سؤال واحد يشغل الجزائريين سواء أولئك الذين خرجوا بالملايين يوم الجمعة أم الذين بقوا في بيوتهم أم من ذهبوا للتنزه أم حتى أولئك الذين طلقوا السياسية وربما كل شيء في هذا البلد، أجل سؤال واحد فقط هو: هل سيستطيع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الراقد منذ أيام في أفخم مستشفيات جنيف بسويسر مغادرة سريره والعودة إلى البلاد لإيداع ملف ترشحه شخصيًا قبل ساعة منتصف الليل أم أن المرض سيكون أقوى ويكفي الجزائريين شر الخروج جمعة جديدة إلى الشارع الذي التهم هذه المرة حياة شخص وتسبب في إصابة 183 آخرين، حسب إحصاءات وزارة الصحة، أم أن الرجل عاد السبت حقًا إلى البلاد أم سيفوض من ينوب عنه حتى إن لم يسمح الدستور بذلك؟
مثل الأيام الأخيرة في البلاد، الأخبار تتوالى بشأن موضوع رئيس وواحد هو هل عاد الرئيس الذي غادر الجزائر منذ أسبوع، ولا خبر رسمي عنه منذ ذلك، أم أنه عاد فعلاً السبت؟ الإجابة غير موجودة في وسائل الإعلام المحلية الرسمية والخاصة، وما توافر ما هو إلا أنباء تنقلها وسائل إعلام غربية، تارة تؤكد مرض وعودة بوتفليقة وتارة تكذب، لكن لا أحد يملك الخبر اليقين لأن الوصول إلى مصادر الخبر إن تعلق الأمر ببوتفليقة فهو ممنوع سواء كان في الجزائر أم في بلاد السويسريين.
تضارب
حتى كتابة هذه الأسطر، لا أحد يعلم ما القرار الذي ينتظر الجزائريين حتى إن بدأت الكفة تميل لصالح فرض الولاية الخامسة التي خرج ضدها الجزائريون، فبوتفليقة القابع منذ أسبوع في الطابق الأخير لأحد مستشفيات جنيف قرر السبت تغيير مدير حملته الانتخابية عبد المالك سلال وتعيين وزير النقل والأشغال العمومية عبد الغني زعلان في مكانه.
في ظل عدم إيراد وكالة الأنباء الجزائرية لأي خبر بشأن عودة بوتفليقة مثلما جرت عليه العادة، يبقى السؤال عن عودة الرئيس من فترة علاجه مطروحًا
وإن كان التخلي عن خدمات سلال مقنعًا بعد التسريب الذي نشر الأسبوع الماضي له خلال حديثه مع رجل الأعمال علي حداد، الذي لا يمانع فيه تعنيف من خرجوا في المسيرات إن تطلب الأمر من أجل نجاح بوتفليقة من جديد في الانتخابات المقبلة، إلا أن اتخاذ قرار مثل هذا إن كان من وراء البحار سيذكر الجزائريين بسؤال تطرحه المعارضة دائمًا: أحقًا الرئيس بوتفليقة من يتخذ هذه القرارات؟
وفي الغرائب التي تعيشها الجزائر اليوم، تخرج وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية ببرقية مفادها أن “المترشح عبد العزيز بوتفليقة عين السبت عبد الغاني زعلان مديرًا لحملته الانتخابية، خلفًا لعبد المالك سلال”، لكن دون أن تذكر المكان الذي اتُخذ فيه القرار هل هو سويسرا أم الجزائر، وهي تعلم أن الخبر الصحفي حتى يكون كاملاً يتطلب الإجابة عن سؤال “أين؟” إضافة إلى الأسئلة الأربع الأخرى المعلومة حتى لدى طالب جامعي في السنة الأولى إعلام.
لكن إذا عرف السبب بطل العجب، فالوكالة مغلوبة على أمرها، وصحة الرئيس الجزائري يجب أن تعرف من وسائل إعلام أجنبية، ففي هذه البلاد كل شيء مستورد، فهل سيتوقف الأمر عند قطاع الإعلام؟
وبالعودة إلى ما جادت به وسائل الإعلام الأجنبية في الساعات الماضية تراوح بين تأكيدات قناة العربية المقرب مكتبها في الجزائر من الرئاسة، وأخبار متوالية لوسائل إعلام روسية وسويسرية قالت إن الرئيس الجزائري ما زال في مستشفى جنيف.
