لطالما تفاخرت الولايات المتحدة بأنها أكبر مانح للمساعدات الخارجية في العالم، ومع ذلك، اتخذت مساعداتها دائمًا من تعظيم مصالحها كنقطة انطلاق وهدف نهائي لها، وتجاهلت في كثير من الأحيان مصالح الدول المتلقية، وأثبتت مواقفها بشكل كاف سعيها لدعم الهيمنة الأحادية القطب وتعطيل نظام التنمية الدولي وتقويض السلام والرخاء والاستقرار العالمي.
واستنادًا إلى واقع الممارسات الأمريكية المرتبطة بالمساعدات، يسلط هذا التقرير الضوء عن الجانب الخفي للمساعدات الأمريكية الخارجية، التي اتسمت في كثير من مراحلها بالأنانية والغطرسة والنفاق، ويكشف طبيعتها وتأثيرها، والأضرار الخطيرة الناجمة عن تصرف الإدارات الأمريكية المتعاقبة بشكل تعسفي تحت ستار المساعدات، وتدخلها عمدًا في الشؤون الداخلية للدول المتلقية لتحقيق مصالحها الخاصة.
من المال إلى السلاح
تعرِّف الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية المساعدات الخارجية بأنها “الأنشطة الممولة من حسابات المخصصات التي يتم توفيرها لمساعدة الدول الأجنبية والمنظمات الدولية وغيرها من الكيانات الأجنبية دون مقابل”، ويمكن أن تشمل المساعدات الخارجية “الأموال والسلع والخدمات والمساعدة الفنية”.
وظهرت فكرة المساعدات لأول مرة إبان الحرب العالمية الثانية عندما اعتمدت الحكومة الأمريكية “خطة مارشال“، نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال، وقدِّمت بموجبها المساعدة الاقتصادية لتمكين دول أوروبا من إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وبناء اقتصادها من جديد، وذلك عن طريق تقديم إعانات وهبات، إضافة إلى حزمة من القروض الطويلة الأمد.
على الرغم من إقرار هذه الخطة في عام 1948، قدمت الولايات المتحدة مساعدات كبيرة للدول الأوروبية عام 1947، وبلغت المساعدات ذروتها في السنوات التي أعقبت الحرب حتى انتهاء تمويل المشروع الذي أطلق عليه لاحقًا “برنامج الانتعاش الأوروبي”، واستمر على مدى 4 سنوات وزعت خلالها أمريكا 13 مليار دولار أمريكي.
كانت الخطة الذراع الاقتصادية للرئيس هاري ترومان لمكافحة انتشار الشيوعية السوفيتية وتسللها إلى مناطق مزقتها الحرب كما فعلت النازية في عشرينيات القرن الماضي، وكان هدفها الأبعد هو تعميق التأثير الأمريكي في القارة العجوز طوال الحرب الباردة وضمان ابتعادها عن دائرة نفوذ الاتحاد السوفيتي الذي رفض الانضمام إلى المشروع، ومنع الدول الواقعة تحت تأثيره في أوروبا الشرقية من الانضمام.
وشرَّعت بعدها الولايات المتحدة القوانين لتوسيع هذه الخطة، منها قانون المساعدات الخارجية عام 1961، الذي وقَّع عليه الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي في ذروة الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية، ولم تعد المساعدات بموجبه تقتصر على التمويل المالي التقليدي، بل صارت تشمل المساعدات التقنية والتدريب وأي خدمات يتم الاتفاق عليها مع الدول.
وصنَّف القانون الجهات المستحقة للمساعدات التي تقدمها الحكومة الأمريكية إلى 4 مجموعات: الحلفاء الاستراتيجيون الذين يحصلون على مساعدات أمنية وعسكرية ثم المنظمات المحلية ومنظمات المجتمع المدني تليها المنظمات الدولية، وأخيرًا الدول الخارجة من الحروب على أن تُمول من خلال الأمم المتحدة ووكلائها.
وتُقسَّم المساعدات الخارجية الأمريكية إلى 3 فئات: أولها المساعدات العسكرية والأمنية، وتستحوذ على 25% من النفقات السنوية المخصصة للمساعدات، وتديرها قيادة المساعدة الأمنية للجيش الأمريكي، وتشمل مبيعات المعدات العسكرية والتعليم والتدريب العسكري في المقام الأول لصالح القوات المسلحة الحكومية، وتدير 4 آلاف حالة مبيعات عسكرية أجنبية تقدر قيمتها بنحو 69 مليار دولار.
ثانيًا، مساعدات الكوارث والإغاثة الإنسانية المعني بها مكتب إدارة الكوارث الخارجية، وتشمل 15% من النفقات السنوية، لكنها تختلف كل عام حسب الأزمات وطبيعتها، ففي عام 2003، بلغت هذه المساعدات ذروتها خلال 30 عامًا، ووصلت إلى 3.83 مليار دولار، بما في ذلك مدفوعات الإغاثة الناتجة عن الغزو الأمريكي للعراق في مارس/آذار 2003 ، ومنذ ذلك الحين، تم توجيه جزء كبير من المساعدات نحو العراق ودول أخرى في الشرق الأوسط مثل أفغانستان وباكستان.
ثالثًا، مساعدات التنمية الاقتصادية، وتستحوذ على النسبة الكبرى من المساعدات التي تمنحها الولايات المتحدة بواقع 60%، وتديرها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتشمل هذه المساعدات البنية التحتية وقروض المشروعات الصغيرة والمساعدة الفنية ودعم الميزانية للدول النامية، ودعم التنمية الاقتصادية الواسعة والاستقرار الاجتماعي والسياسي، ويمكن أن تشمل الدعم غير العسكري المتعلق بالأمن.
