في قلب الصحراء الشرقية جنوب مصر مابين محافظتي أسوان والبحر الأحمر تتفرع مساراتها، تمتد حتى شمال شرق السودان، تعود أنسابها إلى عبّاد بن محمد بن كاهل ومنه إلى الصحابي الجليل الزبير بن العوام، ابن عمة رسول الله، إنها قبيلة العبابدة.
تشير الدراسات إلى هروب ابناء الصحابي الجليل إلى جنوب مصر عن طريق جدة، عقب مقتل والدهم على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، ليتخذوا منها مقرًا، فعاشوا فها وتناسلوا، فكان منهم العبابدة نسبة إلى عبد الله بن الزبير ومنهم الجعافرة نسب إلى جعفر ابن الزبير وغيرهم من آل البيت وكلهم يسمون بالاشراف.
ظل العبابدة سادة الطرقات منذ عصر الرومان، حين كانوا ينقلون خيرات هذه المنطقة الوفيرة، وكان لهم دور بارز في الدفاع عن حدود مصر الجنوبية وشمال السودان، إلا أنهم في الأونة الأخيرة باتوا على قوائم التهميش والتجاهل من قبل الحكومة المصرية والسودانية على حد سواء.. فأي مصير ينتظرهم؟
الرعي والصيد.. نشاطهم الرئيسي
يمتاز العبابدة بعدد من الأنشطة الرئيسية على رأسها الرعي وتربية الجمال، فهم بارعون في إرشاد القوافل التجارية، مع أنهم لا يعتمدون على البوصلات أو مواقع النجوم في الإرشاد، بل على اتجاه الرياح والشمس وهم في تنقل دائم من مكان إلى آخر بحثاً عن الماء.
بعضهم يعيش في جنوب الصحراء الشرقية ما بين وادي النيل والبحر الأحمر وهم يتداخلون مع النوبيين بالقرب من وادي النيل، وللرجل العبابدي زي خاص هو «عربان العبابدة» ويحمل في يده كرباج، وتتمتع جبالهم في تلك المنطة بتوافر العديدمن المعادن الثمينة كـ” الميكا والسبار والذهب والفضة وغيرها من المعادن”.
كما تعتبر مهنة الصيد ذات أولوية بالنسبة إليهم، فأسماك البحر الأحمر ذات جودة عالية، لأنها تتغذى على الفوسفات الموجودة بالشعاب المرجانية، وبالتالي قيمتها الغذائية مرتفعة، ما يجعل الإقبال عليها من التجار في الغردقة والقصير كبيرًا، وقد ارتفعت أسعارها بعد الارتفاع في أسعار المواد البترولية الفترة الماضية، الأمر الذي أحدث حالة من الرخاء النسبي.
أطفال من العبابدة
الزواج.. طقوس وعادات
تتميز الأعراس والأفراح في القبيلة بتعدد الطقوس والعادات رغم ما شابهها من تغير مع التطور خلال العقود الأخيرة،فقد كان قديمًا تستمر ليالي العرس لـ7 أيام متواصلة، خلال الأيام القمرية للشهور العربية، حيث كان يدعى للعرس كل فرد ينتمي للقبيلة من كل حدب وصوب.
حين يفكر الشاب في الزواج يبلغ والدته أولا بالبحث عن شريكة لحياته، وعلى الفور يتم بحث جميع الفتيات في القبيلة للاستقرار لى المناسبة، ثم يذهب العريس مع والده وأقربائه للتقدم بطلب الزواج، ويتم دفع المهر، الذي كان في البداية عبارة عن ناقة أو أكثر، ثم تطور الأمر ليصبح مبلغًا ماليًا يتم الاتفاق عليه، ويتم الزواج فى منزل العروس، حيث يقوم والد العروس ببناء حجرة أو حجرة وصالة في منزله، لكي يقيم فيه ابنته وزوجها، وقد يقيمان عامًا أو اثنين، حتى يتمكن الزوج من بناء منزله الخاص”.