حتى إن أصبح خوض بوتفليقة لسباق الرئاسيات أمرًا واقعًا، إلا أن ذلك لن يوقف تساؤل الجزائريين عن وضعه الصحي الذي جعله عاجزًا عن مخاطبة شعبه طيلة 5 سنوات كاملة
وفي ظل عدم إيراد وكالة الأنباء الجزائرية لأي خبر عن عودة بوتفليقة مثلما جرت عليه العادة، يبقى السؤال بشأن عودة الرئيس من فترة علاجه مطروحًا، وإن بدأ يقل بعد نشر صحيفة “المجاهد” الحكومية تصريحًا بممتلكات بوتفليقة مثلما تنص قوانين الترشح للرئاسيات، ووصول سيارات الشرطة إلى المجلس الدستوري تحضيرًا لمجيء بوتفليقة الأحد.
وحتى إن أصبح خوض بوتفليقة لسباق الرئاسيات أمرًا واقعًا، إلا أن ذلك لن يوقف تساؤل الجزائريين عن وضعه الصحي الذي جعله عاجزًا عن مخاطبة شعبه طيلة 5 سنوات كاملة وأكثر، خاصة بعد تعرضه لجلطة دماغية في أبريل/نيسان 2013، وهي الجلطة التي جعلت مرض الرجل الأول في الجزائر حديث الداخل والخارج وجعلت شعبه يتساءل إن كان في إمكانه إيداع ملفه قبل منتصف الليل أم لا وكأن الأمر مهرب من حكاية سندريلا وعودتها قبل بداية يوم جديد، فما إذًا قصة الرئيس الثمانيني مع المرض؟
ليس حديثًا
قصة الرئيس الجزائري مع المرض لا تعود فقط إلى قبيل ولايته الرابعة، فبوتفليقة لم يستطع أن ينعم بنصر حققه في 2004 عندما فاز على رئيس حكومته علي بن فليس في رئاسيات ذلك العام طويلاً، عندما نُقل على جناح السرعة في 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 2005 إلى المستشفى العسكري الفرنسي “فال دوغراس” في العاصمة باريس، بسبب ما قالت عنه الرئاسة إنه يرجع إلى مشاكل في الجهاز الهضمي تعود إلى قرحة في المعدة تطلبت تدخلاً جراحيًا، ومتابعة طبية أشرف عليها في فرنسا اختصاصي أمراض القلب جاكي مونسوجو، وفي الجزائر البروفيسور مسعود زيتوني.
خلال الولاية الثالثة لبوتفليقة، بدا واضحًا أن الرئيس الذي عدل الدستور ليجعل العهدات الرئاسية مفتوحة أصبح يعاني مشاكل صحية تجسدت في غيابه عن نشاطات رسمية والتقليل من جولاته الخارجية
وشكل هذا الحدث وقتها صدمة في الشارع الجزائر عندما كان بوتفليقة يلقى شبه إجماع وسط المواطنين، فكثرت الشائعات حينها، ما استدعى التليفزيون الحكومي ينقل تصريحًا لأمير أغنية الراي الشاب مامي الذي استعملت السلطة نجوميته وشهرته لإعلام الجزائريين بأن رئيسهم بخير، وسيعود إلى البلاد قريبًا، وهو ما حدث عندما عاد بوتفليقة قبل انقضاء العام لتوقيع قانون مالية 2006 مثلما جرت التقاليد في البلاد، وكانت العودة وسط استقبال جماهيري منهم العمال الذين حشدتهم الإدارة لذلك.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت حلقات مسلسل الرئيس الجزائري مع المرض، فقد عاد إلى المستشفى الفرنسي في 19 من أبريل/نيسان 2006 لإجراء فحوصات طبية، وصارت الإشاعات لا تتوقف بشأن صحة الرئيس تارة بسبب المرض وأخرى بالتعرض لاغتيال، خاصة بعد أنّ فجّر انتحاري في سبتمبر 2007 قنبلةً وسط جمع من المواطنين حضروا لاستقبال بوتفليقة في ولاية باتنة شرق البلاد.
وخلال الولاية الثالثة لبوتفليقة، بدا واضحًا أن الرئيس الذي عدل الدستور ليجعل العهدات الرئاسية مفتوحة أصبح يعاني مشاكل صحية تجسدت في غيابه عن نشاطات رسمية والتقليل من جولاته الخارجية، والأهم بالنسبة لعامة الجزائريين تمثل في قلة خطاباته الرسمية، وهو الذي كان يظهر بشكل شبه يومي في التليفزيون العمومي بعد نشرة الثامنة ليلاً ويتحدث لساعات، حتى صار البعض يطلق على خطاباته المتتالية مسلسلاً مكسيكيًا.