ومنذ أوائل التسعينيات، أثارت قضايا الفساد وبقاء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية جدلًا حادًا في الدوائر السياسية والأكاديمية الأمريكية، وفي الفترة ما بين عامي 1995 و2000، تم خفض قوة العمل في الوكالة بنسبة 30%.
وتصنف البلدان النامية هذه الوكالة على أنها أقل المنظمات التي يمكنهم التعاون معها، لأنها تخفي رسوم إدارية عالية وفسادًا وتحقيق أرباح وإنفاقًا باذخًا من جانب المقاولين الأمريكيين، ومن أجل حصول المتلقين على المساعدات الأمريكية المقدمة في معظمها عن طريق الوكالة، يتعين عليهم أن يمروا بإجراءات طويلة ومعقدة، وأن يقرأوا أكثر من 2000 صفحة من شروط وأحكام المشتريات، وأن يخضعوا لموافقات ومراجعات لا نهاية لها.
أكبر المستفيدين.. “إسرائيل” في المقدمة
منذ الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة من أكبر مقدمي المساعدات الخارجية لمختلف البلدان، فقد قدمت أكثر من 3.8 تريليون دولار من المساعدات الخارجية التي تباينت بمرور الوقت بسبب الظروف الجيوسياسية والاقتصادية والأولويات الوطنية والمصالح الأمنية والتجارية، ووصلت إلى ذروتها في عام 1949 عند حوالي 100 مليار دولار، بينما وصلت إلى أدنى مستوياتها عند أقل من 25 مليار دولار في عام 1997.
بين عامي 1946 و2022، أنفقت الولايات المتحدة ما معدله 50 مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل 1% من الناتج القومي الإجمالي اليوم، لكن هذه النسبة انخفضت بعد نهاية الحرب الباردة، ثم ارتفعت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول إلى 1.3% لتغطية نفقات ما أسمته بـ”برنامج الحرب على الإرهاب”.
وفي عام 2021، بلغت المساعدات الأمريكية المقدمة لدول أخرى نحو 0.7% من إجمالي نفقات الحكومة الفيدرالية، ووجهت واشنطن مساعداتها نحو الدول التي تعاني من صراعات داخلية وأزمات إنسانية.
في العام التالي، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 70 مليار دولار كمساعدات خارجية لأكثر من 150 دولة ومنطقة، بالإضافة إلى 30 صندوقًا إقليميًا تذهب إلى دول متعددة، والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية كالمنظمة الدولية للهجرة واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها.
وفي عام 2022، دخلت أوكرانيا على خط المتلقين الكبار، فحصلت على أكبر قدر من المساعدات الخارجية الأمريكية، بقيمة 12.4 مليار دولار، في شكل مساعدات عسكرية واقتصادية خلال العام الأول من الحرب الروسية الأوكرانية، وتبع ذلك “إسرائيل” (3.3 مليار دولار)، وإثيوبيا (2.2 مليار دولار)، وأفغانستان (1.4 مليار دولار)، واليمن (1.4 مليار دولار).
وفي الفترة ما بين عامي 1946 و2024، ذهب أكثر من تريليون دولار، أو ما يقرب من 30% من إجمالي المساعدات الخارجية الأمريكية، إلى 5 دول فقط وهي:
-
إسرائيل (337 مليار دولار)
كانت “إسرائيل” أكبر متلقي تراكمي للمساعدات الأمريكية منذ أربعينيات القرن العشرين، وكان هذا الدعم لأغراض عسكرية في المقام الأول، منها تطوير نظام دفاع صاروخي ومشروعات أخرى، وساعد في ذلك حصولها على أكبر مساعدة عسكرية أمريكية لأي دولة في التاريخ، وتمثل نحو 16% من الميزانية العسكرية الإسرائيلية وفقًا لدائرة أبحاث الكونغرس.
وتوالت المساعدات الاقتصادية لـ”إسرائيل” منذ إنشائها، عندما كان الإسرائيليون يعتمدون على بريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا لتزويدهم بالسلاح، وكان السبب الرئيسي وراء هذه المساعدات هو ضمان المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والحرص على أن تتمتع تل أبيب بتفوق عسكري نوعي على جيرانها، فكانت تمنحها التكنولوجيا العسكرية المتقدمة أولاً، ثم يحصل عليها الآخرون بعد سنوات، أو تقدم لها بعض التقنيات العسكرية حصرًا.
-
مصر (198.9 مليار دولار)
منذ عام 1975، كانت مصر ثاني أكبر الدول التي تلقت مساعدات من الولايات المتحدة، ويرجع ذلك إلى أهميتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وبلغت المساعدات أعلى مستوى لها في أعقاب اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية أو معاهدة “كامب ديفيد” عام 1979.
في ذلك العام، دخلت المساعدات العسكرية كعنصر جديد، والتي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار سنويًا، كجزء من الجهود الرامية إلى تخفيف حدة الصراع العربي الإسرائيلي، والحفاظ على الاستقرار والسلام في المنطقة، على الرغم من انخفاض إجمالي المساهمات عامًا بعد عام.
