تصريح غير مسبوق أدلى به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال القمة العربية الإسلامية غير العادية التي استضافتها الرياض مؤخرًا، إذ وصف إيران بـ”الشقيقة”، داعيًا لإلزام “إسرائيل” باحترام سيادتها وعدم الاعتداء على أراضيها.
انعقدت القمة التي ترأسها ابن سلمان بمشاركة زعماء وقادة الدول العربية والإسلامية، يوم الاثنين 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لمناقشة الأوضاع في غزة ولبنان، بهدف توحيد الرؤى والمواقف ومتابعة مخرجات قمة مشتركة مماثلة عقدت العام الماضي قبل اتساع نطاق الصراع.
وجاء حديث الحاكم الفعلي للملكة في خضم تحسن كبير تشهده العلاقات بين الرياض وطهران، فقبل تلك التصريحات قام رئيس الأركان العامة السعودية الفريق الأول الركن فياض الرويلي بزيارةٍ مفاجئة إلى العاصمة الإيرانية، عقد خلالها مباحثات مع نظيره الإيراني اللواء محمد باقري، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
وأضافت “إرنا” أن “تطوير الدبلوماسية الدفاعية وتوسيع التعاون الثنائي من بين المواضيع الرئيسية لهذا الاجتماع”.
بينما نقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية “إسنا” عن رئیس هیئة الأرکان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري خلال استقباله نظیره السعودي في طهران یوم الأحد الماضي، قوله: “استمرار تبادل الزيارات بین القوات المسلحة الإيرانية والسعودية في ظل الظروف الراهنة يتمتع بأهمية بالغة في المنطقة والعالم الإسلامي”.
وقال اللواء باقري: “إننا نؤمن بأن التعاون بین القوات المسلحة في البلدین يمكن أن یتعزز بوجود المشترکات والقدرات الهائلة”، حيث اقترح إجراء مناورات بحریة مشتركة خلال العام المقبل “بوحدات السفن أو بصفة مراقب”.
ووصفت عدد من وسائل الإعلام الإيرانية المقربة من الحكومة هذه الزيارة بـ”النادرة”، إذ لم يحدث مثلها منذ عقود، موضحةً أن آخر تواصل عسكري مباشر بين القيادات العسكرية السعودية والإيرانية كان في اتصال هاتفي ديسمبر/كانون الأول 2023، بين اللواء باقري ووزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، تناول التطورات الإقليمية ورفع مستوى التعاون الدفاعي بين القوات المسلحة في البلدين، والقضايا المهمة في العالم الإسلامي.
انقلاب في المواقف السعودية
أثارت التصريحات والمواقف السعودية الأخيرة استغرابًا كبيرًا نظرًا للغة التصعيدية التي كان يستخدمها الأمير محمد بن سلمان ضد إيران منذ صعوده الاستثنائي إلى السلطة في أعقاب تولي والده مقاليد الحكم عام 2015.
بعد ان قال بن سلمان انه سيحارب #إيران وينقل الحرب الى قلب طهران.. رئيس اركان الجيش السعودي يصل #طهران لنقل تحيات ولي العهد السعودي الى القيادة الايرانية من أجل ترتيب مناورة عسكرية مشتركة مع الحـ رس الثـ وري وهو يجلس وخلفه العلم الايراني وسط غياب العلم السعودي.
الذباب السعودي… pic.twitter.com/WM3RMvLsEm— علي فاهم (@alkindy2073) November 11, 2024
وتحت ذريعة مواجهة التوسع الإيراني في اليمن، أطلقت السعودية بقيادة الملك سلمان وابنه الأمير محمد عملية “عاصفة الحزم” لمواجهة الحوثيين في 25 مارس/آذار 2015.
قاد الأمير الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدفاع، تحالفًا عربيًا ضد الحوثيين، الذين سيطروا على جزء كبير من اليمن، واعتبرتهم السعودية بمثابة وكلاء لإيران، المنافِسة الإقليمية للرياض. غير أن الحرب استمرت سنوات طويلة دون أن تحقق أهدافها، بل حدث العكس، وأصبحت المنشآت النفطية السعودية في مرمى صواريخ الحوثي، كما تسبب الصراع في كارثة إنسانية كبيرة، حيث أصبح الملايين على شفا المجاعة.
خلال السنوات الأولى من الحرب كان ابن سلمان يطلق تصريحات متشددة تجاه طهران، خاصة بعد أن قامت المملكة بقطع العلاقات معها عام 2016، فقد هدّد عام 2017 بنقل المعركة إلى داخل إيران، وقال: “نعرف أننا هدف للنظام الإيراني، ولن ننتظر أن تكون المعركة في السعودية، بل سنعمل على أن تكون لديهم في إيران”.