لم يتوقف تأثير مرض بوتفليقة على ما تعيشه الجزائر داخليًا، فالعلاقات الاقتصادية والتاريخية التي تجمع الجزائر مع المستعمر القديم فرنسا عاشت هي الأخرى أزمات بسبب الوضع الصحي للرئيس
ولعل الحادثة الشهيرة التي يتذكرها الجزائريون هي اضطرار الرئيس للظهور من خلال استقبال اللاعب الفرنسي الشهير زين الدين زيدان ذي الأصول الجزائرية في مارس/آذار من 2010 بعد أن راجت شائعات عن مرضه.
وبعدها أصبح من المسلم به أن الظهور النادر للرئيس مرده معاناته الصحية خاصة بعد خطابه الشهير في ولاية سطيف شرق البلاد في 2012 الذي وعد فيه بالرحيل وتسليم المشعل لجيل الاستقلال، ليتأكد ذلك في أبريل/نيسان 2013 عند تعرضه لنوبة إقفارية جعلته يجد صعوبة في الكلام والتحرك، وهي الوضعية التي لا يزال عليها حتى اليوم.
أزمة دبلوماسية
لم يتوقف تأثير مرض بوتفليقة على ما تعيشه الجزائر داخليًا، فالعلاقات الاقتصادية والتاريخية التي تجمع الجزائر مع المستعمر القديم فرنسا عاشت هي الأخرى أزمات بسبب الوضع الصحي للرئيس، لأن الطرف الآخر حاول الاستثمار في ذلك وجعلها فرصة سانحة للاستثمار والابتزاز.
والبداية كانت من انزعاج الرئاسة الجزائرية من التنكيت الذي كان يتعرض له بوتفليقة في البرامج الساخرة التي تبثها القنوات الفرنسية التي تلقى مشاهدة لا بأس به وسط الجزائريين ووسط الجالية الجزائرية المقيمة في بلاد إيمانويل ماكرون التي يصل عددها حتى 5 ملايين جزائري، حسب إحصاءات غير رسمية.
امتعضت الجزائر من توجيه جيلبار كولار النائب عن حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني في الجمعية الوطنية الفرنسية، سؤال إلى الحكومة يطالبها فيه بالكشف عن تكلفة علاج بوتفليقة في مستشفيات فرنسا
وبسبب السخرية التي تعرض لها بوتفليقة في برنامج “لو بوتي جورنال” أي “النشرة الصغيرة” الذي كانت تبثه قناة “كنال بلوس”، رفضت الجزائر منح التأشيرة لصحفي يعمل في هذه القناة خلال زيارة رئيس الوزراء الفرنسي إيمانويل فالس إلى الجزائر في أبريل/نيسان 2016.
لكن حتى هذه الزيارة هي الأخرى تسببت في غضب جزائري بعد نشر فالس صورة مع بوتفليقة تظهر حالته الصحية المتدهورة، كونها جاءت منافية لتصريحات الموالين لبوتفليقة الذين كانوا يتحدثون عن تحسن صحة الرئيس نحو الأفضل، وصنف وقتها الوزير الأول الحاليّ أحمد أويحيى ما أسماه الاستغلال “الدنيء” لصورة بوتفليقة في أثناء استقباله لفالس ضمن حلقة جديدة في مسلسل المساس بالجزائر ومناورة’ تحاك بباريس والجزائر.
وأشار إلى وجود “حقودين” في فرنسا لم يقتنعوا بعد بأن الجزائر الخاضعة للوصاية الأبوية قد زالت منذ أكثر من نصف قرن، متوجهًا إلى هؤلاء بالقول “إذا أرادت فرنسا بناء شراكة متميزة (مع الجزائر) فهناك ثلاث قواعد يتعين العمل بها…”.
وقبل هذه الحادثة، امتعضت الجزائر من توجيه جيلبار كولار النائب عن حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني في الجمعية الوطنية الفرنسية، سؤال إلى الحكومة يطالبها فيه بالكشف عن تكلفة علاج بوتفليقة في مستشفيات فرنسا.
