بالمشاركة مع عمّارة عمروس
قبل عقد من الآن، بدأت موجة الحراك العربي من خلال انتفاضات الشعوب عبر الدول العربية (تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والأردن)، مُنادين بحرية الرأي والعدالة الاجتماعية والكرامة وتغيير الأوضاع، ورغم ما قيل وقتها بأن الحراك حركته فضاءات التواصل الاجتماعي أو جهات أجنبية، فإن الواقع أكد بأنه كان نتيجة منطقية لحالات الكبت والقمع والحرمان وعدم تكافؤ الفرص، وغيرها من مظاهر التهميش أو الإقصاء التي عانت منها الشعوب العربية عبر عقود طويلة، في ظل سيطرة نفس الأشخاص على مقاليد الحكم لفترات فاقت العشر سنوات، والتضييق على المعارضين باستخدام القمع والترهيب في مقابل تجاهل المطالب الشعبية.
وقد تنوعت أسباب الحراك العربي، بين اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية، ففي الجانب الاجتماعي والاقتصادي، التقت دول المنطقة العربية التي عرفت حراكًا واسعًا وعنيفًا خلال العقد الأخير في انخفاض معدلات التنمية في الغالب، وانتشار عامل المحسوبية والتمييز عند التوظيف، واستمرت حالات التهميش والفقر والبطالة وعدم العدالة في توزيع الموارد والفرص.
وفي الجانب السياسي، ساد قمع الحريات (مفهوم الدولة البوليسية)، وعدم تمكُّن الدولة من التغلغل في ربوعها في ظل تفاقم الأزمات التنموية (حسب المفهوم الواسع للتنمية)، كل ذلك تسبب في حالة من الكبت والحرمان النسبي لدى شرائح واسعة من أفراد المجتمع، كما تشابهت الأنظمة الحاكمة في الدول العربية في بقاء حكامها في مناصبهم لفترات طويلة جدًا، ومع استمرار نفس الأشخاص في السلطة وشخصنة الأنظمة وتوريث الحكم في بعض الأحيان، ظلت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتنموية تُراوح مكانَها، وتجب الإشارة هنا إلى دور وسائل الإعلام الحكومية التي عملت على خدمة بقاء الأنظمة ومصالحها على حساب الشعوب.
تكشف حصيلة 20 سنة من حكم الرئيس بوتفليقة عن الكثير من النقائص على صعيد العملية الديمقراطية، مما يؤكد بأن مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد لا يزال متعثرًا
وقد ترقّب الكثير من المحللين والمختصين أن تصل كرات الثلج (وهو تعبير عن تمدُّد وانتشار الظواهر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية) إلى الجزائر بعد 2010، خاصة أن الجارة تونس باتت أمام مرحلة جديدة من الانتقال الديمقراطي، والجارة ليبيا عرفت تدهورًا مستمرًا في الأوضاع، كما كان شأن دول الحراك الأخرى، وعرفت الجزائر احتجاجات ومسيرة مظاهرات كثيرة عبّرت عن حالة من الرفض الشعبي والكبت المتفجر، وهو كما وصفة برهان غليون بداية تسعينيات القرن الماضي بقوله: “التقت نزعة الاحتجاج الشامل، مع صرخة الرفض القاطع لواقع أسود وكئيب عند جمهور فقد إيمانه بكل ما يسمع ويُقال له”.
وقامت الحكومة في الجزائر بعد 2011 ببعض الإصلاحات السياسية كتعديل الدستور سنة 2016 لتُضاف اللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، وإصلاحات أخرى شملت نظام الانتخابات والنظام الحزبي، فضلاً عن قانون الإعلام (السمعي – البصري)، بالإضافة إلى رفع حالة الطوارئ التي ظلت مفروضة في البلاد منذ 1992.
وتَكشف حصيلة 20 سنة من حكم الرئيس بوتفليقة عن الكثير من النقائص على صعيد العملية الديمقراطية، مما يؤكد بأن مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد لا يزال متعثّرًا، خاصة مع غياب عدالة انتقالية حقيقية، فلا يزال الغموض يُحيط بفترة التسعينيات (الأزمة الأمنية)، وظلت العدالة الانتقالية في صلتها بمشروع الوئام المدني والمصالحة الوطنية شديدة النسبية، بالإضافة إلى التضييق على المعارضة والعمل على إقصائها من الساحة السياسية، لقد ظلت العملية الديمقراطية في الجزائر تُراوح مكانها طيلة ثلاثة عقود، إذ من الصواب وصفها بالديمقراطية الشكلية التي لا يوجد لها أثر على صعيد الممارسة.