-
فيتنام (193.8 مليار دولار)
بعد صراع دام عقدين من الزمان، وأودى بحياة الملايين من الفيتناميين ونحو 58 ألف أمريكي، أصبحت فيتنام ثالث أكبر متلق للدعم المالي من واشنطن، جاء جزء كبير من هذه المساعدات خلال حقبة حرب فيتنام، ما يعكس المشاركة العسكرية الأمريكية الواسعة في المنطقة.
وتُستخدم هذه الأموال في التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والدعم العسكري، وحتى في مساعدة جهود التطهير من استخدام الجيش الأمريكي لمادة “العامل البرتقالي” السامة في حربه على فيتنام، والتي لا تزال تتسبب في ولادة أطفال مشوهين ومعاقين ومصابين بالسرطان.
-
أفغانستان (168.5 مليار دولار)
تحتل أفغانستان المرتبة الرابعة، وجاء الجزء الأكبر من هذه المساعدات في أعقاب التدخل العسكري الأمريكي عام 2001، بهدف إعادة الإعمار والتنمية وجهود الاستقرار في أعقاب عقود من الصراع، وفي عام 2015، حصلت أفغانستان على أكبر قدر من المساعدات، وبلغت حينها 5.5 مليار دولار على شكل أسلحة وذخائر.
وخلال 20 عامًا من الحرب، لم تدخر الإدارات الأمريكية المتعاقبة أي جهد لغرس “الديمقراطية واقتصاد السوق الحر” في أفغانستان، وتُظهر الإحصائيات أنها أنفقت 2.3 تريليون دولار على الحرب، بما في ذلك العمليات في كل من أفغانستان وباكستان، بينما بلغت مساعداتها الإنمائية الرسمية لأفغانستان 32.4 مليار دولار، وهذا يعني باختصار أنها كانت تحاول فرض التحول بالمساعدات بينما تسحقها بالمدفعية.
وبعد انسحاب القوات الأمريكية على عجل في 2021، معلنة الفشل التام لما أسمته “خطة التحول الديمقراطي”، برزت أفغانستان كمتلق رئيسي للمساعدات الأمريكية، حيث تلقت مليارات الدولارات سنويًا كجزء من الاستجابة الإنسانية، لكنها تركت البلاد مدمرة، فقد قُتل أكثر من 174 ألف أفغاني، وخرج 3 ملايين طفل من المدرسة بسبب الفقر، وواجه 18.9 مليون شخص نقصًا حادًا في الغذاء، بل تجاوزت الولايات المتحدة أهوال الحرب، وسرقت نحو 9.5 مليار دولار من الأصول الأفغانية علنًا، ما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية في البلاد.
-
كوريا الجنوبية (127.6 مليار دولار)
تلقت كوريا الجنوبية مساعدات خارجية كبيرة من الولايات المتحدة جعلتها خامس أكثر الدول تلقيًا للمساعدات التي كان معظمها في أثناء وبعد الحرب الكورية، وكانت لأسباب متنوعة، بدءًا من إعادة بناء الدولة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تطوير الاقتصاد وتحسين البنية الأساسية خلال الستينيات والسبعينيات، وصولًا إلى الحفاظ على الأمن وتعزيز دفاعاتها في مواجهة كوريا الشمالية، تلبية للمصالح الجيوسياسية الأمريكية في المنطقة.
المصالح الأمريكية أولًا
على مدار أكثر من 7 عقود مضت، كانت المساعدات الخارجية الأمريكية مدفوعة بنظريات واقعية حول مصالحها الوطنية، وكان الهدف الأساسي لها دائمًا تجسيدًا لأنانيتها المتجذرة في تعظيم هذه المصالح وحماية أمنها القومي، وكانت أهداف مثل تعزيز التخفيف من حدة الفقر العالمي والتنمية وتلبية الاحتياجات الإنسانية وتعزيز المؤسسات الديمقراطية، تفسح المجال دائمًا للأهداف الاستراتيجية الأمريكية، وتخفي النية الحقيقية للمساعدات الأمريكية.
في هذا الصدد، أشار عالم السياسة الأمريكي هانز مورغنثاو، أحد رواد القرن العشرين في مجال دراسة السياسة الدولية، في ورقة بحثية نُشرت عام 1962 تحت عنوان “النظرية السياسية للمساعدات الخارجية”، إلى أن “المساعدات الخارجية لا تختلف عن السياسة الدبلوماسية أو العسكرية أو الدعاية، إنها كلها أسلحة في الترسانة السياسية للولايات المتحدة”.
وفي عام 1966، نشر خبير العلاقات الدولية الأمريكي ديفيد بالدوين كتابه “المساعدات الخارجية والسياسة الخارجية الأمريكية”، الذي أشار فيه بوضوح إلى أن “المساعدات الخارجية هي في المقام الأول أداة من أدوات الحكم، وبعبارة أخرى، هي وسيلة تحاول بها دولة ما أن تجعل الدول الأخرى تتصرف بالطرق المرغوبة”.
على سبيل المثال، خلال الحرب الباردة، لم يخرج الهدف الرئيسي للمساعدات الأمريكية – كما سبق القول – عن رغبتها في مكافحة انتشار الشيوعية وتعزيز الهيمنة الأمريكية، وبعد هجوم 11 سبتمبر، تحول هدف المساعدات الخارجية الأمريكية إلى “مكافحة الإرهاب العالمي” لضمان الأمن القومي.
وخلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السابقة، دافعت الإدارة الأمريكية عن شعار “أمريكا أولًا”، وتأثرت المساعدات الخارجية بشكل عميق بالشعبوية والقومية التي استشرت في عهده، وانعكست على مسؤوليتها تجاه تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب وقضايا التنمية الأخرى.
