منذ أواخر القرن العشرين، اهتم العديد من الاقتصاديين والباحثين بدراسة وتحليل الطبقة المتوسطة بشكل مكثف، وعلى الرغم من عدم إجماعهم على تعريف واحد لها، فإنهم نجحوا في لفت الأنظار إلى أهميتها ودورها في استقرار الاقتصاد والسياسة والمجتمع، بغض النظر عن جنسية أو عرقية أو عقيدة أبنائها، إذ أصبحت هذه الفئة عنصرًا مهمًا في التوجهات والأنشطة الحكومية التي تسعى بشكل ما إلى الحفاظ على وجود هذه الفئة وتوسيعها قدر الإمكان.
هل ننتمي إلى الطبقة الوسطى؟
بدأ استخدام مصطلح الطبقة المتوسطة في أوروبا أوائل القرن التاسع عشر، وكان يعرف بـ”البرجوازية” التي اعتمدت بالأساس على قطاع التجارة وأرباحها، واستقرت بين طبقة الأرستقراطيين الذين ورثوا ثرواتهم وقوتهم الاجتماعية، وطبقة الفلاحين التي تركز أسلوب حياتهم على الزراعة، وبصفة عامة يعرف العلماء الطبقة الوسطى على أساسين، أولهما: الرأي الاجتماعي والاقتصادي الذي يعتمد في قياساته على حجم الاستهلاك ومستويات الدخل.
وثانيهما، على أساس عدد من العوامل المتغيرة كمستوى التعليم وطبيعة الوظيفة وحجم الأسرة ونوعية السكن والمحيط الاجتماعي ومدى انخراط الفرد بمؤسسات وأنشطة المجتمع المدني، وفي أحيانٍ أخرى، قد يصنفها العلماء من خلال كيفية تحديد هذه الفئة لذاتها وتطلعاتها الشخصية، ويرون أنها تلك الفئة التي تكسب رزقها من العمل ولا ترث ثروات طائلة.
في نفس السياق، يرى الخبير الإستراتيجي في معهد بروكينغز العالمي، هومي خاراس، أن أكثر من نصف سكان العالم سيكونون من الطبقة المتوسطة بحلول العام 2020، ويقصد بذلك الأشخاص الذي يملكون قدرًا كافيًا من المال لتغطية احتياجاتهم الأساسية مثل الطعام والملابس والمسكن، ولا يزالون يملكون بعض المال من أجل بعض الكماليات مثل الطعام الفاخر والدراجات النارية وتحسينات المنزل والتعليم العالي.
لم يكن هناك طبقة متوسطة تقريبًا قبل بداية الثورة الصناعية في ثلاثينيات القرن السابع عشر
فبالنسبة إلى الباحث خاراس، يعتمد تعريف هذه الفئة على المكان، أو بالأحرى، على أسعار السلع في المكان الذي يعيشون فيه، فإذا كنت تحصل على 110-11 دولارات في اليوم، أي ما بين 4 آلاف إلى 40 ألف دولار في السنة، فهذا يعني أنك من ذوي الطبقة المتوسطة، ويختلف ذلك باختلاف معايير المعيشة في كل دولة وعائلة، كما يختلف مقارنة بكمية الأموال التي تنفق على الاحتياجات والأساسيات اليومية.
كما يضيف خاراس إلى ذلك تاريخ ظهور هذه الطبقة ويقول: “لم يكن هناك طبقة متوسطة تقريبًا قبل بداية الثورة الصناعية في ثلاثينيات القرن السابع عشر، كان هناك الفلاحون والمخلصون فقط، نحن الآن على وشك أن يصبح لدينا أغلبية من أفراد الطبقة المتوسطة في العالم”، وهو ما سيكون له عواقب واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي، بحسب رأيه.
دور الطبقة الوسطى في الحركة الاقتصادية
عادةً ما يرى السياسيون الطبقة المتوسطة كنتيجة للنمو الاقتصادي الذي حققوه ولكن في الواقع فإن العكس هو الصحيح، الطبقة الوسطى هي مصدر الازدهار الاقتصادي، فهي توفر قاعدة مستقرة من المستهلكين الذين يدفعون عجلة الإنتاج، التي بالتالي تحقق ريادة الأعمال وتشجع الابتكارات والاستثمارات طويلة الأجل.
فقد أشار إلى ذلك عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز، في كتابه “النظرية العامة للعمالة والفائدة والمال” عام 1936 عندما قال إن استهلاك الطبقة المتوسطة مطلوب لتحفيز الاستثمار، وخلصت إلى ذلك دراسة أخرى من الأستاذ في جامعة أوهايو مارك بارتريدج الذي قال: “طبقة وسطى أكثر حيوية يعني نموًا اقتصاديًا طويل الأجل”، وبتلك الشهادات يمكننا أن نقتنع بقدرة الطبقة المتوسطة على قيادة النمو الاقتصادي.
تتحلى الطبقة المتوسطة بالطموح والرغبة في تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي ولذلك تخاطر بما امتلكته من أصول واستثمارات بهدف الحصول على المزيد والارتقاء إلى درجة أعلى في السلم الاجتماعي
كما دلل على ذلك، توماس مالتوس بكلمات أخرى حين أشار إلى أن التقدم الفكري يحدث غالبًا من المناطق المتوسطة في المجتمع، ففي الوقت الذي يستفيد فيه أبناء الطبقة العليا من أرباح وامتيازات ممتلكاتهم القديمة والمستقرة، ينخفض لديهم معدل الحوافز ويكاد يكون معدومًا وبالتالي يقل لديهم الرغبة في الابتكار والتغيير لأن ذلك سوف يعطل مصالحهم الخاصة، أما أعضاء الطبقة الدنيا، قد يكونوا على استعداد للابتكار والتطوير لكن تبقى الفرص أمامهم محدودة.
