تترقب مختلف الأطراف الإقليمية ما يمكن أن تتمخض عنه الجولة الجديدة من المفاوضات بشأن اتفاق التهدئة على الجبهة اللبنانية في ظل حالة الزخم المهيمنة على هذا الملف خلال الأيام الماضية منذ تسليم السفيرة الأمريكية لدى بيروت ليزا جونسون نسخة من مسودة مقترح لوقف إطلاق النار لرئيس البرلمان اللبناني نبيه بري.
وكشفت مصادر إعلامية وسياسية عن دراسة حزب الله – بالتنسيق مع الجهات المعنية داخل لبنان وخارجها – على مدار اليومين الماضيين لهذا المسودة بشكل مستفيض تمهيدًا لإبلاغ رئيس البرلمان، بصفته الوسيط بين الحزب والموفد الأمريكي، بملاحظاته عليها، فيما قالت هيئة البث الإسرائيلية إن الجانب الإسرائيلي ينتظر الرد اللبناني على هذا المقترح في غضون أيام قليلة.
ويأمل المراقبون للمشهد في التوصل إلى اتفاق عام حول النقاط المحورية في هذا المقترح قبل وصول الموفد الرئاسي الأمريكي عاموس هوكشتين إلى بيروت هذا الأسبوع قادمًا من باريس، وذلك قبل أن يتوجه إلى تل أبيب الأربعاء المقبل، حاملًا حصيلة اجتماعاته في لبنان وفي المقدمة منها الموقف النهائي الرسمي للحزب والحكومة اللبنانية.
بنود الاتفاق وتحدياته
كانت هيئة البث الإسرائيلية قد كشفت الجمعة 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري عن أبرز بنود مشروع الاتفاق المقترح بين لبنان و”إسرائيل” والتي تضمنت: إقرار الطرفين بأهمية قرار الأمم المتحدة رقم 1701، إعطاء الطرفين حق الدفاع عن النفس إذا لزم الأمر، الجيش اللبناني هو القوة المسلحة الوحيدة بالجنوب مع اليونيفيل، الحكومة اللبنانية ستشرف على أي بيع للأسلحة إلى لبنان أو إنتاجها داخله.
كما تضمن سحب “إسرائيل” لقواتها من جنوب لبنان خلال 7 أيام، على أن يحل الجيش اللبناني محل القوات الإسرائيلية المنسحبة من الجنوب، وستشرف على ذلك الانسحاب الولايات المتحدة ودولة أخرى، بجانب إلزام لبنان نزع سلاح أي مجموعة عسكرية غير رسمية في جنوب لبنان في غضون 60 يومًا من توقيع الاتفاق.
المقترح ذاته يقضي بانسحاب “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب ومنع الحزب من إعادة إقامة مواقع بالمنطقة، ومنع نقل السلاح عبر سوريا إلى الحزب، بجانب ذلك تسعى تل أبيب للحصول على حق مهاجمة حزب الله في لبنان حتى بعد الاتفاق، والاحتفاظ لنفسها بهذا الحق دون الطرف الثاني.
وعلى الجهة الأخرى شدد “حزب الله” على أن أي تفاوض، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع دولة الاحتلال يجب أن يكون مبنيًا على أمرين هما: وقف العدوان، وحماية السيادة اللبنانية بشكل كامل غير منقوص، وهو ما أكد عليه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومعظم ألوان الطيف السياسي في الداخل اللبناني.
أما بري الذي يفاوض باسم الحزب فأشار إلى أن المقترح الذي قدمه الموفد الأمريكي الذي يفاوض باسم حكومة الاحتلال، ينص على تشكيل لجنة تضم دولًا غربية للإشراف على تنفيذ القرار الأممي رقم 1701، مؤكدًا أن هذا غير مقبول لبنانيًا، مضيفًا أنه لا يتضمن أي نص يسمح بحرية عمل الجيش الإسرائيلي في لبنان حال الاشتباه بوجود تهديد، كما تطالب تل أبيب، مؤكدًا أن هذا “أمر غير مقبول، ولا يمكن حتى فتح نقاش بشأنه لأنه مساس بسيادة لبنان”.
