ما الذي يأتي في ذهنك عند الحديث عن كوريا الجنوبية؟ كوريا الجنوبية لديها العديد من الامتيازات كدولة، فهي مثلًا تحتوي على أسرع إنترنت على مستوى العالم، كما أن إنتاجها المحلي يأتي ضمن أفضل 15 دولة، ولديها أقل معدل بطالة على مستوى العالم، ومع ذلك هناك فئة تتضخم يومًا بعد يوم وهي فئة “الوفيات المرتبطة بالانتحار”.
هل الأمر يرجع لضغط نفسي أو مجتمعي؟ هل هي سمة بين الكوريين عمومًا حتى عندما يهاجرون إلى الدول الأخرى؟ وهل يعاني منها الكوريون المولودون خارج كوريا الجنوبية؟
عام 2013 احتلت كوريا المرتبة الثانية على مستوى العالم لأكبر عدد حالات انتحار، بمعدل 28.7 شخص من كل 100 ألف شخص، وقد كان الانتحار المسبب الأول للوفيات في كوريا الجنوبية، خصوصًا للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 39 سنة وذلك وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية.
وفقًا للمكتب الإحصائي الوطني “تونغ-غيشونغ” 통계청 – وهي منظمة حكومية تهدف إلى تقديم بيانات إحصائية متنوعة للدولة -، فإن هناك انخفاضًا ملحوظًا في أعداد حالات الانتحار في البلاد خلال الأعوام الماضية، فمثلا الوفيات المرتبطة بالانتحار عام 2013 كانت تشكل 28.7% من إجمالي الوفيات في كوريا الجنوبية، بينما في عام 2014 أصبحت 27.2% لتنخفض انخفاضًا ملحوظًا في 2016 إلى 26.5%.
هناك العديد من الأسباب تدفع الكوريين إلى الانتحار مثل قضايا الأسرة أو الحياة الاقتصادية، وبالطبع التعليم!
ذلك التغير حدث بعدما بدأت كوريا في 2014 بإنفاق مليوني ونصف يورو في محاولة منها للسيطرة على ظاهرة الانتحار، وهي ليست بالطبع ميزانية كبيرة مقارنة بالحكومة اليابانية التي أنفقت أكثر من 112 مليون يورو لتقليل نسبة الانتحار، لكن إن كانت حالات الانتحار بالفعل في تناقص مستمر. فهذا لا يجيب عن أول سؤال لنا.
لماذا يلجأ الكوريون إلى الانتحار؟
هناك العديد من الأسباب تدفع الكوريين إلى الانتحار مثل قضايا الأسرة أو الحياة الاقتصادية، وبالطبع التعليم! فكوريا الجنوبية كأي دولة غنية لديها نمط حياة باهظ، فعلى الشخص أن يعمل بكثرة وإلا لن يستطيع النجاة.
كشف تقرير صادر عن مجلة العلوم الطبية الكورية “جيه كيه إم إس” JKMS عام 2016 في استطلاع رأي أجراه على 200 ألف مواطن كوري فيما يخص الانتحار، أن 6768 رجلاً و12476 امرأةً لديهم أفكار انتحارية، كما أن هناك 341 من الرجال (أي نحو 4.6%) و481 امرأة (أي 3.9%) من العدد المشارك في الاستطلاع حاولوا بالفعل الانتحار من قبل مرة واحدة على الأقل.
إن أكثر ما يشغل بال المواطن الكوري هو المجتمع والشهادة الدراسية وأن يبدو مقبولًا في أعين الآخرين، فالقبول المجتمعي أحد أهم أسباب الانتحار في كوريا الجنوبية للأسف وخصوصًا للطلاب.
في سبيل مواجهة هذه الظاهرة بدأت كوريا في توفير أشكال متنوعة من العلاج النفسي، كذلك لاحظوا أن جسر نهر الهان من أكثر الأماكن التي يحدث عندها حالات الانتحار، وهناك عدد كبير يلقي بنفسه من فوقه، فبدأوا بنشر صور عائلات وصور سعيدة لتشجيع الأشخاص على عدم القفز، كذلك نشروا الكثير من العبارات المفرحة والمشجعة فوق الجسر.
وأيضًا وضعوا هواتف استغاثة بطول الجسر، وأصبحت تلك المنطقة تحت مراقبة مستمرة من قوات الإنقاذ والشرطة.
كيف يخرج مواطنو كوريا من أشراك اليأس؟
أحد المناهج المتبعة في علاج الراغبين في الانتحار أو الأشخاص الذين حاولوا الانتحار بالفعل هو “مدارس تجربة الموت”، وهي تعلم التلاميذ المصابين بالاكتئاب تقدير الحياة مرة أخرى من خلال المرور بتجربة شبيهة بالموت.
تبدأ التجربة بالحديث عن الموت وكونه جزءًا متصلاً بالحياة لا يتجزأ عنها، ثم يبدأ كل طالب بكتابة رسالة وداع لكل من يحبهم ولكل من آذاهم، كذلك وصاياهم المزيفة، وبعدها يرتدي تلك الثياب التي سيدفن بها، ثم يحمل صورته المغطاة بالشرائط السوداء وينام في أحد التوابيت الذي يُغلق خلفه، ويظل بداخل التابوت لعشر دقائق كاملة يفكرون في حياتهم خلالها، ثم يخرج كل منهم من جديد كمولود حديث.
تعافت كوريا بشكل كبير وسريع بعد تمزيق الحروب لها، بل وخلقت اقتصادًا علميًّا، لقد صنعت معجزة، ولكن هل لتلك المعجزة قيمة في ظل تعاسة شريحة كبيرة من شعبها؟
كذلك هناك الكثير من المدارس التي تتخصص بالاهتمام بكبار السن، ففي كوريا الجنوبية كبار السن لديهم معدلات انتحار أعلى من الصغار بسبب شعورهم بالعبء الدائم على أسرهم.
حركة النمو التي حدثت بشكل سريع لكوريا الجنوبية أسقطت جيلًا كاملًا في هوة بين الحياة ذات الإيقاع السريع وحياتهم القديمة، التي قد يكون فشلهم في مواكبتها سببًا للانتحار.
لقد تعافت كوريا بشكل كبير وسريع بعد تمزيق الحروب لها، بل وخلقت اقتصادًا علميًّا، لقد صنعت معجزة، ولكن هل لتلك المعجزة قيمة في ظل تعاسة شريحة كبيرة من شعبها؟