خلال الأسابيع الأخيرة، شهدت الشوارع احتجاجات حاشدة ومتواصلة ضد اثنين من أقدم الحكام الدكتاتوريين في جنوب البحر الأبيض المتوسط. في السودان، دفعت ثلاثة أشهر من الاحتجاجات بالرئيس عمر البشير إلى إعلان حالة الطوارئ، وحل الحكومة ومسؤولي الحكم الفيدرالي في محاولة لتعزيز قبضته على السلطة. ومع ذلك، تواصلت المظاهرات ضده ومن المحتمل أن موقفه يتجه نحو مزيد الضعف، في حين يرى البعض في الأفق نهاية لحكمه الذي استمر لثلاثة عقود.
حيال هذا الشأن، كتب الصحفيان محمد عصمان وماكس بيراك أن “كثيرين في شوارع السودان يعتبرون قرار البشير الذي اتخذه الأسبوع الماضي خطأ كلاسيكيا كرره كل الحكام الدكتاتوريين خلال لحظاتهم الأخيرة في السلطة، وهذا الأمر يزيد من الآمال بأن أيام هذا الحاكم باتت معدودة”.
سنة 2011، عندما اهتز العالم العربي على وقع التغييرات السياسية، نجح نظام بوتفليقة في الحفاظ على مكانه حتى بعد سقوط الأنظمة المجاورة في مصر وليبيا وتونس، وذلك بفضل اعتماده على النظام الاقتصادي الريعي والإعانات الاجتماعية
في الأثناء، تشهد الجزائر في كافة أنحاء البلاد احتجاجات تزايدت وتيرتها في الأيام الماضية، وسط دعوات للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالتخلي عن الترشح للعهدة الخامسة في الانتخابات المزمع عقدها في نيسان/ أبريل المقبل. ويشار إلى أن بوتفليقة بلغ من العمر 82 عاما خلال الأسبوع الماضي، وهو على رأس السلطة في الجزائر منذ سنة 1999. وقد عانى من جلطة سنة 2013 جعلته غير قادر على التنقل إلا في كرسيه المتحرك، كما أنه لم يتحدث في العلن منذ سبع سنوات.
يمكن اعتبار أن الحالة الصحية المتدهورة لبوتفليقة هي أبرز مثال على نظام حكم المسنين الذي ترسخ في الجزائر. ومنذ انتصاره في الحرب الدموية لتحقيق الاستقلال عن فرنسا سنة 1962، ظل حزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان فيما مضى ثوريا، متمسكا بدواليب السلطة. والآن، لا يزال هذا الرئيس المريض على رأس هذا النظام القديم، الذي يحظى بدعم كبار الضباط في الجيش والمخابرات، إلى جانب مجموعة من رجال الأعمال الأثرياء.
سنة 2011، عندما اهتز العالم العربي على وقع التغييرات السياسية، نجح نظام بوتفليقة في الحفاظ على مكانه حتى بعد سقوط الأنظمة المجاورة في مصر وليبيا وتونس، وذلك بفضل اعتماده على النظام الاقتصادي الريعي والإعانات الاجتماعية، من أجل تهدئة التوترات الاقتصادية. ولكن الانخفاض في أسعار النفط العالمية أجبر الحكومة الجزائرية على خفض إنفاقها على البرامج الاجتماعية. ويقول بوبي غوش، المحلل الاقتصادي في وكالة “بلومبيرغ” للأنباء، إن “الإعانات التي تقدمها الحكومة تفقد قيمتها مع مرور الوقت وينساها الناس، والآن بعد مرور ثماني سنوات على الربيع العربي، قد يكون الجزائريون مستعدين لثورة أخرى”.
في كل من الجزائر والسودان، تمتلك الأنظمة الحاكمة تاريخا كبيرا وحافلا بالقمع الوحشي
في الواقع، يحذر المحللون من قدوم ربيع عربي جديد، وذلك ليس فقط بسبب الاحتجاجات التي تشهدها كل من السودان والجزائر التي تأتي في سياقين مختلفين تماما، وإنما لأنه في كل أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لا تزال الظروف مواتية لتغييرات كبرى والأمور في الواقع قد تكون أكثر خطورة.
حيال هذا الشأن، أوضح مارك لينش الصحفي في واشنطن بوست أن “التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها كل الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط اليوم هي أكثر تعقيدا وسوء مما كانت عليه في سنة 2011، كما أن العوامل الهيكلية التي تمهد لوقوع الاحتجاجات وتوسعها لا تزال قوية”. وأضاف لينش أن “الأحداث التي شهدها السودان والجزائر هي جزء من سلسلة أوسع من التحركات الاحتجاجية الشعبية التي امتدت إلى حد الآن إلى أكثر من ثلث بلدان المنطقة على مدى العامين الماضيين فقط، حيث أنها تضاف إلى الاحتجاجات ضد الفساد والحكومات التي شهدها الأردن والعراق وتونس وإيران”.
في كل من الجزائر والسودان، تمتلك الأنظمة الحاكمة تاريخا كبيرا وحافلا بالقمع الوحشي. وتؤكد جماعات حقوق الإنسان أن أكثر من 50 شخصا قتلوا على يد الأجهزة الأمنية السودانية منذ بداية الاحتجاجات في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي. في الأثناء، يقبع آلاف آخرون من بينهم وجوه معارضة بارزة ومحامون وأطباء وصحفيون في مراكز احتجاز تديرها الأجهزة الاستخباراتية السودانية.