وفي مقابلة له مع التلفزيون السعودي، استبعد ابن سلمان إجراء حوار مع إيران التي اتهمها بأنها “مشغولة بالتآمر للسيطرة على العالم الإسلامي”.
لكن مع طول أمد الحرب في اليمن وتعاظم الخسائر البشرية والعسكرية انسحبت الإمارات حليف السعودية الرئيس، وإن كانت لا تزال تحتفظ بموطئ قدم على الساحل يضمن لها توسعها البحري حتى القرن الإفريقي، كما أحيت رعايتها للانفصاليين الجنوبيين في اليمن مشروعًا قديمًا لفصل المنطقة الساحلية الجنوبية عن اليمن الموحد.
تمخض تدخل الإمارات وانسحابها لاحقًا عام 2020 عن تعزيز كيان مستقل موال لها في اليمن، فيما عوّلت الرياض على إرسال قوات من مصر وباكستان، إلا أن كلتيهما ترددت في التورط على الأرض، لتجد السعودية نفسها تخوض الحرب لوحدها إلا من مشاركة محدودة للجيش السوداني.
أدرك الحوثيون ضعف القدرات السعودية فكثفوا هجماتهم بالطائرات المسيرة على المرافق الاقتصادية السعودية، فاستهدفوا منشآت النفط والمطارات، كان آخرها استهداف عملاق النفط السعودي شركة أرامكو في مارس/آذار عام 2022، وهو ما شكّل تهديدًا كبيرًا لاقتصاد المملكة دفع ابن سلمان لمناشدة الحوثيين قبول مقترحه للسلام.
وأدى اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الأمم المتحدة ودخل حيز التنفيذ في أبريل/نيسان من ذلك العام، إلى انخفاض ملحوظ في الأعمال العدائية، لكن زعيم الحوثيين ادعى مؤخرًا أن السعودية تتواطأ مع “إسرائيل” والولايات المتحدة للحد من هجمات الجماعة على السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى “إسرائيل”، وهو ما نفته وزارة الدفاع السعودية داعيةً جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس.
اتفاق بوساطة صينية
قادت الصين في تكتم تام وساطةً بين السعودية وإيران، إلى أن أعلن الطرفان في 10 مارس/آذار 2023، توصلهما إلى اتفاق يقضي باستئناف قريبٍ للعلاقات الدبلوماسية بينهما بعد 7 سنوات من القطيعة.
ويعد الاتفاق نتاج قناعة من الطرفين “الرياض وطهران” بأن الصراع بينهما بات يتعارض مع مصالحهما، فالسعودية ترغب في إنجاح رؤية 2030 وإعادة التموضع إقليميًا، أما إيران فيبدو أنها ترغب في مواجهة العقوبات الخارجية التي بات تأثيرها كبيرًا عليها، تلك الظروف ساعدت على نجاح الوساطة الصينية، فالمكاسب المنتظرة من السلام أكبر بكثير من المخاطر الناجمة عن استمرار العداء بين الجانبين السعودي والإيراني. هذا بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية والسياسية التي قد تجنيها بكين من لعب دور الوسيط على حساب خصومها “الولايات المتحدة والغرب”، بحسب دراسة لمجلة جورج تاون للشؤون الدولية (GJIA).
إذ استطاعت الصين أن توظف علاقاتها المتميزة مع الجانبين في إحداث اختراق يعد استثنائيًا ومكسبًا للدبلوماسية الصينية، وأعطت وساطة بكين دليلًا إضافيًا واضحًا على سعي القيادة الصينية لتطوير حضورها في منطقة الخليج العربي وأداء دور جديد في مساعي تعزيز استقرار المنطقة ذات الأهمية الكبيرة للصين، كونها المستورد الأكبر للنفط من المنطقة، وفقًا للمصدر السابق.
وفي ظل تصاعد التنافس مع الولايات المتحدة، تمكنت الصين من تجاوز جهود إدارة بايدن لمحاصرتها في مجالها الآسيوي، حيث أسهمت الوساطة الصينية في تحقيق إنجاز لا يستهان به على حساب النفوذ الأمريكي في المنطقة.
استراتيجية سعودية لخفض النزاعات
عرفت الأعوام الثلاث الماضية تغيرات واضحة في السياسة الخارجية للملكة العربية السعودية، بدءًا من المصالحة مع قطر التي كانت الرياض أكثر حماسةً لها وحرصت على إكمال خطوات استعادة العلاقات مع الدوحة بشكل أسرع من دول الحصار الأخرى.
توازيًا مع تطبيع العلاقات مع قطر بدأت المملكة بقيادة ولي العهد تقاربها الكبير والمفاجئ مع إيران ومحاولاتها إيجاد حل سلمي للصراع في اليمن، كما سبق الإشارة لذلك.
