في صيف عام 776 قبل الميلاد، بدأ الإغريق الألعاب الأولمبية، تلك الألعاب التي كانت تقام كل 4 سنوات مرة في مدينة أولمبيا، التي لقيت شهرة هائلة وإقبالاً ضخمًا من اليونانيين القدامى، ثم تصاعدت شعبيتها عندما فتحها الإغريق لسكان المستعمرات تعميقًا للثقافة الهللينية ولحضارة الإغريق، وعندما سيطرت الإمبراطورية الرومانية على دول البحر المتوسط ومنها اليونان، وأطلق الرومان على البحر المتوسط لقب “نوستراماري”، أي بحرنا، بدأت الألعاب الأولمبية القديمة في التدهور.
أصدر الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول في العام 393 ميلادية قرارًا ديكتاتوريًا ثوريًا قضى بإلغاء الألعاب الأولمبية باعتبارها مهرجانات وثنية لا تليق بالإمبراطورية الرومانية التي نبذت الوثنية واعتنقت المسيحية، وبعد 1500 عام رقدت “أولمبيا” تحت آلاف من الأطنان من التراب والركام وطين فيضانات نهري آلفيوس وكلاوديوس، ونُهبت خلالها القبائل الهمجية كل كنوز أولمبيا ودمرتها الزلازل.
بعد قرون طويلة، عثر علماء الآثار الألمان بقيادة المايسترو إيرنست كورتيوس على بقايا أولمبيا، وفجَّر ذلك أحلام الفرنسي الذي عشق الرياضة عشقًا مبرحًا، وهو البارون بيير دي كوبيرتان، ويُعرف أيضًا باسم بيير دي فريدي، وقام بمجهود بطولي خارق من أجل أن يبعث الألعاب الأولمبية من جديد، ويعيد إليها الحياة بعد الممات، حتى تمكن البارون في 1894 من تحقيق حلمه، ووافق المجتمع الدولي على بدء الألعاب الأولمبية الجديدة عام 1896.
كان مؤسس الألعاب الأوليمبية الحديثة ومصمم رموزها كالعلم والشعار، البارون بيير دي كوبرتان (1863-1937) يرى أن مبدأ المسابقات الرياضية الجديدة سيقوم على انعدام العنصر السياسي وسيادة الروح الرياضية، لكن ما اتضح بعد مرور أكثر من قرن من تنظيم الألعاب الأوليمية الأولى أن مبادئ بيير دي كوبرتان مُنيت بالفشل، وأنه نفسه كثيرًا ما كان يخالفها، حتى أصبح عالم الرياضة جزءًا من المواجهات الكبرى بين الدول منذ الحرب العالمية الأولى.
الشعلة الأوليمبية التي يتم إشعالها قبل انطلاق الألعاب الأولمبية مباشرة هي اختراع نازي، للتعبير عن الأخوة والتعاون والسلام على حد وصف هتلر
الألعاب الأولمبية النازية
عُرف دي كوبرتان بموقفه المعارض لاشتراك النساء في الدورات الأولمبية بحجة مراعاة التقاليد الأولمبية القديمة التي كانت تحرم على النساء المشاركة في الألعاب أو حتى مشاهدة منافساتها، لكن في ثانية الدورات الأولمبية بمدينة باريس عام 1900 تم السماح للسيدات بالمشاركة في الدورات الأولمبية، حيث شاركت 6 فتيات رغم اعتراض دو كوبيرتان، وتعتبر الإنجليزية شارلوت كوبر أول فتاة تفوز بميدالية أولمبية بعدما فازت بذهبية التنس.
وفي عهده، ظهرت ممارسة فرض العقوبات الرياضية ضد بلدان بأكملها في اللجنة الأولمبية الدولية برئاسة دي كوبرتان بعد الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1920 أبُعد رياضيو ألمانيا والبلدان الحليفة لها عن المشاركة في الأولمبياد بسبب إشعالها نيران الحرب، وجرت ألعاب عام 1924 في باريس دون مشاركة الرياضيين الألمان أيضًا للأسباب نفسها.