وتحت ذريعة عدم الاتفاق مع المصالح الأمريكية الاقتصادية والأمنية، قاد ترامب انسحابات بالجُملة من اتفاقيات ومؤسسات دولية، بما في ذلك اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ واتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وتخفيض مساهماتها للمؤسسات المتعددة الأطراف، ومطالبة الدول الأخرى بتحمل المزيد من المسؤولية، كل ما سبق يقوض التعاون الإنمائي الدولي المرتبط أساسًا بالمساعدات الخارجية غير المشروطة.
بالإضافة إلى ذلك، علَّقت الولايات المتحدة – خلال إدارة ترامب – مرارًا وتكرارًا أو أعادت تقييم المساعدات إلى دول مثل السلفادور وغواتيمالا وهندوراس وجزر سليمان، باعتبارها تهديدًا سياسيًا وعدم وقفها للهجرة، كما هددت بقطع المساعدات عن عشرات الدول لأنها صوتت ضد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”.
وفي عام 2019، أوقفت واشنطن المساعدات للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، ثم أتبعت ذلك بإلغاء الدعم الأمريكي لوكالة “أونروا” المعنية بغوث الفلسطينيين المهجرين، ما أدى إلى أزمة مالية خطيرة أثرت على الوفاء بحاجات ومتطلبات حياة مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، واضطرت على إثرها إلى تقليص الخدمات وتسريح العمال.
بعد ذلك، منعت الإدارة الأمريكية المساعدات الطبية بقيمة 20 مليون دولار لمستشفيات في القدس المحتلة، وأغلقت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقيل إن هذه الخطوات تهدف إلى الضغط على فلسطين لقبول ما يسمى “صفقة القرن”، والبحث عن تحالفات إقليمية جديدة مع “إسرائيل”، تستثمر تخوف دول عربية على رأسها السعودية من تنامي النفوذ الإيراني.
وفي عهد إدارة الرئيس جو بايدن، لم تعلن واشنطن صراحة عن نيتها الأنانية في تقديم المساعدات الخارجية فحسب، بل دفعت بالمساعدات أيضًا إلى ساحات الحرب الرئيسية بين الدول الكبرى، واستثمرت في الأزمات الإنسانية من خلال مشروعات المساعدات في دول مثل فلسطين وأوكرانيا والعراق وأفغانستان وباكستان واليمن وليبيا وسوريا.
ولأول مرة في التاريخ، تم تعيين مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – وهي السفيرة السابقة للأمم المتحدة سامانثا باور – كعضو دائم في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، ما يؤكد أهمية المساعدات في متابعة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية.
وتعكس الأهداف الاستراتيجية والأمنية التي اقترحتها الخطة الاستراتيجية المشتركة للسنة المالية 2022-2026 الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أن الهدف الأساسي للمساعدات هو حماية المصالح الأمريكية.
المساعدات كادأة هيمنة سياسية
ارتبطت المساعدات الأمريكية منذ فترة طويلة بمصالح شركات وتجار الأسلحة، وأصبحت غطاءً للهيمنة العسكرية الأمريكية، ففي القرن العشرين، استخدمت واشنطن قدرًا كبيرًا من المال لتعزيز الأنظمة الموالية لها في العديد من البلدان النامية، وفقًا للكاتب في صحيفة “جنوب الصين الصباحية” أليكس لو.
وليس ثمة أكثر دلالة على ذلك اليوم من حِزَم المساعدات العسكرية الاستثنائية التي قدمتها أمريكا في السنوات الأخيرة، فمنذ السابع من أكتوبر 2023، قدمت لـ”إسرائيل” مساعدات عسكرية سخية، إذ بلغ إجمالي الإنفاق الأمريكي على العمليات العسكرية الإسرائيلية والعمليات الأمريكية ذات الصلة في الشرق الأوسط ما لا يقل عن 22.7 مليار دولار، من بينها 17.9 مليار دولار وافقت عليها الحكومة الأمريكية كمساعدات أمنية للحرب في غزة وأماكن أخرى.
ووفقًا لمعهد “واتسون للشؤون الدولية والعامة”، التابع لجامعة براون الأمريكية، فإن حجم هذه المساعدات العسكرية أكثر بكثير من أي عام آخر منذ بدء الولايات المتحدة في منح المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل” عام 1959، ومع ذلك، فهي ليست سوى جزء من الدعم المالي الأمريكي المقدم خلال هذه الحرب، وهي أيضًا جزء من مذكرة تفاهم تبلغ قيمتها 38 مليار دولار لمدة 10 سنوات، تم توقيعها مع الولايات المتحدة في عام 2016.
وفي أوكرانيا، أدَّت المساعدات الخارجية الأمريكية إلى إطالة أمد الحرب، واعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2023، بلغ التزام الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا 76.8 مليار دولار، شكلت المساعدات العسكرية الحصة الأكبر منها بنسبة 61%، وتستخدم لشراء المعدات الأمريكية وخدمات التدريب الإلزامية، المعروفة باسم “المساعدات المقيدة”، وجزء منها عبارة عن قرض مالي سيصبح التزامًا طويل الأجل على أوكرانيا.
ووفقًا لوصف النائبة الجمهورية في الكونغرس مارغوري تايلور جرين، فإن المساعدات الإنسانية والعسكرية الأمريكية لأوكرانيا تعادل “غسيل أموال مقنَّع”، بالإضافة إلى ذلك، كشفت وسائل الإعلام الأمريكية والمسؤولون الروس أن الأسلحة التي تساعد الولايات المتحدة في تدفقها إلى السوق السوداء تشكل تهديدًا للأمن الدولي والإقليمي.
