شهد مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في دورته الـ29 التي انطلقت أعمالها صباح أول أمس الأحد في العاصمة الأردنية، عمّان، العديد من المؤشرات والدلالات التي كشفت النقاب عن حزمة من التغيرات التي شابت الخريطة السياسية العربية خلال السنوات السبعة الأخيرة.
وتعد هذه الدورة هي الأولى للمؤتمر بحضور جميع ممثلي المجالس النيابية المنتخبة في الدول العربية منذ 15 عامًا، إذ حضره رؤساء 17 برلمانًا عربيًا، في حين غاب الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي كان من المقرر أن تخصص له كلمة في الافتتاح، ما أثار تساؤلات عدة، بعضها تعلق بالأزمة السورية.
المؤتمر الذي عٌقد تحت عنوان “القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين” وسط توافقات غير معلنة لتنحية الخلافات العربية لصالح دعم القضية الفلسطينية والقدس التي حددت ضمن جدول أعمال المؤتمر كبند وحيد وفق ما أعلن عنه رئيس الاتحاد، ورئيس مجلس النواب المصري علي عبد العال، يبدو أنه لم ينجح في تحقيق الهدف المنشود في ظل ما كشفه من تباين في وجهات النظر أسقط الكثير من الأقنعة.
فلسطين.. قضية العرب الأولى
في الـ13 والـ14 من فبراير الماضي عُقد مؤاتمر وارسو في بولندا بمشاركة العديد من الدول من بينهم 12 دولة عربية، المؤتمر أسقط من حساباته بحسب جدول أعماله وبيان ختامه، القضية الفلسطينية برمتها، معتبرًا أن إيران هي الخطر الذي يزعزع استقرار المنطقة، داعيًا إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني وفق ما كان يروج وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو.
تحديد دعم القضية الفلسطينية كبند وحيد للمؤتمر في دورته الـ29 تزامنًا مع ما يثار بشأن صفقة القرن وجولة مستشار الرئيس الأمريكي وصهره كوشنر، للشرق الأوسط، يأتي وفق البعض ردًا على تجاهل وارسو، وكأن هناك رسالة واضحة للعالم مفادها أن القضية الفلسطينية وعاصمتها القدس ستظل قضية العرب الأولى.
يذكر أنه خلال السنوات الأخيرة تراجعت القضية الفلسطينية على جدول أولويات الغالبية العظمى من العواصم العربية في ظل الانشغال بالأزمات والتحديات الداخلية التي جاءت على حساب القضية الأم، الأمر الذي أعطى الضوء الأخضر للكيان الصهيوني لممارسة ما يحلو له من أنواع التنكيل والانتهاكات بحق الفلسطينين خلال الفترة الأخيرة.
انحدار دور الجامعة العربية
الملاحظة الأولى مع بداية انعقاد المؤتمر تمثلت في الغياب المفاجئ لأمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط، الذي كان مقررًا له إلقاء الكلمة الافتتاحية التي يستعرض فيها المحور الأبرز والوحيد لهذا الاجتماع الذي يمثل علامة بارزة في تاريخ المؤتمرات العربية، إذ لم يغب عنه أي دولة من الدول ذات البرلمانات المنتخبة، وهذا لم يحدث منذ عقد ونصف تقريبًا.
العديد من الأوساط المعنية والقريبة من المؤتمر أرجعت غياب أبو الغيط لأسباب سياسية على رأسها تجنب الحديث مع الوفد السوري المشارك لأول مرة منذ سبع سنوات، في ظل عدم التوافق داخل الجامعة على عودة دمشق للجامعة العربية مرة أخرى رغم تبني بعض النظم لهذا الطلب.
“واحدة من أهم خطوات دعم الأشقاء الفلسطينيين تتطلب وقف كل أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وعليه ندعو إلى موقف الحزم والثبات بصد كل أبواب التطبيع مع تل أبيب” البيان الختامي للمؤتمر
وأيًا كانت مبررات الغياب فإن ما حدث يجسد حالة انحدار دور الجامعة العربية وتراجع قيمتها وفقدانها لأهميتها في العمل العربي المشترك، في ظل سيطرة بعض الأطراف على صناعة القرار بداخلها، التي تتحكم كذلك في ميزانيتها ومصادر الإنفاق بداخلها وتوجيهها في كثير من الأحيان لخدمة أجندات بعينها.