سعى هتلر لاستثمار حدث رياضي ضخم في خدمة النازية وإثبات نظريته بتفوق العرق الآري
لكن الألعاب الأولمبية عام 1936 جرت هذه المرة في برلين، وفيها خلق النازيون صورة جديدة لألمانيا كدولة قوية ومتحدة بينما غطوا سياسات الدولة العنصرية وأيضًا العسكرية الألمانية المتزايدة، ما دعا المراقبين في الولايات المتحدة والدول الديموقراطية الغربية الأخرى إلى التساؤل عن مدى أخلاقية مساندة دورة الألعاب الأولمبية التي سيستضيفها النظام النازي.
سعى هتلر لاستثمار حدث رياضي ضخم في خدمة النازية وإثبات نظريته بتفوق العرق الآري، لكن العداء الأمريكي ذا البشرة السمراء جيسي أوينز كان على الموعد، وحصد 4 ميداليات ذهبية، وكسر بمشاركته تلك حق مشاركة اللاعبين ذوي البشرة السمراء في المنتخب الأمريكي.
وبسبب البلد المضيف المعادي لحقوق الإنسان، دُعي الناس في أوروبا والولايات المتحدة إلى مقاطعة دورة الألعاب الأولمبية لأول مرة في تاريخها، لكن على الرغم من النداءات إلى نقل الألعاب إلى مكان آخر بسبب سياسة “الرايخ الثالث” العنصرية والمعادية للسامية، فإن بيير دي كوبرتان الذي أصبح رئيسًا فخريًا للجنة الأولمبية الدولية أعلن أن أدولف هتلر “أحد أفضل المبدعين في عصرنا”.
في بادئ الأمر، درس رئيس اللجنة الأولمبية الأمريكية أفري بروندج، مثله مثل آخرين في الحركة الأولمبية، نقل الدورة التي تنافس فيها 49 فريقًا من مختلف أنحاء العالم، وهو عدد يفوق عدد الفرق التي شاركت في أي أولمبياد من قبل، وبعد تفتيش وجيز، عارض بروندج المقاطعة، مشددًا على أنه لا مكان للميول السياسية في الرياضة، وحارب من أجل إرسال فريق الولايات المتحدة لدورة الألعاب الأولمبية عام 1936.
العداء الأمريكي ذو البشرة السمراء جيسي أوينز
أدار بروندج على نحو مشدد المنشآت الرياضية الألمانية عام 1934، وصرَّح علانية أن الرياضيين اليهود يُعاملون بلا تحيز ودورة اللعاب ستستمر قدمًا كما هو مخطط لها، وأيَّد بيير دي كوبرتان ما قاله بروندج، وزايد عليه بقوله: “على اليهود أن يفهموا أنه ليس بإمكانهم استخدام الألعاب كسلاح في صراعهم مع النازيين”، في حين رأى المؤيدون للمقاطعة أن ألمانيا كسرت القواعد الخاصة بالألعاب الأولمبية التي تمنع التمييز على أساس الجنس أو الدين.
وردًا على تقارير اضطهاد الرياضيين اليهود عام 1933، صرَّح بروندج أن “الركيزة الأساسية للنهضة الأولمبية الحديثة سيتم تقويضها إذا سُمح للدول بتقييد المشاركة بسبب الطبقة أو العقيدة أو العرق”، في حين طُرد المساعد السابق لوزير البحرية إيرنست لي جانك من اللجنة الأولمبية الدولية في يوليو 1936، بعد اتخاذه موقفًا علنيًا شديد المعارضة لدورة برلين، واختارت اللجنة بروندج ليشغل مقعده في إشارة بالغة الدلالة، وجانك هو العضو الوحيد في اللجنة الذي تم طرده على امتداد تاريخها الذي امتد لمدة 100 عام.
وعلى الرغم من أن اللجنة الأولمبية الدولية قدمت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اعتذارًا عن تصرفات موظفيها، فإن ممارسة المقاطعات والاحتجاجات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العديد من الدورات الأولمبية في النصف الثاني من القرن العشرين.
على سبيل المثال، بعد أشهر قليلة من اغتيال مارتن لوثر كينج، أحد قادة حركة الحقوق المدنية للسود الأمريكيين من أصل إفريقي على يد أمريكي أبيض، اُستخدم في أولمبياد عام 1968 لأول مرة في تاريخ الألعاب أسلوب الاحتجاج الاجتماعي السياسي، إذ قام الرياضيان الأمريكيان من أصل إفريقي تومي سميث – صاحب الرقم القياسي 19.83 ثانية – وجون كارلوس على منصة التتويج لسباق 200 متر جري، خلال أداء نشيد الولايات المتحدة بإحناء رأسيهما بتحد، رافعين أيديهما بقفازين أسودين، وكان هذا عمل خططت له منظمة المشروع الأوليمبي لحقوق الإنسان التي كانت تناضل ضد العنصرية وسياسية التمميز العنصري.
