هي بيع لا ينضب من الاستشارات والرؤى المستقبلية وبيع الأوهام، آخر أضخم صفقاتها كانت مع الرياض، وجاءت تحت مسمى “رؤية 2030” التي ستغير وجه السعودية كما يُروَّج لها، إنها شركة الاستشارات الإدارية العالمية التي تُعرِّف نفسها، فتقول: “نتعاون مع قادة من مختلف القطاعات لتسريع وتيرة النمو، وبناء شركات الأعمال والمؤسسات، وصقل المواهب الواعدة”، لكن تاريخها يقول إنها مهندسة الرؤى المعلبة والمستنسخة، الشركة الأمريكية بائعة الوهم “ماكينزي آند كامبوني” (McKinsey & Company).
“ماكينزي”.. مهندسة الرؤي المعلَّبة والمستنسخة
لم يكد القرن الـ20 يخطو خطواته الأولى حتى تمكنت الولايات المتحدة من المضي قدمًا في تشييد اقتصاد بالغ القوة يعتمد على الوفرة الهائلة في المصادر والثروات والعقول والنظام الاقتصادي والسياسي الذي يتيح الإبحار بلا عوائق في عالم المال، وفي كنف مثل هذه البيئة استغل جيمس ماكينزي كل الأدوات المتاحة لإنشاء شركته التي ستصبح ذائعة الصيت فيما بعد، وقد عرف الشاب النابه كيف يسلك طريقه لعالم المال والأعمال بكيان لن يلبث كثيرًا حتى يتحول إلى عنصر حاضر في المشروعات الكبرى.
أبدعت “ماكينزي” في مجال خفض تكاليف الشركات وتسريح الموظفين، حيث يقوم مبدأها على إرضاء عملائها من الرؤساء التنفيذيين، وتعمل للتخطيط على رفع مكاسبهم حتى لو كان ذلك على حساب الموظفين الصغار
تأسست شركة ماكينزي في عشرينيات القرن الماضي، على يد أستاذ المحاسبة في جامعة شيكاجو جيمس ماكينزي، الذي كانت فكرته عن أهمية أعمال الشركات البنكية والقانونية، وبقيت كمؤسسة استشارات بسيطة حتى وفاته عام 1937، واستلم مارفن باور مقاليد الإدارة، حيث تمكن باور وهو خريج جامعة هارفارد من نقل ماكينزي من مجرد مؤسسة استشارات بسيطة إلى شركة ذات ظهور بارز في مجال الاستشارات الإدارية في أمريكا.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية واستقرار العالم، بدأت الشركة بتثبيت أقدامها في مجال الأعمال العالمية، ومع بدء مشروع إعادة أوروبا، اقتنصت لنفسها فرص نجاح لافتة، فتنقلت بين مشاريع الإنشاء والإعمار والمقاولات الكبرى حتى ذاع صيتها، ووهج نجمها في معظم دول العالم، وأصبحت بحلول منتصف القرن العشرين مؤسسة الاستشارت الاقتصادية المسيطرة في الولايات المتحدة.
جيمس ماكينزي مؤسس شركة الاستشارت الأمريكية
أبدعت ماكينزي في مجال خفض تكاليف الشركات وتسريح الموظفين، حيث يقوم مبدأها على إرضاء عملائها من الرؤساء التنفيذيين، وتعمل للتخطيط على رفع مكاسبهم حتى لو كان ذلك على حساب الموظفين الصغار، حتى أصبح لها نفوذ طاغٍ في مجال الاستشارات، وأصبح لديها العديد من العلاقات الوطيدة مع الرؤساء التنفيذيين لعدد من الشركات الكبرى وسياسيي العالم، لكنها أضحت في المقابل ذات سمعة سيئة بين أوساط العمال.