وكانت وسائل إعلام لبنانية قد نقلت عن مصدر دبلوماسي غربي قوله، إن “تعديلات لبنانية حول المقترح الأمريكي وصلت مباشرةً إلى واشنطن، ولا تنتظر ردًا مكتوبًا من لبنان، وهي بمثابة جواب أولي قدمه فورًا رئيس مجلس النواب نبيه بري، شكلت أرضية لمسار التّفاوض المفتوح، على قاعدة تطبيق القرار الدّولي 1701”.
وأضافت أن “جوهر الرد اللبناني تمحور حول رفض التدخل العسكري الإسرائيلي عند اللّزوم، والمراقبة الجوية”، مبينًا أن بري طرح “حلًا لإشكالية لجنة الإشراف على تطبيق القرار الدولي المذكور، بالاستناد إلى تجربة تفاهم نيسان، وهو أمر قابل للنقاش، يُدرس حاليًّا، ولا مشكلة جوهرية بشأن هذا البند”.
تساؤلات لبنانية
نشرت صحيفة “الأخبار” المقربة من حزب الله اللبناني تقريرًا استعرضت فيه أبرز النقاط التي تحفظ عليها الجانب اللبناني الذي طالب باستفسارات وتفاصيل دقيقة بشأنها، كونها محاور رئيسية في بنود الاتفاق لا يمكن استثنائها منه أبرزها:
– الحاجة إلى تفاصيل عمل اللجنة المقترحة للإشراف على تنفيذ القرار 1701، فكما هو معروف هناك لجنة ثلاثية تضم لبنان و”إسرائيل” والأمم المتحدة، فماذا يعني ضم دول غربية لتلك اللجنة كما ذكر الاتفاق؟ ورغم عدم ممانعة لبنان انضمام أطراف جديدة إلى اللجنة، فإنه لا يرحب بأن تضم ممثلين عن أطراف مثل بريطانيا وألمانيا، على أن يقتصر الأمر على الولايات المتحدة وفرنسا، وهو ما لا ترحّب به “إسرائيل”.
– يريد لبنان تعريفًا دقيقًا لمهمة اللجنة، حيث إن عمل اللجنة الحالية يقتصر على تسجيل الخروقات من الجانبين، الحزب وجيش الاحتلال، وتدارسها للحيلولة دون تكرارها مرة أخرى، وفي ظل إشارة الجانب الأمريكي إلى أن تلك الآلية فشلت في منع الطرفين من خرق القرار الأممي، فإن المقترح المقدم يفتح الباب أمام آلية جديدة، وهو ما شأنه أن ينسف جوهر القرار 1701، لا سيما أن لبنان مصرّ على أن الجيش اللبناني هو الجهة الوحيدة التي تتولى العمل على الأرض، وأن القوات الدولية وُجدت لمساعدة الجيش على بسط سلطته لا للحلول محله. وبالتالي، تتركز الهواجس اللبنانية حول ما إذا كان المقترح يريد منح اللجنة صلاحيات إدارة عمليات المراقبة، وحتى اختيار أدواتها التنفيذية.
– رفض لبنان خيارات تقود إلى مواجهات مستقبلية بين القوات الدولية والجيش من جهة، وأبناء الجنوب من جهة أخرى، وهو لا يريد مقايضة وقف إطلاق النار مع العدو باحتمال خسارة استقراره الداخلي ونشوب فتن واحتراب أهلي بين أطياف اللبنانيين، خاصة أن “إسرائيل” تريد لهذه اللجنة أن تخدم على أجندتها ومصالحها وسرديتها وهو أمر يرفضه لبنان بالمطلق، كما يرفض إطلاق العنان للقوات الدولية للمداهمة والتفتيش بناءً على ادّعاءات إسرائيلية.
– يرفض لبنان مشاركة جيش الاحتلال قواعد البيانات التي تخص الأراضي اللبنانية، وإشراك “إسرائيل” في النتائج العملياتية للقوات الدولية والجيش اللبناني، مع الوضع في الاعتبار – حسبما نشرت الصحيفة – تحدث الأمريكيين عن نيتهم دعم المقترح البريطاني بإقامة أبراج مراقبة على طول الحدود مع لبنان، على أن تكون وجهة الكاميرات إلى الأراضي اللبنانية.
