إذا كانت الاعتقالات السلاح الأبرز للقمع والتنكيل بالمعارضين والحقوقيين داخل مصر، فإن الهجمات والتهديدات الإلكترونية هي سلاح استهداف من لم تطله أيادي السلطات في الخارج، وهو ما فضحته عشرات الشكاوى من شخصيات ووسائل إعلامية ومنظمات على غير هوى النظام الحاكم بشأن تعرضها لهجمات وقرصنة وتلقيها رسائل تهديد وتحذير بعض الأحيان.
منظمة العفو الدولية (أمنستي) عبر تحقيق نشرته أمس الأربعاء، كشفت أن عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر تعرضوا منذ بداية العام إلى “موجة هجمات إلكترونية”، موضحة في بيان لها أنه منذ بداية يناير/كانون الثاني 2019 حلل فريق فني تابع لها عشرات الرسائل المشتبه بها التي أرسلت إلى مدافعين عن حقوق الإنسان وصحافيين ومنظمات غير حكومية مصرية.
ورغم عدم توضيح “أمستني” الجهة التي شنت تلك الهجمات، مكتفية بالإشارة إلى أنها تمت باستخدام تقنية الخداع الإلكتروني، فإن النتيجة واحدة، مزيد من الإرهاب والقمع، والهدف إسكات المعارضين في الداخل والخارج على حد سواء، لا سيما في ظل تلك المرحلة الحرجة التي من المتوقع أن تواجه فيها البلاد معركة التعديلات الدستورية.
تتزامن مع الأحداث المهمة
منذ يناير/كانون الثاني 2019، حلل فريق التكنولوجيا بمنظمة العفو الدولية عشرات الرسائل الإلكترونية المشبوهة التي تم إرسالها إلى المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمنظمات غير الحكومية المصرية، المنظمة وجدت أن تلك الرسائل استخدمت تقنية للتصيد تعتمد على إساءة استخدام خدمة أوث OAuth للوصول إلى الحسابات الخاصة، وأن الهجمات تصاعدت خلال أحداث سياسية رئيسية، مثل ذكرى انتفاضة مصر في 25 يناير.
رامي رؤوف، مسؤول التكتيكات التقنية في فريق قسم التكنولوجيا وحقوق الإنسان في المنظمة قال: “يبدو أن هذه الهجمات الإلكترونية جزء من حملة مستمرة لترهيب منتقدي الحكومة المصرية، وإسكات أصواتهم، فعلى مدار العام الماضي، واجه المدافعون عن حقوق الإنسان المصريون اعتداءً غير مسبوق من السلطات، ويواجهون خطر الاعتقال والسجن كلما رفعوا صوتهم ضد الحكومة، وهذه المحاولات المخيفة لاستهدافهم على الإنترنت تشكل تهديدًا آخر لعملهم الحيوي”.
يبدو أن هذه الهجمات الإلكترونية جزء من حملة مستمرة لترهيب منتقدي الحكومة المصرية
وأضاف “حملة حكومة الرئيس السيسي على حرية التعبير تستفحل يومًا بعد يوم، ومن المهم أكثر من أي وقت مضى أن يتمكن المدافعون عن حقوق الإنسان من التواصل عبر الإنترنت دون شعور بخوف من الانتقام، فهناك مؤشرات قوية على أن السلطات المصرية وراء هذه الهجمات، ولذا ندعوها إلى وقف هجومها المتواصل على المدافعين عن حقوق الإنسان، واحترام حقوق الخصوصية، وحرية التعبير وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها”.
الهجمات التي وثقتها المنظمة وقعت في الفترة بين 18 من يناير/كانون الثاني و13 من فبراير/شباط 2019، عبر خدمة تسمى بـ”أوث Oauth” وهي عبارة عن تقنية ذات سمة مشروعة للعديد من مقدمي الخدمات عبر الإنترنت، ومن خلالها يتم اختراق حسابات وبيانات المستهدفين على نحو تقني مشروع، ولكن من خلال انتحال الصفة والتلاعب البصري.
الرصد والتوثيق لتك الهجمات كشف أنها تزامنت مع عدد من الأحداث المهمة التي شهدها الشارع المصري خلال تلك الفترة، إذ تم رصد 11 هجومًا ضد المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام خلال الفترة التي سبقت الذكرى الثامنة لانتفاضة 25 يناير في مصر.