استطاعت ماكينزي النجاح في تقديم الخطط المستقبلية الإستراتيجية في عدة مشاريع، فعملت مع جامعة هارفارد لإنشاء الدراسات العليا في إدارة الأعمال، كما عملت مع الحكومة الأمريكية خلال الحرب الباردة حتى استشارها الرئيس الأمريكي إيزنهاور في اختيار المناصب الرئاسية في الدولة، وكان نجاحها المذهل المفتاح نحو الاطلاع على أهم الأسرار لأعظم الشركات والمؤسسات، ممّا جعلها المحرك الرئيس لمجال الأعمال في أمريكا خلال فترة الستينيات.
كيف باعت “ماكينزي” الوهم لمحمد بن سلمان؟
مع اكتشاف الثروة الهائلة الرابطة تحت رمال العام العربي جاء الرجل الأبيض بعلمه ومعداته بحثًا عن النفط، ولم يكن الرجل الأبيض بحاجة إلى كثير من الوقت حتى يقنع العربي بأن حياته وثروته مرهونة بعقل الأبيض وخططه وتدابيره، ومع مرور الأيام كانت شركة ماكينزي تتوسع هنا وهناك، حتى ولَّت الشركة وجهها نحو الشرق الأوسط، وكانت عينها على مصر وقطر والإمارات والبحرين والسعودية، دولة النفط والمال الوفير.
توفي الملك عبد الله بن عبد العزيز، وجاء الملك الجديد في انتقال سلس للسلطة، لكن في حقيقته هو انتقال للدعاية من “ملك الإنسانية” إلى “ملك الحزم”، ومن الخطط الخمسية إلى “رؤية 2030″، التي هيمنت بها ماكينزي على السوق العربية.
اختارت ماكينزي رؤيتها الدائمة “2030” لتحقيق المستحيل، وتشويق مرحلة ما بعد النفط، فعقدت صفقات مع أبناء الحكام، آخرهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي باعت له واشترى منها رؤية “2030”، التي انتقدها عدد كبير من المختصين.
رغم الارتباط الوثيق بين التقرير المنشور والرؤية التي أطلقها محمد بن سلمان، نفت شركة الاستشارات الأمريكية في وقت لاحق صياغتها للرؤية بعد اللغط الذي أُثير بشأن توظيف 8 من أبناء المسؤولين السعوديين
وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2015، نشرت شركة الاستشارات العالمية “ماكينزي آند كومباني” تقريرًا مهمًا لمعهدها العالمي، بعنوان: “السعودية ما بعد النفط: التحول من خلال الاستثمار والإنتاجية”، طرحت فيه أفكارًا ورؤى تتعلق بالاقتصاد والمجتمع في المملكة، ويشرح التقرير في 400 صفحة تقريبًا خطة الطريق، لتقليل اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط حتى العام 2030، فيما سيُطلق عليه لاحقًا “رؤية المملكة 2030”.
لم يمض أكثر من 3 شهور على خطة ماكينزي لتطوير الاقتصاد السعودي حتى خرج الأمير الشاب بعدما أصبح وليًا للعهد ليعلن خطته المتكاملة للنهوض بالاقتصاد السعودي وتطويره بحلول العام 2030، وجاء الإعلان من خارج الأراضي السعودية في لفتة لم تبد مبررة ولا واضحة في ذهن المواطن السعودي.
لكن رغم الارتباط الوثيق بين التقرير المنشور والرؤية التي أطلقها محمد بن سلمان، نفت شركة الاستشارات الأمريكية في وقت لاحق صياغتها للرؤية بعد اللغط الذي أُثير بشأن توظيف 8 من أبناء المسؤولين السعوديين، لتعزيز وجودها في المملكة، حيث تقيم ماكينزي علاقات قوية تعود إلى عقود مع هذا البلد الخليجي، حيث تم تعريف التجارة والأعمال من خلال العلاقات العائلية، وتقول الشركة إنها توظف بناءً على الكفاءة.