بسبب حالته الصحية، أجل بوتفليقة في مرات عدة زيارات لمسؤولين أجانب مثلما حدث مع الرئيس الإيراني والمستشارة الألمانية، وعدم استقبال ولي العهد السعودي
وقال كولار: “فترة العلاج الطويلة للرئيس بوتفليقة بالمستشفيات العسكرية الفرنسية كلفت الدولة الفرنسية أموالاً كبيرة مقتطعة من ميزانية وزارة الدفاع الفرنسية”، متسائلاً في الوقت ذاته من سيدفع هذه الأموال التي اقتطعت من الخزينة العمومية الفرنسية.
وبسبب هذا اللغط الفرنسي المتواصل بشأن صحة بوتفليقة، اضطر الأخير إلى نقل علاجه نحو جنيف السويسرية التي أصبحت الملاذ الأوحد لفحوصاته المتوالية، لكن رغم ذلك لم يسلم من المقالات التي تتحدث في كل مرة عن صحته، فقال موقع “الجزائر تايمز” مثلاً إن الرئيس الجزائري يعاني من مرض السرطان والقلب والمعدة والكلى، وهي الأخبار التي قد تقنع القراء في بعض الأحيان في ظل التستر الرسمي على درجة مرض بوتفليقة وطبيعة علته.
وبسبب حالته الصحية، أجل بوتفليقة في مرات عدة زيارات لمسؤولين أجانب مثلما حدث مع الرئيس الإيراني والمستشارة الألمانية، وعدم استقبال ولي العهد السعودي.
تجاوز دستوري
في الجزائر، ظل الجدل متواصلاً من 2013 عن مدى قانونية عبد العزيز بوتفليقة في رئاسة البلاد بسبب وضعه الصحي، حيث يشترط قانون الانتخابات على المترشح للرئاسيات أن يقدم شهادة طبية بشأن وضعه الصحي الذي يمكنه من تسيير البلاد، وهو ما لا ينطبق على بوتفليقة الذي ترى المعارضة أن وضعه لا يسمح له بالحصول على شهادة كهذه من طبيب يحترم قسم أبي قراط.
دعوات المعارضة لم تلق خلال الولاية الخامسة لبوتفليقة أي رد من رئيس المجلس الدستوري الراحل مؤخرًا مراد مدلسي، ليستمر الجدل بخصوص قانونية ترشح بوتفليقة للرئاسة من جديد هذا العام
وبعد الفوز في رئاسيات 2014، واستمرار الظهور النادر لبوتفليقة، وإن كان فبوجه شاحب ووضع صحي متعب، طالبت أحزاب المعارضة المجلس الدستوري بتفعيل المادة 102 من الدستور التي تقول: “إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبًا، وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع”.
وتضيف المادة ذاتها أنه “يُعلِن البرلمان، المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معًا، ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبيّة ثلثي (2/3) أعضائه، ويكلف بتولي رئاسة الدولة بالنيابة مدة أقصاها خمسة وأربعون (45) يومًا رئيس مجلس الأمة الذي يمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 104 من الدستور، وفي حالة استمرار المانع بعد انقضاء خمسة وأربعين (45) يومًا، يُعلن الشغور بالاستقالة وجوبًا حسب الإجراء المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين وطبقًا لأحكام الفقرات الآتية من هذه المادة”.
غير أن دعوات المعارضة لم تلق خلال الولاية الخامسة لبوتفليقة أي رد من رئيس المجلس الدستوري الراحل مؤخرًا مراد مدلسي، ليستمر الجدل بخصوص قانونية ترشح بوتفليقة للرئاسة من جديد هذا العام، لكن مع دخول عامل مهم يتمثل في الشارع الرافض لرغبة الرئيس في البقاء في الحكم لخمس سنوات جديدة، فهل ستنجح المسيرات الشعبية المتتالية في تحقيق ما فشلت فيه المعارضة؟
الأكيد أن انتظار الإجابة عن هذا السؤال لن يكون طويلاً، فيوم الحسم قد وصل، وعندها كل الاحتمالات متوقعة لدى لجزائريين الذين يريدون تغييرًا حقيقيًا لكن دون العودة لعيش ما حدث في تسعينيات القرن الماضي، ودون تكرار ما وقع في عدة دول عربية، وهو ما قد لا يتحقق في ظل تمسك معسكر بوتفليقة بالترشح حتى إن لم تتردد المعارضة في دعوة الجيش للتدخل وإيقاف مشروع العهدة الخامسة.