تجاهل المؤتمر لعدم حضور الأمين العام للجامعة واستكمال عقد جلساته دون شعور بهذا الغياب يجسد حالة التهميش التي باتت عليها المظلة العربية الأم التي كان من المفترض أن تكون الحاضر الأول في مثل هذه اللقاءات التي تهدف في المقام الأول لجمع العرب على كلمة سواء في قضية شديدة الأهمية كالقضية الفلسطينية.
العودة السورية عربيًا
شهد المؤتمر لأول مرة منذ سبع سنوات عودة سوريا لطاولة الاجتماعات مرة أخرى، وذلك بعد تجميد عضويتها إثر الانتهاكات الممارسة ضد الثوار السوريين في 2011، إذ شارك النظام السوري بوفد رسمي برئاسة حمودة الصباغ رئيس مجلس الشعب السوري.
الصباغ قال في تصريحات مقتضبة له لبعض وسائل الإعلام على هامش القمة إن بلاده طالما كانت قلب العروبة النابض وحاضرة في كل المحافل والمؤسس لكل المؤتمرات والاجتماعات العربية، معتبرًا مشاركتها في المؤتمر “أمر طبيعي” مضيفًا “سوريا تخطو خطوات قوية نحو النصر النهائي وهناك إنجازات كثيرة تحققت والحمد لله نقول دائمًا نحن ننظر إلى الأمام نحن متفائلون دائمًا”.
فيما قال عضو الوفد المشارك حامد حسن، في تصريحات لـ”سي إن إن“: “مقر الاتحاد وتأسيسه في دمشق وبقي لسنوات في دمشق، من الطبيعي أن تشارك سوريا اليوم في المؤتمر ومن غير الطبيعي ألا تشارك خلال الفترات التي مضت، ووجود المؤتمر في الأردن هو عامل إضافي لأن العلاقات بين الأردن وسوريا تاريخية”.
عودة سوريا للمشاركات العربية جاء بعد التغيرات الملحوظة التي شهدتها خريطة المعركة بين النظام والثوار لا سيما خلال الأعوام الثلاث الأخيرة منذ التدخل الروسي لدعم نظام بشار الأسد، هذا بخلاف تراجع الدور الأمريكي الذي حمل بمقتضاه تغيرًا كبيرًا في مواقف بعض الدول تجاه الأزمة على رأسها السعودية والإمارات وغيرها.
حمود الصباغ رئيس مجلس الشعب السوري
رفض أشكال التطبيع كافة
نص البيان الختامي للمؤتمر على رفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، إذ نص على أن “واحدة من أهم خطوات دعم الأشقاء الفلسطينيين تتطلب وقف كل أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وعليه ندعو إلى موقف الحزم والثبات بصد كل أبواب التطبيع مع تل أبيب”.
رئيس البرلمان الكويتي مرزوق الغانم، شدد على ضرورة تفعيل هذا البند، مشيرًا أن بلاده الكويت ترفض أي مناقشات تتناول فكرة التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، معتبرًا أنه يدخل ضمن “الحرام السياسي”، وقال إنه يدعو وبكل وضوح، إلى تأكيد أن يكون في البيان الختامي للمؤتمر رفض للتطبيع، متابعًا: “مجرد الحديث عنه والتسويق لهذا الموضوع يجب أن نصنفه نحن، كممثلي الشعوب، في خانة الممنوع الأخلاقي”.
ورأى البيان الختامي للمؤتمر أن “إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، لن يتأتى إلا عبر إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والمضي قدمًا في عملية سياسية أساسها التسوية العادلة لقضايا الوضع النهائي، وتوصلنا في نهاية المطاف لإعلان قيام دولة فلسطين العربية وعاصمتها القدس الشريف، على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، وضمان حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين”.
أكثر ما أثار الجدل في المؤتمر إصرار كل من مصر والسعودية والإمارات على مواصلة السير في خندق التطبيع مع تل أبيب، إذ اعترض وفود الدول الثلاثة على البند الخاص برفض كل أشكال التطبيع
وأضاف “دعم صمود الفلسطينيين في نضالهم التاريخي، والدفاع عن حقوقهم، هو ثابت عربي، وعلى البرلمانات العربية مواصلة العمل في تقديم الدعم السياسي المطلوب لحشد التأييد الدولي لمناصرة الأشقاء الفلسطينيين، وعدالة قضيتهم وصون مستقبل الأجيال”، واصفًا “استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، ومحاولات الاحتلال المستمرة لطمس معالم المدينة المقدسة، من خلال المساس بالوضع التاريخي القائم”، بـ”الاستفزاز لمشاعر العرب والمسلمين، وينذر بمرحلة أكثر تعقيدًا”، مشيرًا إلى أن المطلوب “العمل قدمًا لحماية القدس المحتلة من أي محاولات تستهدف العبث بهويتها التاريخية بصفتها مهبط الرسالات السماوية، ولحملها هوية إسلامية تمثل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”.