ويذكر تقرير لصحيفة “وال ستريت جورنال” أن الشركة وظفت ولدين من أبناء وزير النفط خالد الفالح، وابني مدير البنك المركزي الذي استقال عام 2016، وأصبح مستشارًا في الديوان الملكي ومديرًا لشركة كيماوية مملوكة من الدولة، وكذلك ابنة وزير الثقافة السابق، وأمير كان والده مستشارًا ويعمل الآن سفيرًا في الأردن، بالإضافة إلى اثنين استؤجرا للعمل في الصيف، في حين لا يزال هناك 4 من الذين استأجرتهم الشركة موظفين فيها، وهم فيصل ابن وزير المالية محمد الجدعان، ومحمد ابن رئيس شركة المعادن صالح المديفر، وآثاري ابنة مدير البنك المركزي السابق فهد المبارك، وعبد العزيز ابن خالد الفالح.
وبعد ازدياد وتيرة الانتقادات للشركة وتناولها من قبل الكثير من الجهات في المملكة، أصدرت شركة ماكينزي العملاقة، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، بيانًا أكدت فيه أن ما أشُيع في الإعلام عن ربط الشركة برؤية المملكة غير صحيح، وأن التقرير الذي قدمه مركز أبحاث ماكينزي عن الاقتصاد السعودي والمنشور عام 2015 هو تقرير مستقل تم إعداده من المركز ولم تطلبه الحكومة السعودية.
نفت شركة الاستشارات الأمريكية “ماكينزي” في وقت لاحق صياغتها لرؤية المملكة 2030
لكن البيان الذي لم يكن مقنعًا لكثيرين لم ينه الجدل المثار بشأن علاقة تلك الشركة برؤية اقترن اسمها بمن كان آنذاك وليًا لولي العهد محمد بن سلمان، كما كان البيان نفسه أشبه ببوابة كبيرة فُتحت فدخل معها طوفان من الأسئلة عن الرؤية المعلنة وصلاحيتها للتطبيق، كما أثار ضجة كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي، واستفز مستخدمين سعوديين خصصوا وسومات للاستهزاء ببيان ماكنزي.
مفاجأة الليلة : ماكينزي تقول ان لا علاقة لها برؤية ٢٠٣٠ !!
لم لم تقولوا ذلك مع اول مقال ربطكم بها ؟
— جمال خاشقجي (@JKhashoggi) November 14, 2016
توجهت سهام النقد لورقة ماكينزي، فقد بدت غير ملمة بالسياق الاجتماعي والثقافي في المملكة، وتتحدث عن واقع متخَيل لم يدرك طبيعة الواقع السعودي، ولا شكل العلاقات فيه بين المواطن والدولة وبين الرجل والمرأة وبين السعودي والوافد، كما أعاد للأذهان تاريخًا طويلاً من تجارب معامل ماكينزي الدرامية على المشروعات والشركات والدول.
تورطت “ماكينزي” في إعداد تقرير لصالح النظام السعودي ساهم بإلقاء القبض على معارض سعودي واعتقال أشقاء معارض آخر بعد اختراق جهاز هاتفه
ورغم انتقاد عدد كبير من المتخصصين لـ”رؤية 2030″ والفشل الذريع الذي يطبع تاريخ ماكينزي مع كل الرؤى والخطط الاقتصادية والاستشارات التي قدمتها ما زالت السلطات السعودية تسوق لهذه الرؤية التي كانت أضخم صفقات الشركة “بائعة الوهم”، دون الالتفات إلى تاريخ ماكينزي المليء بالخداع والوهم والإفلاس.
أكثر من ذلك، تورطت “ماكينزي” في إعداد تقرير لصالح النظام السعودي ساهم بإلقاء القبض على معارض سعودي واعتقال أشقاء معارض آخر بعد اختراق جهاز هاتفه، وبحسب تحقيق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في أكتوبر/تشرين الأول، قام النظام السعودي بتوظيفِ شركة “ماكينزي” الاستشارية لمتابعة تطبيقِ السياساتِ الجديدة، عقب إعلان السعودية سياسات وتدابير اقتصادية تقشفية عام 2015 لمواجهة أزمة انخفاض أسعار النفط وسد العجز في الموازنة العامة للدولة، لكن شركة “ماكينزي” نفت الاتهاماتِ الموجهةَ لها في تحقيق “نيويورك تايمز”.
