تقرير ميدل إيست أونلاين عن لقاء قوش مع رئيس الموساد عن اعتقال الأول وإعفائه من منصبه، لكن المؤكد أنه لن يكون خيارًا مقبولًا لدى السواد الأعظم من السودانيين للسمعة السيئة التي اكتسبها الجهاز على مدى التاريخ، خاصة الانتهاكات الواسعة التي تورط فيها خلال المظاهرات الأخيرة والتي تم توثيقها بالفيديو والصور.
مهما كانت المآلات التي ستفسر عنها نشر تسريبات “ميدل إيست أونلاين” فإنه من غير الممكن أن يسمح السودانيون لصلاح قوش باعتلاء كرسي الرئاسة، إلا إذا تم ذلك بانقلاب عسكري أو تدخل أجنبي ولكن من المؤكد أن الوضع لن يستقر له إذا حدث ذلك، لأن الجيش سيرفض تنصيبه سريعًا، وكذلك الأحزاب السياسية وعامة الشعب
ولقاء قوش مع رئيس الموساد غير مستبعد في تقديرنا لعدة أسباب، أهمها أن التسريب الأخير يتسق ومعلومات أخرى عن إعداد المخابرات الأمريكية له ليكون بديلًا للبشير في حالة إضعاف سلطة الأخير نتيجة المظاهرات المستمرة منذ 3 أشهر، إضافة إلى أن بيان المخابرات السودانية رغم صدوره السريع لم يستخدم لهجة قوية كأن يهدد قناة الجزيرة أو موقع ميدل إيست بالملاحقة القانونية فلو كانت فرضية الفبركة صحيحة لشرع في إجراءات التقاضي، كما أن الجانب الإسرائيلي لم ينفِ صحة الخبر حتى الآن وهذه نقطة مهمة.
أما ردة فعل البشير التي لم ترشح بعد، فيرجح كثيرون أن يقوم بإبعاده من جديد خلال الفترة القادمة خشية من احتمالية انقلابه عليه، غير أن الرئيس البشير يبدو متخبطًا في قراراته وتشير تسريبات أخرى إلى أنه يتجه فعليًا إلى الاقتراب من محور الإمارات السعودية، إذ تعتقد مجلة الإيكونيميست البريطانية أن البشير ربما كان يبتعد عن الإسلاميين في قطر وتركيا وعلاقتهم مع الإخوان المسلمين ويحاول الدخول في النادي الإقليمي الذي تقوده السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، وهو النادي الناقم على الإخوان المسلمين.
ومهما كانت المآلات التي ستفسر عنها نشر تسريبات “ميدل إيست أونلاين” فإنه من غير الممكن أن يسمح السودانيون لصلاح قوش باعتلاء كرسي الرئاسة، إلا إذا تم ذلك بانقلاب عسكري أو تدخل أجنبي ولكن من المؤكد أن الوضع لن يستقر له إذا حدث ذلك، لأن الجيش سيرفض تنصيبه سريعًا، وكذلك الأحزاب السياسية وعامة الشعب.