كذلك تم رصد موجة أخرى من الهجمات في أثناء زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة في 28 و29 من يناير/كانون الثاني، بلغت ذروتها في 29 من يناير/كانون الثاني، وهو اليوم الذي التقى فيه ماكرون مع المدافعين عن حقوق الإنسان من أربع منظمات غير حكومية مصرية بارزة، في وقت لاحق، وفي الأسبوع الأول من فبراير/شباط، تم استهداف العديد من المنظمات الإعلامية، وكثير منها كانت تكتب عن عملية تعديل الدستور المصري الذي كان قد بدأ لتوّه.
ترهيب وتخويف
بحسب التحقيق فإن الاستهداف الانتقائي للمدافعين عن حقوق الإنسان، وتوقيته، يشي إلى أن دوافع تلك الهجمة سياسية في المقام الأول وليست مالية كما يعتقد البعض، فقائمة الأفراد والمنظمات المستهدَفة في هذه الحملة من الهجمات تتداخل بشكل كبير مع الأسماء الموضوعة على قوائم المراقبة والملاحقة الأمنية والقضائية على حد سواء.
تزامن تحقيق “أمنستي” مع حدثين آخرين يؤكد صحة ما وصلت إليه المنظمة، فبالأمس قال الممثل المصري عمرو واكد – في تغريدة نشرها اليوم عبر حسابه الرسمي الموثق على موقع تويتر – إنه تلقى تهديدًا من إحدى الجهات (لم يُفصح عنها) في حال رجوعه لمصر، مشيرًا إلى أنه يصدق هذه التهديدات.
واكد كتب يقول: “أنا في الخارج أصلاً وبلغوني لو رجعت مصر مش هيحصلي طيب وكل حاجة جاهزة على جرة قلم، وأنا مصدقهم الصراحة”، مؤكدًا أن التهديدات التي وردته لها علاقة بأحكام قضائية عسكرية لمدة خمس سنوات، ومدنية لمدة ثلاث سنوات، صادرة بحقه غيابيًّا، بتهمتي نشر أخبار كاذبة وإهانة مؤسسات الدولة، وأنه لم يستطع الحصول على نسخ من هذه الأحكام لأنه لم يتم التصديق عليها حتى الآن، ويبدو أن هذه الأحكام جاهزة للتصديق عليها، ومن ثم التحفظ عليه حال عودته إلى مصر.
شهد الربع الثالث من 2018 تزايدًا ملحوظًا في الانتهاكات المتعلقة بالحريات الإعلامية مقارنة بالربعين الأول والثاني من العام نفسه
تغريدة واكد عززتها تصريحات الإعلامي المصري المعارض معتز مصر، بأن اثنين من أشقائه وزوجتيهما وأربعة من أبنائهما اختفوا في القاهرة، مع تصاعد حملة أطلقها بعنوان “#اطمن_انت_مش_لوحدك” لمعارضة النظام المصري، موضحًا في تغريدة على حسابه على “تويتر” أن أقاربه الثمانية اختفوا بعد خروجهم من النادي الأهلي في مدينة نصر بالقاهرة.
وأضاف مطر الذي يقيم في تركيا ويقدم برنامجًا على فضائية “الشرق”: “ذهب الأمن الوطني – بجيش جرار – فجر أمس إلى منزل والدتي (66 سنة) وقلبوا البيت رأسًا على عقب، وتجاوزوا وفجروا، ثم ذهب الجيش الجرار إلى منازل أخوتي، كما تفعل العصابات تمامًا، ولهم أقول تجبروا ما شئتم فلن نتراجع قيد أنملة. قضي الأمر الذي فيه تستفتيان”.
انا في الخارج أصلا وبلغوني لو رجعت مصر مش هيحصلي طيب وكل حاجة جاهزة على جرة قلم. وأنا مصدقهم الصراحة.
— Amr Waked (@amrwaked) March 4, 2019
بعد ماحدث مع امي بالامس ..اختفاء اثنين من اشقائي بزوجاتهم و4 من اطفالهم بعد خروجهم من النادي الاهلي المصري فرع مدينة نصر منذ اقل من ساعة
حسبنا الله ونعم الوكيل#اطمن_انت_مش_لوحدك
الله غالب— معتز مطر (@moatazmatar) March 4, 2019
مزيد من الانتهاكات
في الـ20 من فبراير الماضي نفذت السلطات المصرية حكم الإعدام بحق 9 معارضين في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”مقتل النائب العام” إثر تفجير استهدف موكبه بالقاهرة في يونيو/حزيران 2015، وذلك بعد أقل من سبعة أيام على تنفيذ حكم الإعدام بحق ثلاثة معارضين أدينوا بقتل ضابط كبير في أحداث مدينة كرداسة (غرب القاهرة) في سبتمبر/أيلول 2013، ومن قبله ثلاثة في قضية مقتل ابن أحد القضاة بمدينة المنصورة (شمال)، في 2014.
المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (مستقلة) أكدت في تقريرها الشهري بشأن أحكام الإعدام التي صدرت وتم تنفيذها منذ شهر يناير/كانون الثاني وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أن 581 متهمًا على الأقل صدرت ضدهم أحكام بالإعدام منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك في 174 قضية مدنية و9 قضايا عسكرية، مشيرة إلى أن الأرقام الواردة في الحصر، تمثل الحد الأدنى الذي استطاع الباحثون الوصول إليه من خلال الأهالي وما تم تداوله في وسائل الإعلام.
قدرة السلطات المصرية على استهداف معارضيها، لم تتوقف عند الداخل وفقط عبر الاعتقال والتنكيل، وفق حزمة من القوانين التي تشرعن هذا التوجه، إذ تجاوز الأمر حدود الدولة الجغرافية
المبادرة في حصادها أوضحت أن عام 2018 يعد عام الإعدامات في مصر من الدرجة الأولى، ففيه صدر حكم الإعدام بحق 30 متهمًا، بالإضافة إلى 51 متهمًا آخر في 17 قضية تمت إحالة أوراقهم إلى المفتي، استعدادًا لتنفيذ العقوبة، وتم تنفيذ العقوبة فعليًا على 11 شخصًا في 6 قضايا منها 5 قضايا عسكرية.
المرصد المصري لحرية الإعلام في تقريره رُبع السنوي الثالث عن حالة حرية الصحافة والإعلام، أشار إلى أن “معدل الانتهاكات المرتكبة بحق العاملين في المجال الصحافي والإعلامي وبحق حرية الصحافة والإعلام في مصر خلال الربع الثالث من عام 2018 (أشهر يوليو/ تموز ــ أغسطس/آب – سبتمبر/أيلول) ارتفع بشكل ملحوظ.
شهد الربع الثالث من 2018 تزايدًا ملحوظًا في الانتهاكات المتعلقة بالحريات الإعلامية مقارنة بالربعين الأول والثاني من العام نفسه، فبلغ إجمالي الانتهاكات من أول يوليو/تموز حتى نهاية سبتمبر/أيلول 56 انتهاكًا، في مقابل 41 انتهاكًا في الفترة من (يناير/كانون الثاني – مارس/آذار) 2018، و24 في الفترة من (أبريل/نيسان – يونيو/حزيران 2018).
المعارضون التسع المنفذ بحقهم حكم الإعدام الشهر الماضي
وأكد التقرير أن السمة العامة الخاصة بجسامة الانتهاكات في الربعين الأول والثاني، اختلفت مقارنة بالربع الثالث من العام نفسه، فتصدر “المنع من التغطية” قائمة الانتهاكات في الربعين الأول والثاني، في مقابل تصدر “إيقاف البرامج والقنوات” قائمة الانتهاكات في الربع الثالث.
يذكر أنه في الـ2 من سبتمبر الحاليّ، صادق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، بعد إصداره بشكل نهائي من جانب مجلس النواب، القانون الذي أثار موجة اعتراضات كبيرة من الصحفيين الذين وصفوه بأنه “يصادر ما تبقى من مساحات للتعبير عن الرأي، ويخل بتعهدات مصر الدولية”، هذا في الوقت الذي تجاوزت فيه عدد المواقع الإلكترونية المحجوبة 450 موقعًا.
قانون نقابة الصحفيين الجديد وما سبقه من قانون تنظيم الصحافة يأتي إطار سلسلة من التشريعات التي أقرها البرلمان منذ انتخابه عام 2015، تهدف إلى غلق المجال العام وحرمان المواطنين من حقوقهم، وخاصة الحق في حرية التعبير والحق في حرية التنظيم، وعلى رأسها قانون الجمعيات الأهلية (1 و2)، بخلاف قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وهو ما دفع بمصر إلى تذيل قائمة الحريات الإعلامية خلال السنوات الأخيرة.
وفي المجمل، فإن قدرة السلطات المصرية على استهداف معارضيها، لم يتوقف عند الداخل وفقط عبر الاعتقال والتنكيل، وفق حزمة من القوانين التي تشرعن هذا التوجه، إذ تجاوز الأمر حدود الدولة الجغرافية من خلال تصيد المناوئين لها عبر الهجمات الإلكترونية في محاولة لبث الرعب والخوف في نفوس كل من يفكر في التغريد خارج السرب.