بخلاف ما سبق، تصرفت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بتهور تحت ستار المساعدات، فحرَّضت على الثورات الملونة والفوضى والحرب في العالم، وخلقت الانقسامات والمواجهات، وأشعلت فتيل الصراعات الإقليمية، وقوضت الأنظمة الوطنية في بعض الدول، وأغرقتها في مستنقع الاضطرابات السياسية والركود الاقتصادي، ما انعكس بأضرار خطيرة على المجتمع الدولي وعلى شعوب تلك الدول.
وحاولت الولايات المتحدة تحويل بلدان أخرى وتشكيل النظام العالمي وفقًا لقيمها ومعاييرها ونظامها السياسي، وتعزيز ما يسمى “الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان” في العديد من البلدان تحت غطاء الجماعات الحقوقية والجمعيات المهنية ومنظمات العمل ومراكز الفكر المستقلة ورعاية السياسيين المعارضين والقوى الموالية لأمريكا، وتقويض الأنظمة الشرعية والتسلل إليها.
وبخلاف دورها في ثورات الربيع العربي، وثورة الزهور في جورجيا، والثورة البرتقالية في أوكرانيا، وثورة التوليب في قرغيزستان، تسببت الديمقراطية على النمط الأمريكي في حالة من الفوضى العارمة، وحتى الحروب، بسبب عدم ملاءمتها مع الظروف المحلية في بلدان ومناطق أخرى، وفي أحيان أخرى، حاولت واشنطن التأثير على انتخابات 81 مرة في 45 دولة بين عامي 1946 و2000.
كما مولت الولايات المتحدة وحرضت وحتى تدخلت بشكل مباشر عبر أذرعها المانحة للمساعدات، ومن بينها الصندوق الوطني للديمقراطية، وهو منظمة غير حكومية تشارك بشكل علني في أنشطة تصدير الديمقراطية، وتحصل على تمويلها من الحكومة الأمريكية، وتتمثل مهمتها في تعزيز المعارضة المؤيدة للولايات المتحدة والنقابات العمالية ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم.
ولا تنفصل هذه المهمة عن دورها كإحدى الأدوات الناعمة المستخدمة لتمرير نفاق الإدارة الأمريكية في حماية الديمقراطية، وهو ما صرح به المؤسس المشارك للصندوق ألين وينشتاين، في مقابلة أجريت معه عام 1991 مع صحيفة “واشنطن بوست“، قائلًا “إن الكثير مما نقوم به اليوم تم القيام به سرًا قبل 25 عامًا من قبل وكالة المخابرات المركزية”.
وفي حين تحارب أمريكا الإرهاب على مستوى العالم، فإنها ترعى الإرهابيين أيضًا لتحقيق نواياها الجيوستراتيجية الخاصة، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2016، نشر موقع “ويكيليكس” وثائق تُظهر أن الحكومة الأمريكية قدَّمت مساعدات مختلفة لتنظيم القاعدة وداعش من أجل الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا.
كما تستخدم الولايات المتحدة المساعدات كأداة من الأدوات الجيوسياسية لوقف نفوذ الدول الأخرى، ففي السنة المالية 2021، صادق مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع قانون لإنشاء صندوقين لمكافحة النفوذ الصيني والنفوذ الروسي بأكثر من نصف مليار دولار، للحد من طموحات البلدين السياسية والاقتصادية.
وجاء تبرير الميزانية في الكونغرس على النحو التالي: “تنص وزارة الخارجية والعمليات الخارجية والبرامج ذات الصلة بوضوح على أن المساعدات الخارجية هي أداة رئيسية للمنافسة الاستراتيجية، سيستخدم مجلس الدولة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية صندوق مكافحة النفوذ الصيني وصندوق مكافحة النفوذ الروسي لدعم البرامج”.
ويقر المسؤولون الأمريكيون أنفسهم بنوايا المساعدات الخفية، ففي عام 2017، وخلال حضور جلسات استماع حول اقتراح ترامب للميزانية، اعترف وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس، إلى جانب قادة عسكريين آخرين، بأن “المساعدات الخارجية الحديثة ليست صدقة، إنها استراتيجية للأمن القومي الأمريكي في الخارج”، ويدلل على ذلك بفعالية المساعدات الخارجية الاستراتيجية التي قدمتها أمريكا لكوريا الجنوبية في الستينيات، والتي أدت – بحسب قوله – إلى “إنشاء واحدة من أهم حلفائنا وسادس أكبر شريك تجاري لنا، كان العائد أعلى بشكل كبير من الاستثمار”.
ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن دائرة أبحاث الكونغرس، يمكن للمساعدات الخارجية أن تكون بمثابة وسيلة لتعزيز النفوذ العالمي للولايات المتحدة، ومعالجة التحديات العالمية، وتعزيز القيم المشتركة، ومع ذلك، يكشف نفس التقرير أن بعض الأمريكيين وأعضاء الكونغرس يعتبرون المساعدات الخارجية نفقات لا تستطيع البلاد تحملها، نظرًا لعجز الميزانية الحالي وأولويات الميزانية المتنافسة.