العداءان الأمريكيان تومى سميث وجون كارلوس
الرياضة التي أفسدتها السياسة
شكلت الألعاب الأولمبية عبر التاريخ سلاحًا سياسيًا استخدمته الدول لمحاربة بعضها أحيانًا ولإظهار قوتها وسطوتها أحيانًا أخرى، كذلك تعد هذه الألعاب إحدى أفضل الطرق لإعادة بث الروح القومية في البلاد خاصة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، ففي كل مناسبة، كانت الألعاب الأولمبية تمثل حدثًا لتثبيت موقف سياسي أو للقيام بحملات مقاطعة بلد ما.
كرة القدم التي يتابعها اليوم مئات الملايين حول العالم، كانت بالنسبة للبعض في زمن جوزيف ستالين، مخاطرةً هائلة انتهت بلا رحمة بقضايا وهمية وتعذيب وإعدامات
بعد الحرب العالمية الثانية، باتت الألعاب الأولمبية ذات مغزى سياسي أكبر وباتت ترمز للاعتراف السياسي والشرعية، ففي يونيو/حزيران الماضي، كشفت ملفات سرية أفرجت عنها المخابرات الروسية بعد 75 عامًا من القضية المعروفة باسم “ستاروستين”، مدى ارتباط السياسة بكرة القدم، لا سيما إذا كان الحديث عن حقبة تعود للحقبة الستالينية.
وأشارت أجزاء الملفات السرية التي نشرتها المخابرات الروسية، التي اعتبرتها وسائل إعلام “خطوة نادرة” من المخابرات، إلى أن كرة القدم التي يتابعها اليوم مئات الملايين حول العالم، كانت بالنسبة للبعض في زمن جوزيف ستالين، مخاطرةً هائلة انتهت بلا رحمة بقضايا وهمية وتعذيب وإعدامات.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، وفي أواخر عهد السوفيتي جوزيف سالين، فرضت السياسة نفسها بقوة على الألعاب الأولمبية، فالروس عادوا إلى الأولمبياد للمرة الأولى منذ عام 1912، ولكن تحت راية الاتحاد السوفيتي، ومنذ أن بدأ منتخب الاتحاد السوفيتي مشاركته في الألعاب الأولمبية، وسَّع الغرب والشرق حدود نفوذه في المسابقات الرياضية الدولية، ونشأت في الألعاب الأولمبية بعد ذلك ظاهرة المقاطعة السياسية الرياضية.
ورفض لاعبو الاتحاد السوفيتي مع زملائهم من بقية دول المعسكر الاشتراكي الإقامة في القرية الأولمبية مع رياضيي الدول الغربية وفضلوا السكن في بيوت الطلبة، وتحولت الألعاب لساحة مصغرة للحرب الباردة بين الاشتراكية والرأسمالية، فأي نصر في لعبة يفسره كل جانب على أنه تفوق لنظامه.
حدث هذا على نطاق واسع في الألعاب الرياضية الصيفية التي جرت عام 1956 في ملبورن الأسترالية، أول دورة تقام في قارة جنوب خط الإستواء، فبسبب أزمة قناة السويس أعلنت مصر التي تعرضت للعدوان الثلاثي من فرنسا وبريطانيا و”إسرائيل”، والبلدان التي أيدتها، وهي العراق ولبنان وكمبوديا، مقاطعة الأولمبياد.
جُرِّدت اللجنة الأولمبية الإندونيسية من صلاحياتها، لأن سلطات البلاد رفضت استقبال وفدي تايوان و”إسرائيل” للمشاركة في الألعاب الآسيوبة التي جرت عام 1962 في جاكرتا
كما امتد قطار المقاطعة إلى الصين بعد أن اعترفت اللجنة الأولمبية الدولية بـ”تايوان” ولم تعد إلى الألعاب الأولمبية حتى عام 1980، وسبق ذلك أن فرضت اللجنة الأولمبية عقوبات سياسية على جنوب إفريقيا عام 1964، بسبب سياسة التمييز العنصري فيها، وفي عام 1970 اُستبعدت جنوب إفريقيا من عضوية اللجنة الأولمبية الدولية، واستمرت هذه العقوبة 22 عامًا، إلى أن بدأت التغيرات السياسية في البلاد.