يقدس العبابدة الطبيعية بصورة كبيرة، فمن المقولات الشهيرة التي يتداولها أبناء القبيلة “اقطع رأس رجل ولا تقطع رأس شجرة”، فالطبيعة لا يجوز المساس بها
تبدأ ليالي العرس بما يسمى بـ”الشيلة” حيث تحمل كل قبيلة أثناء سفرها، أمتعتها الشخصية، وهدايا الفرح، التي تتنوع بين روائح وحنة سودانية، كما كانت تذبح الشاة لمعازيم الفرح، تتخللهم مبارزات بالسيوف وسباقات هجن بالجمال ورمى الرماح، أما الآن فتستمر الأفراح لمدة 5 أيام فقط، وتقدم الهدايا التقليدية للأفراح المصرية.
ويشارك أبناء القبيلة في ليالي الفرح الأغاني والطرب والكف ويرقصون الـ”تربلة” وهى عبارة عن رقصة بالسيف والدرع، كما توجد أيضًا “الدركة” وهي رقصة خاصة بالقبيلة.
تشتهر القبيلة بأنواع معينة من الأطعمة، في مقدمتها “السلات” وهى عبارة عن لحم مشوي على الزلط، ويتم إعداده بعد يجمع الحطب ويضعه تحت الزلط ويشعل النار حتى يسخن الزلط ويشوى اللحم، كما أن من أشهر المشروبات “الجَبَنة”، وهى القهوة وتحضر عن طريق وضع القلاية الفخارية ويوضع فيها البن الأخضر ثم توضع على الفحم حتى يتم تحميصه ويدق بالهون الفخارى، ثم يحضر الجنزبيل المطحون بالحبهان وتحضر بذلك الجبنة.
يقدس العبابدة الطبيعية بصورة كبيرة، فمن المقولات الشهيرة التي يتداولها أبناء القبيلة “اقطع رأس رجل ولا تقطع رأس شجرة”، فالطبيعة لا يجوز المساس بها، وإذا تعدى أحد عليها بقطع شجرة، فيتعرض نفسه إلي عقاب شيخ القبيلة، ويوقع عليه كيفما يراه مناسبًا.
طقوس مميزة لأفراح القبيلة
10 ملايين عبابدة في مصر
رغم الوجود الكثيف للعبابدة في شرق السودان إلا أنه لا يوجد حصر رسمي لأعدادهم مقارنة بالوضع في الجانب المصري، إذ تبلغ أعدادهم قرابة 10 ملايين عبادي منهم قضاة، مستشارون، أطباء، مهندسون، قيادات كبرى في القوات المسلحة وبرلمانيون، بحسب الشيخ عبدالمجيد عثمان – شيخ مشايخ القبيلة في المحروسة، النائب البرلماني السابق الذي تولى هذا المنصب منذ عام 1990
عثمان في تصريحات له قال: ” منذ فجر التاريخ، تُعد قبائل العبابدة والبشارية حماة حدود مصر الجنوبية، ويُطلق عليهم محاربي الصحراء، وقد شاركوا في الدفاع عن الوطن في كل الحروب التي خاضتها، ويعود نشأة سلاح حرس الحدود في بدايته لأبناء العبابدة والبشارية، لأننا نحفظ جيدًا دروب الصحراء، كما أننا قصاصون للأثر، وهو ما جعلنا خبراء في هذا المجال”.
سادت القبيلة الطرقات منذ عصر الرومان، وذلك حين كانت تتمتع المنطقة بالخير الوفير في ذلك الزمن، حين لم تكن الأرض بالجفاف الذي هي عليه اليوم
القضاء العرفي.. وسيلة التقاضي الرئيسية
يعد القضاء العرفي وسيلة التقاضي الأكثر انتشارًا بين أهالي القبيلة، فأحكامه لها قوة الإلزام الفاعلة، ويشتهر بها العديد من العائلات الكبيرة أو القبائل، وقال عنه الشيخ عثمان: ” يظل القضاء العرفي جزءًا أساسيًا في حياة العبابدة، ولا يتغير بتغير الزمن أو مرور السنوات، ففي حال حدوث أي مشكلة أو خلاف سواء داخل العبابدة أو بين العبابدة وأحد القبائل الأخرى يتم اللجوء لشيخ العبابدة في المنطقة لفض المنازعات، وإنهاء الخصومة، وإذا لم يستطع، يتم استدعاء شيخ مشايخ العبابدة ليتدخل ويحل الأمر، وقد نلجأ أيضًا لشيوخ البشارية، وهذا ما يفعله البشارية أيضًا في مواجهة مشكلاتهم، فقد يلجأون لأحد شيوخ العبابدة للفصل في مشكلاتهم”.