تحت ستار المساعدات
في عام 1949، طرح الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، بمناسبة توليه منصب الرئاسة لفترة رئاسية ثانية، “برنامج النقطة الرابعة” للمساعدات الاقتصادية والفنية للمناطق النامية، لا سيما دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان هذا البرنامج بمثابة بداية المساعدات الخارجية الأمريكية للدول النامية، وخصص له الكونغرس مبلغ 25 مليون دولار للسنة المالية 1950/1951، وتشكلت لجنة في وزارة الخارجية تحت اسم “مجموعة المساعدات التقنية” أشرفت على البرنامج.
وفي كتابه “تاريخ التنمية: من الأصول الغربية إلى الإيمان العالمي”، ألقى الباحث السويسري غيلبرت ريست نظرة فاحصة على الفساد الذي يحيط بالمساعدات الخارجية الأمريكية، وكما قال، فإن “برنامج النقطة الرابعة شرعن هيمنة الولايات المتحدة، التي هي في جوهرها إمبريالية جديدة معادية للاستعمار حيث يُنظر إلى التغريب (صبغ حياة الدول بأسلوب الغرب) باعتباره المسار الوحيد للدول النامية لتحقيق التنمية”.
ومنذ إقرار هذا البرنامج، لم تتعامل الولايات المتحدة مع البلدان النامية على قدم المساواة، بل اعتادت أن تقدم لها المساعدات باعتبارها “المنقذ”، وتتصرف بطريقة مهيمنة على الآخرين وفقًا لمعاييرها الخاصة، وتتجاهل التقاليد الثقافية والظروف الواقعية للدول الأخرى للحفاظ على موقفها المهيمن.
وتحت مسمى المساعدات، تمتص الولايات المتحدة دماء البلدان النامية، وتغذي هيمنتها المالية والعسكرية والثقافية، وتتسلل إلى الدول المتلقية بطرق مختلفة، لتفرض ما تسميه “القيم الأمريكية” و”النموذج الديمقراطي” على بعض الدول، وأجبرت دولًا أخرى على تنفيذ ما تراه “تحولًا ديمقراطيًا”، الأمر الذي ألحق ضررًا كبيرًا بالدول النامية.
ومن الناحية الاقتصادية، تجاهلت واشنطن ظروف البلدان المتلقية واحتياجاتها التنموية، وبدلًا من ذلك، فرضت إعادة الهيكلة والخصخصة باسم المساعدات، وصاغت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية علنًا سياسة تلزم البلدان المتلقية باستخدام المساعدات بشكل أساسي لتنمية الشركات الخاصة وليس للاستثمار العام، وبالتالي لا يمكن فصل المساعدات عن نهب الدول النامية.
وفي حين تروج أمريكا لنفسها باعتبارها أكبر مانح للمساعدات الغذائية في العالم، إلا أنها في الواقع تفتعل أزمات الغذاء، فثلاث من أكبر أربع شركات تجارة الحبوب في العالم هي شركات أمريكية، تسيطر على 80% من حجم تجارة الحبوب العالمية، ما يمنح هذه الشركات ليس فقط التلاعب بأسعار الحبوب العالمية فحسب، بل أيضًا التلاعب مرارًا وتكرارًا بقضايا الأمن الغذائي، والسعى إلى تحقيق أرباح ضخمة.
هذا الشكل من أشكال المساعدات المغلفة بالغطرسة، والتي تقوم على معيار واحد، يُرغم الدول النامية على الالتزام بنموذج واحد، ويدفعها إلى مسار تنمية غير ملائم لأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويفرض عليها في كثير من الأحيان شروطًا قاسية تقوض سيادتها وتنتهك كرامتها، ما يؤدي في النهاية إلى تآكل شعورها بالهوية الوطنية والاستقلال السياسي والاقتصادي.
أبرز مثال على ذلك، وهي مؤسسة تحدي الألفية التي أسسها الكونغرس الأمريكي عام 2004، وهي واحدة من وكالات المعونة الأمريكية المتخصصة والمستقلة، والمعروفة بفلسفة جديدة تجاه المساعدات الخارجية، حيث تضع معايير سياسية واقتصادية صارمة في اختيار المتلقين للمساعدات، وتوفر حزمة مساعدات واسعة النطاق وطويلة الأجل تجبر الدولة الشريكة على تنفيذ الإصلاحات التي تتوقعها الولايات المتحدة.
ومنذ نشأتها وحتى عام 2021، أقامت المؤسسة شراكات مع 29 دولة، واستثمرت عبر 38 اتفاقية أكثر من 13 مليار دولار، لكن مواد هذه الاتفاقيات تضع القانون الأمريكي فوق قانون الدولة المتلقية، وتطلب من هذه الدول تلبية المعايير التي حددتها واشنطن للإصلاح السياسي والاقتصادي والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ينتهك بشكل خطير سيادة الدولة المتلقية ويواجه معارضة ومقاومة مستمرة من الدول النامية.
وفي ظل هذا التدخل، لم تفشل الدول المتلقية في تخفيف حدة الفقر فحسب، بل عانت أيضًا من صراعات داخلية عديدة، مع تدهور الوضع السياسي والاجتماعي، ما أدى إلى الاعتماد على المساعدات على المدى الطويل أو حتى الانهيار الاقتصادي والحروب والصراعات، ووقع عشرات الملايين من الناس في براثن الفقر، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وانهار الاقتصاد.
نتيجة لهذه الممارسات، تواجه الولايات المتحدة اتهامات بالابتزاز من خلال المساعدات الخارجية، حيث يُشار إلى براعتها في استخدام المساعدات كورقة مساومة، واستخدام سياسة “العصا والجزرة” لإجبار البلدان النامية على القيام بما تقوله، وهذا يؤدي إلى تقويض التنمية المستدامة للدول المتلقية.