يشار إلى أن الحكومة الجزائرية بشكل خاص، دأبت على مدى العقود الماضية على تصوير نفسها على أنها السد المنيع في مواجهة الجماعات الإسلامية المسلحة في شمال إفريقيا. وقد دفعت صورتها، باعتبارها مركز ثقل للحفاظ على الاستقرار في المنطقة وشراكتها في جهود مكافحة الإرهاب مع الدول الأوروبية، الكثير من الحكومات في الغرب إلى التغاضي عن النقائص الديمقراطية وسياسة تضييق الخناق على الأصوات المعارضة.
ربما يأمل حلفاء بوتفليقة كسب المزيد من الوقت للاستعداد لرحيله في النهاية، ولكن شرعيتهم تواجه تحديا من قبل جيل الشباب الغاضب، الذي يمتلك وعيا كاملا بالحالة الصحية لبوتفليقة
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011، عملت الأنظمة الملكية في الخليج وخاصة الرياض وأبوظبي على القضاء على كل الحركات الديمقراطية أو الإسلامية في مختلف أنحاء العالم العربي بحجة السعي لاستعادة الاستقرار. كما امتد دعم هذه الدول إلى حكام من أمثال عمر البشير، متجاهلة سجله الحافل بالانتهاكات. وعلى الرغم من قدرة هذه الأنظمة على القضاء على كل أشكال المعارضة، إلا أن نجاتها أمام موجات الاحتجاجات الشعبية لا تبدو أمرا مضمونا.
مؤخرا، كتب لينش أنه “في ظل تصاعد التحديات الاقتصادية والديمغرافية، فإن المؤسسات السياسية فقدت شرعيتها. والأنظمة الحاكمة التي كانت تمارس أصلا أقصى السياسات القمعية، لم تعد أمامها الآن خيارات أخرى للتصعيد أكثر من ذلك. وحتى إذا لم تنتشر الاحتجاجات الشعبية بنفس السهولة التي توسعت بها سنة 2011، فإن هناك دائما إمكانية وقوع أحداث تشعل شرارة الاحتجاجات من جديد، مثل وفاة حاكم طاعن في السن، أو تعديلات دستورية مثيرة للجدل، أو إصلاحات اقتصادية لا مفر منها، أو حتى نهاية الحروب الأهلية، التي تعد كلها احتمالات تلوح في الأفق”.
ربما يأمل حلفاء بوتفليقة كسب المزيد من الوقت للاستعداد لرحيله في النهاية، ولكن شرعيتهم تواجه تحديا من قبل جيل الشباب الغاضب، الذي يمتلك وعيا كاملا بالحالة الصحية لبوتفليقة. ويقول مصطفى بوشاشي، المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان في العاصمة الجزائرية، إن “الرئيس غير قادر على إدارة شؤون البلاد أو تسمية المسؤولين. إن هذا الرجل لم يعد قادرا على القراءة والكتابة، فهو محتجز كرهينة لدى عصابة من المافيا”.
يوم الأحد الماضي، بدا الأمر كما لو أن الضغوط الشعبية في الجزائر حققت للمحتجين نوعا من الانتصار. ففي رسالة قرأها مدير حملته الانتخابية، أعلن بوتفليقة أنه سوف يترشح فعلا لولاية خامسة، وهو على الأرجح سيفوز بها، بالنظر إلى أن النظام السياسي في الجزائر غير ديمقراطي تماما. كما أشار في هذا الإعلان إلى أنه سيستخدم العهدة الخامسة ليقود حوارا وطنيا يؤدي إلى انتخابات مبكرة في العام المقبل، لن يكون مشاركا فيها.
أما في السودان، يحذر الخبراء من أن قرار البشير بتسليم السلطة إلى أذرع عسكرية تابعة له هو قرار خاطئ سيعود عليه بالوبال
في تغريدة له، علّق أندرو لوبوفيتش، الخبير في شؤون شمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، قائلا إن “هذه الرسالة هي أولى ردود أفعال بوتفليقة على المحتجين، وقد تضمنت اعترافا صريحا بأن دوافعهم منطقية وصحيحة. ولكن لن يكون أمامه مجال كبير للمناورة إذا تواصلت الاحتجاجات رغم ذلك”.
أما في السودان، يحذر الخبراء من أن قرار البشير بتسليم السلطة إلى أذرع عسكرية تابعة له هو قرار خاطئ سيعود عليه بالوبال. ويقول مجدي الجيزولي، المحلل السياسي السوداني، إن “الضباط الذين أسنِدت لهم مهام في إدارة الحكم الآن هم بشكل أو بآخر نفس الأشخاص الذين يجب الحذر من قيامهم بترتيب انقلاب عسكري”.
حتى لو لم يحدث ذلك، فإن المتظاهرين يتعهدون بمواصلة الاحتجاج والعودة مجددا إلى الشارع. وحسب صالح شعيب، المتحدث باسم أهم منظمة تقود التحركات في السودان، فإن “التحركات الأخيرة لعمر البشير ليست إلا محاولة للبقاء في السلطة من أجل تجنب الملاحقات القضائية على الجرائم التي ارتكبها. ونحن سوف نواصل هذا النضال للتخلص من النظام وإعادة بناء البلاد بمؤسسات جديدة ديمقراطية”.