وتشير الصحيفة المقربة من الحزب أن مسودة الاتفاق التي سلمتها السفيرة الأمريكية كانت محل نقاش مكثف خلال اليومين الماضيين بين بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقيادة “حزب الله”، لافتة إلى أن تلك النقاشات وما أسفر عنها من ملاحظات، أحيطت بأجواء من السرية، فيما وصفها رئيس البرلمان بأنها كانت إيجابية أكثر من أي وقت مضى، منوهًا إلى جدية أمريكا هذه المرة وأنها مختلفة عن الأشهر السابقة، وأضاف: “أبلغنا الأمريكيون أن إسرائيل تريد وقف الحرب، ومسار التفاوض يتقدّم رغم وجود نقاط لم يُتفق عليها بعد”.
ورغم إيجابية الأجواء، فإن رئيس الحكومة اللبنانية يتجنب الحديث عن ذلك قبل زيارة هوكشتين، وذلك خشية تكرار ما حصل عقب الزيارة الأخيرة له إلى تل أبيب، حيث فرض الكيان الإسرائيلي ملاحق جديدة للاتفاق بعدما أبدى اللبنانيون إيجابية واضحة في التعاطي معه، فيما التزم الجانب اللبناني في تعامله مع هذا المقترح استراتيجية “الغموض الإيجابي”، حيث صياغة الموقف اللبناني على مستويين، الأول من خلال رسالة شفهية – مطمئنة – تُبدي تجاوبًا مبدئيًا مع المسودة، أما المستوى الثاني فيتم إرجاؤه للمفاوضات المباشرة لدى الموفد الأمريكي إلى بيروت، والتي تتضمن عرض التحفظات اللبنانية على بعض بنود المقترح وانتظار إجابات واشنطن وتل أبيب بشأنها.
حشد الأوراق على الطاولة
في الوقت الذي يشير فيه المفاوضان، اللبناني والأمريكي، ومن بعدهما الإسرائيلي، إلى الأجواء الإيجابية التي تخيم على عملية المفاوضات، والحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق يُنهي الحرب على تلك الجبهة، يكثف جيش الاحتلال من عملياته العسكرية في الجنوب والضاحية وبيروت، مستخدمًا طائراته وأسلحته الثقيلة في صور والنبطية والبقاع، محاولًا إحراز تقدم ميداني في الخطوط البرية من الساحل الغربي حتى الخيام.
ويسابق الإسرائيليون الزمن لإنجاز أي انتصار عملياتي ميداني يعزز موقفهم التفاوضي عند الجلوس مع هوكشتاين خلال جولته المرتقبة التي يعول عليها الجميع لإبرام اتفاق التهدئة، خاصة بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدها جيش الاحتلال على أيدي “حزب الله” منذ بدء العملية البرية قبل قرابة شهر ونصف، حيث مقتل أكثر من 100 جندي وضابط في صفوف الجيش وتدمير مئات المركبات والمدرعات والدبابات، حسب بيان حزب الله، فضلًا عن تحويل منطقة الجليل شمالًا إلى مسرح عمليات يومي، والاستهداف المتكرر لحيفا وتل أبيب، ودفع نحو أكثر من مليوني إسرائيلي للملاجئ والمخابئ تحت الأرض بعدما كان الأمر لا يتجاوز 300 ألف فقط سكان المناطق الشمالية.
وفي مقابل الصمود القوي للمقاومة والخسائر الفادحة في صفوف الاحتلال، وإفشال مخططات التوغل البري خلف الخط الأزرق، والاعتراف بالعجز في تحقيق هدف القضاء على “حزب الله” كما هو الحال مع حركة حماس، كان تكثيف العمليات العسكرية الوحشية ضد المدنيين في لبنان هو الخيار والبديل الجاهز، حيث القصف العشوائي الذي يزيد بشكل جنوني من أرقام الضحايا، في محاولة لتعزيز الضغط على الحزب، سواء من الحكومة اللبنانية أم النخبة السياسية ممثلة في التيارات والأحزاب، أم حتى من الشارع اللبناني الذي يتعرض للقتل والتنكيل والتهجير القسري.