وتقول “نيويورك تايمز” إنها حصلت على أحد التقارير التي قامت بها شركة “ماكينزي” من 9 صفحات، وجدت فيه الشركة أن السياسات التقشفيةَ الجديدة كان لها صدى سلبي في موقع “تويتر” وبقية وسائل التواصل الاجتماعي، وبمجرد إصدار “ماكينزي” تقريرَها أُلقي القبض على الكاتب خالد العلقمي، بحسب ما أكدته منظمة القسط الحقوقية، أما الطالب عمر بن عبد العزيز المعارض السعودي المقيم في كندا، فتم اعتقال اثنين من إخوته وسجنهما، بينما اخترق النظام السعودي هاتفَه المحمول وحسابًا كان يديره وتدعمه شركة “سيتيزن لاب”، أما الحساب المجهول الذي يحمل اسم أحمد فقد أُغلِقَ نهائيًا.
“ماكينزي” في العالم العربي.. مطاردة أبناء الملوك والرؤساء العرب
شركة ماكينزي مقبولة على نطاق واسع باعتبارها واحدة من أفضل الشركات الاستشارية، ولا يمكن المبالغة في تأثيرها، فقد حققت نجاحات عدة، وعملت مع شركات عالمية لها وزنها، وحققت أرباحًا بمليارات الدولارات، وساعدت دولاً على تحقيق نجاحات في قطاعات معينة، لكن لسبب ما تبدو نجاحاتهم بعيدة عن الأضواء.
هذا ناهيك عن العديد من الحكومات العربية والخليجية التي سعت للحصول على مساعداتها، ومع ذلك، فقد كان لـ”ماكينزي” حصتها من التخبط والخداع والفشل، وهو ما يجسد المقولة التي تقول “للنجاح ألف أب”، لكن ليس من بينهم ماكينزي، أمَّا إذا جاء المولود فشلاً فنسبه معروف، نسبٌ قد يؤول إلى فضيحة.
تجارب هذه الشركة أدّتَ إلى خلق هوة عميقة بين الشعوب والحكام في البلدان العربية، على رأسها في البحرين ومصر وليبيا واليمن
وفي توجه للهيمنة على السوق الاستشارية في العالم العربي، بدأت شركة ماكينزي في تكوين الرؤى الاقتصادية لعدد من الدول العربية، فقبل محمد بن سلمان باعت ماكينزي رؤيتها نفسها لولي عهد البحرين سلمان بن حمد عام 2008، ووضعت بالتعاون مع الحكومة البحرينية “ رؤية البحرين الاقتصادية 2030“، كانت خطة إصلاحية تجعل من البحرين مجتمعًا تنافسيًا.
الشركة الأمريكية تخصصت في مطاردة أبناء الملوك والرؤساء العرب لتبيعهم الوهم، باعت الشركة خطة اقتصادية “رؤية 2030” لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي أوقف تفعيلها فيما بعد، في حين بدا مخطط “ماكينزي” مخططًا واحدًا يحاولون تطبيقه في شركات الخدمات الاقتصادية، لذلك ما يُدفع لها من أعلى المستويات.
ولم تتوقف ماكينزي عند هذا الحد، فقد عملت على خطط إصلاحية في عدة دول عربية أخرى، حيث باعت الشركة خططها المكررة لنجل الحاكم الليبي السابق معمر القذافي قبل سقوط ولايته، وسوقتها لنجل الرئيس المصري “المخلوع” جمال حسني مبارك في مصر قبل الإطاحة بوالده من الحكم عام 2011، ثم لنجل الرئيس اليمني أحمد علي عبد الله صالح في اليمن قبل مقتل والده.
أمًّا آخر السائرين في طريق ماكينزي فهو لبنان، البلد الذي أعلن الشهر الماضي أن سيدفع من خزينة الدولة مليون و400 ألف دولار مقابل دراسة تعدها الشركة الأمريكية خلال 6 أشهر لإنعاش الاقتصاد، بتكليف من مجلس الوزراء الذي يسعى إلى تنفيذ رؤية وخطة متطورة تُحدد مستقبل البلاد الاقتصادي للسنوات الخمس المقبلة.