وهم الأرقام الخادعة
رغم تباهي الولايات المتحدة المتكرر بتقديم مساعدات حكومية رسمية أكثر من أي دولة أخرى في العالم، فإن هذه المساعدات تمثل أقل كثيرًا كنسبة من دخلها القومي، وهذا يعني أنها لا تقوم بنصيبها العادل، ولم تفِ قط بمسؤولياتها الدولية بالكامل، وكانت أول من يخلف وعده ويتصرف بشكل أسوأ، وكان هذا نتيجة لتاريخ طويل من مواقف السياسة الأمريكية.
وهناك التزام دولي واسع النطاق بأن تقدم الدول الغنية سنويًا 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي لمساعدة الدول النامية. ومع ذلك، ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لم تفِ الولايات المتحدة قط بهذا الالتزام على الإطلاق في السجلات، فمنذ تسعينيات القرن العشرين، قدمت الولايات المتحدة 0.1% إلى 0.2% فقط من مساعداتها الإنمائية الرسمية، وهو أقل كثيرًا من التزامها بنسبة 0.7%.
وتُظهِر التقارير أن الولايات المتحدة لا تتخلف عن هدف المساعدات البالغ 0.7 % فحسب، بل إنها تؤدي أيضًا أداءً ضعيفًا في أربعة مجالات: فعالية المساعدات الثنائية والشفافية وتقليل العبء على الحكومات المتلقية وإنشاء المؤسسات في البلدان المتلقية.
وفي عام 2011، اعتمدت الأمم المتحدة “برنامج عمل إسطنبول”، وتعهدت البلدان المتقدمة بتخصيص 0.15% إلى 0.2% من دخلها القومي الإجمالي للمساعدات المقدمة لأقل البلدان نموًا، ولم تف الولايات المتحدة بهذا الالتزام قط، حيث ظلت مساعداتها للدول الأقل نموًا أقل من 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي باستمرار.
وكان أداء المساعدات الأمريكية وجودتها ضعيفين على الدوام، مع عدم الكفاءة والهدر والتكرار والاستئثار بالأرباح لصالحها، وفي عام 2021، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأسوأ من حيث إنفاق المساعدات، حيث قدمت 0.13% فقط من دخلها القومي الإجمالي لتمويل التنمية الدولية، مقارنة بمتوسط 0.29% للدول الغنية التي تم تقييمها، والتي حققت 5 منها – النرويج ولوكسمبورج والسويد وألمانيا والدنمارك – هذا المعيار أو تجاوزته.
بالإضافة إلى ذلك، تتدفق معظم الأموال التي يتم الحصول عليها من المساعدات إلى الولايات المتحدة نفسها، وقد اعترفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية علنًا بأن نحو 80% من مدفوعاتها أُنفقت في الولايات المتحدة، كنتيجة لذلك، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الثالثة من الأسفل عالميًا من حيث جودة المساعدات، وكان أداؤها ضعيفًا بشكل خاص من حيث ملكية الدولة المتلقية وتوطين المساعدات.
من ناحية أخرى، سجلت المساعدات الأمريكية المقدمة من خلال منظمات دولية مثل البنك الدولي أو الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا درجات عالية نسبيًا فيما يتصل بالجودة، ولكن الولايات المتحدة لا تفضل المنظمات الدولية، بل تقدم 83% من مساعداتها مباشرة إلى المستفيدين، وهي نسبة أعلى من أي من البلدان الأخرى المدرجة في المؤشر.
لا عجب إذًا أن يصنف مركز التنمية العالمية – وهو مركز أبحاث أمريكي ينشر تقرير مؤشر الالتزام بالتنمية كل عام لتقييم المساعدة التي تقدمها أغنى دول العالم للدول الأكثر فقرًا، الولايات المتحدة في الربع السفلي من القائمة في جميع تقارير مؤشر الالتزام بالتنمية خلال السنوات السابقة تقريبًا، ففي أحدث تقرير صادر في عام 2023، وضع المركز الولايات المتحدة في المرتبة الأخيرة بين جميع الدول الـ21 المشمولة.
وتشكل المساعدات المقدمة لمكافحة تغير المناخ مثالًا نموذجيًا لالتزام واشنطن بالكلام فقط وليس الأفعال، ففي حين تعهدت البلدان المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، خلال قمة كوبنهاغن للتغير المناخي “كوب 15” في عام 2009، بتقديم ما لا يقل عن 100 مليار دولار من المساعدات المناخية سنويًا إلى البلدان النامية لمساعدتها على خفض الانبعاثات ومواجهة تداعيات التغير المناخي حتى عام 2020، إلا أنها لم تف بهذا الالتزام بعد، بل تم تأجيل الموعد النهائي للتمويل.
ورغم كونها واحدة من الدول المتقدمة الرئيسية المسببة للانبعاثات، تُظهِر منظمة “كاربون بريف“، وهي منظمة أبحاث في مجال الطاقة بالمملكة المتحدة، أن الولايات المتحدة يجب أن تقدم 39.9 مليار دولار كمساعدات مناخية كل عام وفقًا لحصة انبعاثات الكربون التاريخية، لكن في عام 2020، قدمت 7.6 مليار دولار فقط، وهو ما يمثل 19% فقط من حصتها المسؤولة المقدرة، وتساهم بأقل قدر بين الدول المتقدمة الـ23 المعنية.