ولم ينكر الجانب الإسرائيلي، الذي يفاوض تحت الرصاص، نواياه بشأن تصعيده العسكري الأخير لفرض الاستسلام والخنوع على الجانب اللبناني خلال جولة المفاوضات المرتقبة، لا سيما بعد حديث هوكشتاين الأسبوع الماضي أمام صحافيي البيت الأبيض حين قال إنه لن يزور المنطقة “قبل نضوج الاتفاق”، وهو ما أكدته وسائل الإعلام العبرية التي نقلت عن نتنياهو ووزير الحرب ورئيس الأركان تصريحاتهم حول تصعيد العمليات العسكرية “حتى يقبل لبنان بالاقتراح الذي أرسله الأمريكيون إلى بيروت”.
هدية نتنياهو لترامب
كان واضحًا منذ بداية الحرب أن نتنياهو وحكومته مُصران على تفويت الفرصة على بايدن والديمقراطيين في تحقيق أي إنجاز دبلوماسي على مستوى السياسة الخارجية، يوظفانه في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، بل وصل العناد إلى حرمانهم حتى من الخروج المشرف من الباب الكبير ومنحهم نجاحًا يُحسب لهم قبيل مغادرة البيت الأبيض.
وفي المقابل كان الدعم الكامل لترامب والجمهوريين الذين أعلنوا بشكل واضح، دون أي مواربة دبلوماسية أو حسابات ناعمة، عن خدمتهم الأمينة لصالح الصهيونية والعمل لأجل تنفيذ الأجندة الاستيطانية الإسرائيلية، وهو ما تترجمه تشكيلته المتطرفة المختارة بعناية فائقة للإدارة الجديدة، فكان لا بد من رد الجميل والمكافأة على هذا الدعم غير المسبوق والذي كشف ترامب عن بعض ملامحه خلال ولايته الأولى حين نقل مقر سفارة بلاده للقدس باعتبارها عاصمة للكيان المحتل واعترف بأحقية “إسرائيل” في الجولان.
ومن هنا بات جليًا رغبة كل من نتنياهو وحكومته وجيشه طهو الاتفاق مع “حزب الله” على نار هادئة، على أمل تحقيق أي منجزات ميدانية تقوي موقفهم التفاوضي انتظارًا لتولي الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة دونالد ترامب مقاليد الحكم رسميًا في يناير/كانون الثاني المقبل، ليمنحو هذا الاتفاق كـ”هدية” له مع بداية ولايته الثانية، حسبما أشارت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، الأمر كذلك يتعلق بصفقة الأسرى مع حركة حماس في قطاع غزة.
وكانت الصحيفة قد نقلت قبل أيام عن مساعد مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه أبلغ ترامب وصهره جاريد كوشنر أن “إسرائيل” تريد وقف إطلاق النار في لبنان لـ”تقديم إنجاز مبكّر في السياسة الخارجية لترامب”، مشيرة إلى أن مقر الرئيس الجمهوري الفائز في فلوريدا كان المحطة الأولى لوزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، رون ديرمر، الذي زار الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، قبل أن يتوجه إلى البيت الأبيض لمقابلة بايدن.
ونقلت الصحيفة عن المسؤول الإسرائيلي قوله إن “هناك تفاهمًا بأن إسرائيل ستقدّم هدية ما لترامب بشأن لبنان بحلول يناير/كانون الثاني المقبل”، ونسبت في الوقت ذاته رئيس مديرية العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي، إسرائيل زيف، والذي لا يزال على اتصال بأعضاء بارزين في المؤسسة الأمنية قوله إن “هذه صفقة انتظر نتنياهو تقديمها لترامب”، مضيفًا أن نتنياهو “سيحتاج إلى الموازنة بين نزوات الرئيس المنتخب وحسابات الأمن القومي”.
وحتى يناير/كانون الثاني المقبل، وريثما يتولي الرئيس الأمريكي المنتخب مقاليد الحكم، ويبدأ مباشرة عمله رسميًا، سيبقى المشهد على الجبهة اللبنانية مفتوحًا على الاحتمالات كافة، تكثيف عملياتي إسرائيلي في مقابل صمود حزب الله، ليتواصل نزيف الخسائر هنا وهناك، في انتظار من يصرخ أولًا.