وفي عام 1964، جُرِّدت اللجنة الأولمبية الإندونيسية من صلاحياتها، لأن سلطات البلاد رفضت استقبال وفدي تايوان و”إسرائيل” للمشاركة في الألعاب الآسيوبة التي جرت عام 1962 في جاكرتا، ثم عادت الدولتان في دورة بانكوك 1966، لكن مع 4 دول فقط حيث ألقت الحرب الفيتنامية بظلالها على الدورة التي غابت عنها دول كثيرة، كما حاولت كمبوديا تنظيم دورة مشابهة لم تلق نجاحًا كبيرًا.
ملاعب الحرب الباردة
تميزت ثمانينيات القرن الماضي بأحداث اعتبرها الكثيرون فشلاً للحركة الأولمبية الدولية، حيث قاطعت إسبانيا وهولندا وسويسرا وليختينشتاين الألعاب احتجاجًا على الاجتياح السوفيتي للمجر، وامتدت المعركة بين السوفييت والمجر إلى نصف نهائي الكرة المائية، وأنهى الحكم المباراة بعد تحول البركة إلى معركة دامية بسبب اللكمات والركلات ومُنحت المجر الفوز لكونها كانت المتقدمة في ذلك الوقت.
حرب ضروس على انتزاع الميداليات دارت تحديدًا بين الحليفين السياسيين والعملاقين اللدودين رياضيًا الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية
كما أعلنت الولايات المتحدة مقاطعة أولمبياد موسكو عام 1980، كجزء من حملة من الإجراءات التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية للاحتجاج على الحرب السوفياتية في أفغانستان، واستمالت واشنطن إلى جانبها نحو 60 بلدًا، لكنها لم تتمكن من إفشال الألعاب، لأن عددًا من البلدان الغربية التي أيدت المقاطعة منحت رياضييها حق المشاركة في الألعاب تحت الراية الأولمبية، أمَّا بقية البلدان المقاطعة الـ29 فقد شاركت الألعاب البديلة “أجراس الحرية” في فيلادلفيا الأمريكية.
ومع انتهاء دورة الألعاب الأولمبية هذه، ذرف الدب الشهير ميتشا “تميمة الألعاب” دمعة أسى على الرياضة التي أفسدتها السياسة، فبعد 5 أيام فقط من انطلاقها، وفي 24 من مايو/أيار 1980، في الماراثون الذي أقيم في بافالو- نيويورك، قاد غاري فانيللي سباق 15 ميلاً (24 كيلومترًا) في أثناء الاحتجاج على المقاطعة، وقد ارتدى قميصًا رياضيًا كتب عليه “الطريق إلى موسكو تنتهي هنا”.
وفي غياب الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية والآخرين الدائرين في هذا الفلك، وحتى الصين، لم يتأثر المستوى الفني عمدًا، لكن حربًا ضروسًا على انتزاع الميداليات دارت تحديدًا بين الحليفين السياسيين والعملاقين اللدودين رياضيًا الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية، واستطاع البلد المضيف الانتصار فحصد 69 ذهبية مقابل 37 لألمانيا الشرقية و7 لإيطاليا.
وبعد مقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية لأولمبياد 1980، قاد الاتحاد السوفيتي هذه المرة حملة لمقاطعة أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، وانضمت إليه بلدان المعسكر الاشتراكي، وكان الادعاء أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم الألعاب لتحقيق أرباح تجارية، ونظمت هذه البلدان أيضًا ألعابًا بديلة بعنوان “الصداقة 84″، وشارك فيها أكثر من 50 بلدًا.
ومنذ الدخول في الألفية الجديدة، تركت الدورات الأولمبية وغيرها من الأحداث الرياضية المختلفة وتأثيرات السياسة ميراثًا من الشد والجذب لم ينقطع منذ الدورة الأولى للألعاب الحديثة عام 1896، وصولاً إلى نسخة ريو دي جانيرو التي انطلقت عام 2016 في البرازيل في ظل أجواء استثنائية.