على هذا الأساس، تتحلى الطبقة المتوسطة بالطموح والرغبة في تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي ولذلك تخاطر بما امتلكته من أصول واستثمارات بهدف الحصول على المزيد والارتقاء إلى درجة أعلى في السلم الاجتماعي، وتلقائيًا تتأثر الحركة الاقتصادية بهذه الدوافع والتحركات، لا سيما أن هذه الطبقة تنمو بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.
وتكمن قوتها تحديدًا في قدرتها الاستهلاكية، فمن المتوقع أن يصل إجمالي الإنفاق الاستهلاكي إلى أكثر من 15 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2030، أي أن %60 من الإنفاق العالمي سيأتي من الأسر التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وخاصةً مع نمو الدخل الذي سيساعد في انضمام مئات الملايين من الناس إلى هذه الطبقة، ما يعني طبقة أوسع وأثرى وأسواق أكبر وأقوى.
مثال على ذلك ما قام به هنري فورد عام 1914 حين زاد أجور موظفيه بما فيه الكفاية ليتمكنوا من شراء السيارات التي تصنعها شركته، مستندًا إلى القاعدة التي تقول: “إذا قمت بتخفيض الأجور، فإنك تقوم فقط بخفض عدد عملائك”، وهي حكمة منطقية في الأسواق المغلقة، ولذلك وسع فورد سوقه وزاد إنتاجيته وضاعف أرباح الشركة من خلال مساهمته في ظهور طبقة متوسطة عاملة ومستهلكة.
الطبقة المتوسطة في الوطن العربي
تقل الدراسات والحقائق عن هذه الشريحة من المجتمع في البلدان العربية، فهناك من يجادل دون دليل أنها على وشك الاختفاء أو أنها اختفت بالفعل وانضمت إلى طبقة ذوي الدخل المنخفض، ولهذا السبب نلاحظ أن معظم الأبحاث ركزت بشكل ما على السلوك السياسي والقوى السياسية التي ظهرت مؤخرًا على أساس أنها انعكاس لواقع وتطلعات الطبقة المتوسطة، ورغم عدم وجود معيار يحكمها، وما يعزز صحة هذه التقارير التي تشير إلى انخفاض مستوى المعيشة فيها وخسارتها للعديد من الحوافز والامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، هي نسب الفقر التي ترتفع بشكل مستمر سنويًا.
كان يبلغ الوزن السكاني للطبقة المتوسطة في المغرب نحو 58% في عام 2014 ووصل إلى 20 مليون شخص، لكن النسبة انخفضت إلى 50%
فوفقًا لإحصاءات منظمة الأمم المتحدة، فإن هناك ما يقارب 11 مليون شخص في الوطن العربي يعيشون بدولار واحد تقريبًا في اليوم، ما ساهم في زيادة الفجوات بين الطبقات الاجتماعية، وحسب بحث صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية العام 2013، فإن الطبقة الوسطى تشكل ما نسبته 44.5% من مجموع سكان المنطقة العربية، أي قرابة 146 مليون نسمة، يعيش منهم 80 مليونًا في البلدان غير النفطية و66 مليونًا في البلدان النفطية، ويتركز 100 مليون نسمة ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى في مصر والمغرب والسودان والسعودية والجزائر والعراق.
ومن المرجح أن تزيد الصراعات الطائفية والاحتكار الاقتصادي والبيروقراطية والفساد والظلم الاجتماعي الضغوط على هذه الطبقة وتزيد من انحسارها والتوزيع غير العادل للثروات والفرص المهنية، وذلك ما يمكن قياسه مثلًا على المغرب الذي اتسعت لديه الفجوة بين الطبقة العليا والمتوسطة، فبحسب الإحصاءات كان يبلغ الوزن السكاني للطبقة المتوسطة نحو 58% عام 2014 ووصل إلى 20 مليون شخص، لكن النسبة انخفضت إلى 50%.
كشف بعض المحللين السياسيين أن الطبقة الوسطى في مصر تآكلت بالفعل بسبب ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير وفقدان العملة المحلية أكثر من قيمتها
يضاف إلى ذلك، ما كشفه تقرير صادر عن البنك الدولي الذي بين أن 15% من الأسر المغربية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وينطبق ذلك على تونس أيضًا التي تقلصت لديها هذه الطبقة من 80% إلى 67% قبل عامين، ما يعني بكلمات أخرى أن 17.5% من الطبقة المتوسطة انضمت إلى الطبقة الفقيرة في المجتمع، علمًَا أن هناك تقارير أخرى تشير إلى انحدار الطبقة بنسبة 30%.
كما ينطبق الأمر نفسه على الوضع في مصر، فبحسب تقرير سابق على رويترز، يكشف بعض المحللين السياسيين أن الطبقة الوسطى تآكلت بالفعل بسبب ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير وفقدان العملة المحلية أكثر من قيمتها على مدار سنوات رئاسة عبد الفتاح السيسي للبلاد، حيث تشير بيانات غير رسمية أن وزن هذه الطبقة انخفض بأكثر من 48% منذ عام 2000 وحتى عام 2015.
وببساطة، فإن معظم العالم يزداد ثراءً تدريجيًا، ويرجع ذلك إلى حد كبير للتجارة الحرة والاستثمارات المنفتحة واعتراف الحكومات بأن سعادة المجتمعات واستقرارها يرتكز على زيادة نمو الطبقة المتوسطة وتلبية توقعاتهم، تجنبًا للانعكاسات الاقتصادية السلبية التي قد تعيق حركة الطلب والعرض في حال إصابة هذه الفئة بالشلل أو الانكماش.