مع تسارع الأحداث خلال الفترة الأخيرة، تصبح مهمة الاستشراف ضرورية أكثر فأكثر، باعتباره العلم الذي ينطلق من متغيرات الواقع وتراكمات الماضي ليبني فكرة ورؤية لتطورات الأحداث
ويأتي الحراك الشعبي الذي تشهده الجزائر في الفترة الراهنة في وقت حساس، إذ إن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية ومصيرية بتاريخ 18 من أبريل 2019، وفي ظل ترشُّح الرئيس المنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، لا يزال مستوى الغليان الشعبي قائمًا ومتواصلاً، فقد خرج آلاف المتظاهرين عبر الوطن بتاريخ 3 من مارس ليلاً ليعبروا عن غضبهم العارم، وشهدت ليلة الـ4 مارس زحف الآلاف نحو العاصمة الجزائر، مما جعل السلطة أمام مأزق الصمت أو التدخل بالحصار وفرض الطوارئ.
وتعرف فترات الانتقال السياسي والديمقراطي تحولات وتغيرات في المناخ السياسي والاجتماعي، مصحوبة أحيانًا بحالات من ممارسة العنف بمختلف صوره، فالتغيير يشمل الأساليب السلمية كما يشمل أساليب العنف، خاصة أن عدم الاستجابة للمطالب يؤدي إلى استمرار الضغط الشعبي، وتعرف الجزائر اليوم حراكًا شعبيًا جزائريًا لا سبيل إلى إنكاره، يرتبط مساره وتطوّرُه بردود فعل الحكومة (الاستجابة أو التحدي) خلال الأيام القليلة المقبلة.
يظل الوضع السياسي في الجزائر غير مستقر، بحيث بلغ الحراك أعلى مستويات الغليان التي لم يعرفها الشارع الجزائري منذ عقود
ومع تسارع الأحداث خلال الفترة الأخيرة، تصبح مهمة الاستشراف ضرورية أكثر فأكثر، باعتباره العلم الذي ينطلق من متغيرات الواقع وتراكمات الماضي ليبني فكرة ورؤية لتطورات الأحداث، ويمكن اقتراح سيناريوهين لتطورات الوضع في الجزائر خلال الأيام القليلة المقبلة:
– يقترح السيناريو الأول استمرار الضغط الشعبي في الشارع الجزائري، في ظل عدم استجابة الحكومة بشكل إيجابي للمطالب، واستمرارية الرئيس المنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة في قرار الترشُّح، بحيث أن مدير حملته الانتخابية عبد الغاني زعلان قام بإيداع ملفه بالوكالة يوم 3 من مارس 2019 بمقر المجلس الدستوري، ويعكس هذا السيناريو ما يمكن أن تشهده البلاد من أزمة مضاعفة وتعقيدات في الوضع وعدم استقرار.
تظل السيناريوهات المقترحة نسبية، لكنها معقولة بالنظر إلى مؤشرات الواقع وتسارع الأحداث مؤخرًا
– السيناريو الثاني يفترض أنه في حالة استمرار الضغط الشعبي على الحكومة ستعمل دائرة القرار في الجزائر على الاجتماع والخروج بمرشح توافقي (الأرجح أن يكون اللواء علي غديري)، وسيتم العمل على فوزه في الانتخابات الرئاسية، مما يعكس استمرار النظام القائم في الحكم بصورة أخرى.
وكان عبد الغاني زعلان مدير الحملة الانتخابية للمترشح عبد العزيز بوتفليقة، قد قرأ رسالة وجّهها الرئيس المنتهية ولايته إلى الشعب، تتضمن إشادة بسلمية المظاهرات، وتقترح أجندة إصلاحات ونقل سلمي للسلطة، ووضع دستور جديد عن طريق الاستفتاء الشعبي، ويظل الوضع السياسي في الجزائر غير مستقر، بحيث بلغ الحراك أعلى مستويات الغليان التي لم يعرفها الشارع الجزائري منذ عقود، خاصة أن التظاهر والتجمهر ممنوع منذ سنة 2001 (أزمة الربيع الأمازيغي)، وتظل السيناريوهات المقترحة نسبية، لكنها معقولة بالنظر إلى مؤشرات الواقع وتسارع الأحداث مؤخرًا.