وعن مدى التزام الجميع بتلك الأحكام أجاب : ” في معظم الأحوال يكون هناك التزام تام من الجميع، سواء الشباب أو الشيوخ بالأحكام التي نصدرها، فنحن لدينا التزام قبلي، وفى حالات نادرة يتم رفض هذه الأحكام، فنكرر المحاولة بشكل ودي، وفى النهاية إذا لم يلتزم العبادي بالحكم، نحول الأمر برمته للشرطة للفصل فيه”.
جدير بالذكر أن للعبابدة دور تاريخي كبير في إثراء الاستقرار في تلك المنطقة، فعلى الرغم من غزو محمد علي منطقة العبابدة، إلا أنّ التاريخ سجّل تأديتهم دوراً رئيسياً في ضمّ أقاليم السودان إلى مصر، كان ذلك في الحملة التي قادها إسماعيل كامل، نجل محمد علي باشا، لضمّ منطقة سنار، وكذلك في حملة محمد بيك خسرو لضمّ كردفان.
رغم دورهم التاريخي قديما وحديثا، ورغم اتساع رقعتهم الجغرافية والبشرية، إلا أن العبابدة يعانون منذ عقود طويلة من تهميش الدولة ومعاملتهم كمواطنين درجة ثالثة
في تلك الحملات مدً العبابدة الجيوش المصرية بالجمال التي تنقل المؤن والعتاد الحربي والأفراد للقتال في صفوف الجيش المتحرك صوب الأراضي السودانية، يُضاف إلى ذلك دورهم الرئيسي كمرشدين للجيوش في دروب الصحراء، التي كان من الممكن أن يهلك فيها الجيش تماماً لولا وجود العبابدة.
سادت القبيلة الطرقات منذ عصر الرومان، وذلك حين كانت تتمتع المنطقة بالخير الوفير في ذلك الزمن، حين لم تكن الأرض بالجفاف الذي هي عليه اليوم، بل كان يسقيها قدر وفير من الأمطار حتى القرن الثاني عشر ميلادي، وكانت بالتالي تضمّ غابات وأودية خضراء وأنهارا. الوديان الجافة اليوم بمعظمها، كانت تتخلّلها أنهار جارية. إلى ذلك، كانت تسكن المنطقة حيوانات ضخمة مثل الفيلة إلى جانب حيوانات الرعي.
دور للقبيلة في تنشيط السياحة
تهميش وتجاهل
رغم دورهم التاريخي قديما وحديثا، ورغم اتساع رقعتهم الجغرافية والبشرية، إلا أن العبابدة يعانون منذ عقود طويلة من تهميش الدولة ومعاملتهم كمواطنين درجة ثالثة،إذ يُتّهمون دائماً بأنّهم مصدر قلاقل في المناطق الحدودية، على خلفيّة أعمال التهريب، هذا بخلاف مصادرة قوات حرس الحدود لحيواناتهم التي يرعونها داخل الحدود المصرية، فتبيعها في مزادات علنية بحجّة الرعي في منطقة محظورة عسكرياً.
ومن أوجه المعاناة التي يواجهونها عدم تقنين أوضاعهم، والإصرار على إبقائهم في تلك الوضعية التي يتكبدون بسببها العديد من الخسائر والمشاكل، إذ لا يزالون حتى الآن يحملون بطاقات شخصية ورقية في ظل رفض الجهات الأمنية المصرية تزويدهم ببطاقات الرقم القومي المميكنة كبقية المواطنين، هذا بخلاف تعدد الشكاوى الخاصة بمحاكمتهم في داخل أراضيهم بالتسلل وتعرضهم لإطلاق النار عليهم بحجة وجودهم في مناطق محظورة عسكريا.