ويرى الكاتب بصحيفة الشرق الأوسط المملوكة للحكومة السعودية حسن المصطفى، أن هنالك استراتيجية سعودية تسعى لخفض التوتر في الشرق الأوسط، ومساعي لحل الملفات العالقة مع دول الجوار عبر الحوار المباشر، كجزء من رؤية تعتقد الرياض أنها الطريق الأكثر نجاعة لبناء شبكة أمان إقليمية، خصوصًا في هذا الوقت الدقيق عسكريًا وأمنيًا، الذي تمارس فيه “إسرائيل” إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
ولفت الكاتب السعودي إلى أن المملكة تعمل بشكل مستمر على تطوير هياكل الدولة، وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، وتنويع مصادر الدخل، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص عمل جديدة للمواطنين، وتحويل عدد من المناطق والمدن لأماكن جذب سياحي.
وأضاف: “من هنا، عملت الرياض على دعم المصالحة في اليمن بين الأطراف المتعددة، والدفع نحو تحصين الحدود الجنوبية، وكان هنالك تواصل مع الحوثيين أدى حتى الآن لتفاهمات حمت الداخل السعودي، وجنبته الاعتداءات التي كانت تقع سابقًا، من خلال استراتيجية جمعت بين القوة العسكرية والدبلوماسية والجهود الإغاثية”، وفقًا للكاتب.
قطع الطريق أمام ابتزاز ترامب
إلى جانب الاستراتيجية السعودية المفترضة لخفض التوترات والتركيز على رؤية 2030، بعدما فشلت في تحقيق النصر على الحوثيين ومواجهة إيران، ثمة نظرية أخرى برزت في أعقاب فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية واقتراب عودته إلى البيت الأبيض.
كان من اللافت أن ولي العهد الحاكم الفعلي للمملكة استمر في خطة التقارب مع إيران رغم العلاقة الوثيقة التي تجمع بينه وبين الرئيس الأمريكي المنتخب، والمعروف بانتهاجه سياسة الضغط القصوى على إيران عكس سياسة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن.
فحتى بعد إعلان فوز ترامب بأيام، أدلى الأمير محمد بن سلمان بتصريحاته التي وصف فيها الجمهورية الإيرانية بـ”الشقيقة”، وهو ما يكون مؤشرًا على سيناريو تمت مناقشته مسبقًا في ظل المؤشرات التي كانت تفيد بعودة ترامب.
فالأخير استفاد جدًا في ولايته الرئاسية الأولى من الصراعات التي كانت مشتعلة في المنطقة بين رباعي الحصار من جهة وقطر من جهة أخرى، حيث دعم موقف دول الحصار في البداية، ودعم كذلك موقف السعودية ضد إيران والحوثيين، وجنى مقابل ذلك صفقات بمئات المليارات من الدولارات كان يتباهى بها علنًا في لقاءاته الجماهيرية بالولايات المتحدة.
لذا، من المرجح أن تكون السعودية تسعى من خلال استمرارها في تحسين العلاقات مع إيران، إلى قطع الطريق أمام ابتزاز ترامب الذي تشير التوقعات إلى أنه سيعود لانتهاج سياسة الضغوط القصوى على طهران، كما يرجح أنه سيسعى إلى إسراع صفقة تطبيع محتملة بين السعودية و”إسرائيل” فشل في تحقيقها الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن.
أما إيران فيتوقع أنها ستواصل العمل كذلك على خفض التصعيد مع السعودية، ومع الرئيس المنتخب القادم بقوة إلى البيت الأبيض، إذ كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخرًا نقلًا عن مسؤولين أميركيين أن إيران قدمت ضمانات مكتوبة سرية للولايات المتحدة الشهر الماضي، قالت فيها إنها لن تسعى لاغتيال دونالد ترامب.
أخيرًا، التغيرات الملحوظة التي شهدتها السياسة الخارجية السعودية تجاه الإقليم في السنوات الأخيرة يبدو أنها تشكل تحولًا استراتيجيًا كبيرًا، أبعد من خفض التوترات والتركيز على رؤية المملكة 2030، إذ تسعى الرياض بشكل حثيث وواضح إلى منافسة دولة الإمارات في تنويع الاقتصاد وجذب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية إلى جانب إقامة الفعاليات السياحية مثل موسم الرياض وغيره.
ومن الواضح أيضًا أن السعودية تسعى كذلك إلى تنويع شركائها الدوليين بقبول الوساطة الصينية لحل الخلاف مع إيران، إلى جانب انضمامها المحتمل إلى مجموعة “بريكس” التي تمثل ثقلًا موازيًا للولايات المتحدة، رغم أن الرياض لم تحسم بعد قرارها النهائي في الانضمام للتكتل الصاعد بسبب الحذر السياسي والاقتصادي من تأثير ذلك على علاقاتها مع الولايات المتحدة.