وفي عام 2021، تعهد بايدن بتقديم 11.4 مليار دولار سنويًا كمساعدات مناخية للدول النامية من أجل التحول إلى الطاقة النظيفة والتكيف مع المناخ، لكن في الواقع، لم تؤمن الولايات المتحدة سوى مليار دولار فقط في عامي 2021 و2022 لتحقيق هذا الهدف، أي أقل من عُشر المبلغ الموعود، وبدلًا من الوفاء بعهداتها المالية، تولت أمريكا زمام المبادرة في التنصل من قضية التعويضات التي أثارتها الدول النامية مرارًا وتكرارًا، وقاومت لفترة طويلة الالتزامات المالية في محادثات المناخ التابعة للأمم المتحدة، خوفًا من المسؤولية القانونية عن تريليونات الدولارات من الأضرار، كما تقول صحيفة “واشنطن بوست“.
وفي السنوات الأخيرة، أطلقت واشنطن مجموعة واسعة من المبادرات الرنانة التي كان عمادها المساعدات، من بينها مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل” الاقتصادية الدولية، والتي تم طرحها في قمة مجموعة السبع في يونيو/حزيران 2021، لتوفير بديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية من أجل تطوير البنية التحتية والاستثمار العالميين في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
لكن مع وجود عدد قليل من المشروعات على الأرض كان جوهر هذه المبادرة الأرقام المخادعة، وتظهر مجلة “فورين أفيرز” أن المبادرة شهدت منذ إطلاقها ركودًا هائلًا، بلغ إجمالي المشروعات المعلنة 6 ملايين دولار، وهو ما يبعد كل البعد عن مليارات الدولارات التي وعدت بها الحكومة الأمريكية التي اقترحت المبادرة بنوايا سياسية أكثر منها اقتصادية، ليس من منطلق الاهتمام باحتياجات تطوير البنية التحتية في البلدان النامية، ولكن كاستعراض سياسي.
وفي إفريقيا، كانت المساعدات الأمريكية مجرد شيكات فارغة، ففي يونيو/حزيران 2013، زار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، جنوب إفريقيا، وأعلن عن مبادرة “الطاقة لإفريقيا”، ووعد باستثمار الأموال لتوليد 20 ألف ميغاواط من الكهرباء في إفريقيا بحلول عام 2020، مدعيًا أن هذه المبادرة ستضيء أجزاءً من القارة التي لا تزال في الظلام، ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2020، لم تتجاوز القدرة الفعلية لتوليد الطاقة في إطار المبادرة 4194 ميغاواط، أي أقل من ربع ما وعدت به المبادرة.
وفي القمة الأولى لقادة الولايات المتحدة وإفريقيا في عام 2014، قدمت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما وعودًا بتقديم مساعدات للوقاية من الإيدز وعلاجه، لكن بعد تولي ترامب منصبه في عام 2017، خفضت الحكومة الأمريكية هذه المساعدات بشكل كبير، لتبدو فشل القمة واضحًا في تحقيق نتائج ملموسة للدول الإفريقية.
ومع انعقاد القمة الثانية في ديسمبر/كانون الأول 2022، تعهدت الإدارة الأمريكية في عهد بايدن بتقديم 55 مليار دولار لدعم أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، لكن اتضح أن أقل من ربع هذا المبلغ عبارة عن مشروعات تم توقيعها حديثًا، في حين أن المبلغ المتبقي عبارة عن إعادة تجميع لمبادرات واتفاقيات أمريكية مختلفة مع إفريقيا في السنوات الأخيرة.
ووفقًا لرئيس قسم ممارسات إفريقيا في مجموعة أوراسيا، أماكا أنكو، فإن “خطاب بايدن في هذه القمة كان رائعًا وجميلًا، لكنه أجوف، لذا فإن المشكلة ليست حقًا ما يقولونه، إنها ما لا يفعلونه، تقول إدارة بايدن كل الأشياء الصحيحة لكنها تفعل الأشياء بشكل مختلف حقًا”.
على سبيل المثال، خلال فترة جائحة كورونا، أعلنت أمريكا نفسها أكبر مانح للقاحات في العالم، لكنها في الواقع كانت عقبة كبيرة أمام الحرب العالمية ضد الوباء، فوفقًا لمؤسسة “كايزر فاميلي”، وهي منظمة بحثية صحية أمريكية، تعهدت الولايات المتحدة بالتبرع بما لا يقل عن 1.1 مليار جرعة من لقاح فيروس كورونا للعالم بحلول عام 2023، لكن لم يتم الوفاء بـ665 مليون جرعة حتى يناير/كانون الثاني 2023.
بالإضافة إلى الانسحاب من منظمة الصحة العالمية في يوليو/تموز 2020، والتخزين الهائل للإمدادات الطبية واللقاحات، استخدمت الولايات المتحدة اللقاحات منتهية الصلاحية للوفاء بوعود المساعدة، ما دفع مجلة “هارفارد بوليتيكال ريفيو” إلى وصفها بأنها واحدة من أبرز ممارسي “قومية اللقاحات”، وهو مصطلح خرج من رحم أزمة كورونا، وأطلقه رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، للحديث عن استئثار دول بعينها بكميات كبيرة اللقاحات.
ومن المتوقع أن يؤدي الانخراط في مزيد من الهيمنة والغطرسة والنفاق تحت غطاء المساعدات، إلى نتائج عكسية في النهاية، ويضر بالولايات المتحدة نفسها تمامًا كما كان ضارًا بالآخرين، وسيُقابل حتمًا بإدانة ورفض شعوب العالم.