وكان السادة عاطف الطراونة رئيس البرلمان الأردني، ونبيه بري رئيس البرلمان اللبناني، ومرزوق الغانم رئيس البرلمان الكويتي، مُجتمعين رأس الحربة في فرض نص صريح في البيان الختامي يُدين التطبيع، ومن المُفارقة أن الاثنين يُمثّلان برلمانيين مُنتخبين، ولعلّ السيد الغانم كان قويًّا في كلمته أمام الاجتماع، واستحق التّصفيق الحاد، عندما دعا إلى “رفض مجرد الحديث أو التسويق للتطبيع”، معتبرًا أنه “في خانة الحرام السياسي، والممنوع الأخلاقي”.
إصرار السعودية والإمارات ومصر على التطبيع
أكثر ما أثار الجدل في المؤتمر إصرار كل من مصر والسعودية والإمارات على مواصلة السير في خندق التطبيع مع تل أبيب، إذ اعترضت وفود الدول الثلاثة على البند الخاص برفض كل أشكال التطبيع، مطالبين بضرورة تعديلها، الأمر الذي أثار سجالاً واضحًا داخل أروقة الاجتماع.
البداية عندما تقدم الوفد البرلماني الإماراتي، خلال جلسة مناقشة البيان الختامي للمؤتمر، بورقة تلاها رئيس البرلمان المصري علي عبد العال، طالب فيها بمراجعة صياغة البند الثالث عشر للمؤتمر، المتعلق برفض التطبيع مع “إسرائيل”، ليدعم المطلب فورًا رئيس مجلس الشورى السعودي عبد الله آل الشيخ، في حين اشتعل الخلاف وارتفعت الأصوات الرافضة للمقترح الثلاثي.
التغازل المتبادل بين الطرفين بعد سنوات من العداء، ربما يذهب – وفق خبراء – إلى مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، في ظل فشل الرياض في تحقيق أهدافها في سوريا
بعدها دعا آل الشيخ إلى إزالة هذه التوصية باعتبارها صيغت بشكل دبلوماسي، وقال إن هذا الموضوع من مسؤولية السياسيين وليس البرلمانيين، ودفع هذا التصريح رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة ورؤساء برلمانات آخرين إلى الرد عليه والتأكيد على ضرورة رفض جميع أشكال التطبيع مع “إسرائيل”، فيما ضجت القاعة بالتصفيق الحار من أعضاء بقية الوفود العربية المشاركة.
السنوات الخمسة الأخيرة على وجه الخصوص شهدت تقاربًا غير مسبوق من الدول الثلاثة بجانب سلطنة عمان مع الكيان الصهيوني، تجسدت في صور لقاءات مشتركة وتبادل زيارات وتفاهمات بشأن ملفات متعددة، وبات الحديث عن تحالف يجمع بينهم أمرًا عاديًا ومستساغًا لدى حكومات تلك الدول في الوقت الذي تتمسك فيه الشعوب بموقفها الرافض لكل أشكال التطبيع في ظل استمرار احتلال الأراضي العربية.
التقارب السعودي السوري
المشهد الخامس الذي فرض نفسه بقوة على أجواء المؤتمر المغازلة الواضحة بين المندوب السعودي ونظيره السوري، الذي تمثل في تبادل التصريحات الدافئة التي تعكس حجم التغير الواضح في الموقف السعودي تجاه نظام الأسد وهو الذي كان يعتبر بقاءه في الصورة خطًا أحمر غير قابل للنقاش.
المندوب السعودي ثمن عودة سوريا للاجتماعات العربية مرة أخرى ورحب بها، رافضًا تسديد دمشق للديون المترتبة عليها لخزينة الاتحاد البرلماني خلال السنوات الماضية والعام الحاليّ فيما رد عليه الصباغ بأن بلاده تنظر دومًا للأمام ولن تلتفت للخلف مرة أخرى على حد قوله.
التغازل المتبادل بين الطرفين بعد سنوات من العداء، ربما يذهب – وفق خبراء – إلى مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، في ظل فشل الرياض في تحقيق أهدافها في سوريا بعد إعلان الرئيس الأمريكي سحب قواته من هناك، هذا بخلاف ما أثير بشأن مشاركة المملكة في إعادة الإعمار بما يحفظ لها موطئ القدم الذي تسعى له في مواجهة النفوذ الإيراني المتمدد.