هذا الأمر اعتبره لبنانيون إهدارًا للمال العام وإهانة للكفاءات التي جرى تهميشها، لكن يبدو أن الدولة تسير في طريقها دون الالتفات إلى تجارب هذه الشركة التي أدَّ إلى خلق هوة عميقة بين الشعوب والحكام في البلدان العربية، على رأسها في البحرين ومصر وليبيا واليمن، فقد كانت خطط ورؤي ماكينزي الاقتصادية للدول العربية متنوعة، لكنها مكررة ومغلفة.
تاريخ “ماكينزي” المليء بالخداع والوهم والإفلاس
سيرة شركة ماكينزي في بلاد العرب لا تختلف كثيرًا عن سيرتها في بلاد العجم، ومثلما يمكن إظهارها على أنها ساعدت في ابتكار معظم أدوات الإدارة الحديثة، يمكن أيضًا الإقرار بأنها شاركت في عدد من حالات الفشل المذهلة، فالشركة لم تتمكن من التنبؤ بالأزمة المالية عام 2008 رغم علاقاتها الوطيدة في العالم المصرفي واستلامها لبلاغات تحذيرية من عدد من البنوك.
ومن بين العملاء البارزين الآخرين الذين أفلسوا على يدها، كانت شركة كيه مارت “K-Mart“، وكان مستشارو ماكينزي حاضرين عندما سقط عملاق أسواق التجزئة في حالة من الفوضى، نصيحة أخرى من الشركة الأمريكية لم تكن الأفضل لبنك مورجان “Morgan”، فقد تسببت في إفلاسه أيضًا.
رغم خبرتها الطويلة، لم تتمكن شركة ماكينزي الاستشارية من إنقاذ الشركة الأمريكية “جنزال موتورز” (General Motors) متعددة الجنسيات وثاني أكبر منتج للسيارات في العالم من الانهيار
كما أعطت ماكينزي، في بداية القرن العشرين، الضوء الأخضر للدمج سيء السمعة بقيمة 350 مليار دولار بين مؤسسة “تايم وارنر” (TWX) الأمريكية العملاقة للخدمات الإعلامية والشركة الأمريكية العالمية لخدمات الإنترنت والإعلام “أمريكا أون لاين” (AOL)، الأمر الذي أحدث زلزالاً في عالم الإنترنت، وسرعان ما فشلت هذه الصفقة بسبب ظهور خدمات الإنترنت ذات النطاق العريض، كما أدى الاختلاف الكبير في ثقافة الشركتين إلى عدة مشكلات، ولم يتحقق النمو المأمول، مما أدى في النهاية إلى خسائر ضخمة، وانفصلت شركة “إيه أو إل” بقيمة سوقية 3.5 مليار دولار فحسب، وبالعودة إلى الوراء، ينظر إلى الاندماج على أنه أحد أعظم الكوارث التي تصيب الشركات في جميع الأوقات.
وبعد أن خسرت الشركة الصناعية والتكنولوجية الأمريكية الضخمة متعددة الجنسيات جنرال إلكتريك General Electric”“، واختصارها “GE“، مليار دولار قبل الأزمة المالية عام 2007، وسجلت انخفاضًا في أرباح الربع الأخير من عام 2008 بنسبة 44%، صرح المدير التنفيذي جيف إيميلت للصحافة بأن الشركة استمعت إلى النصيحة من شركة ماكينزي وشركائها.
ورغم خبرتها الطويلة، لم تتمكن شركة “ماكينزي” الاستشارية من إنقاذ الشركة الأمريكية “جنزال موتورز” (General Motors) متعددة الجنسيات وثاني أكبر منتج للسيارات في العالم من الانهيار، عقب إقرارها بممارسات محاسبية مريبة، وكان مستشارو “ماكينزي” في موقع الحادث عندما قاد “جنرال موتورز” نفسه إلى الأرض، ويعد هذا الافلاس الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
تسببت “ماكينزي” في انهيار الكثير من الشركات العملاقة
ورغم نجاحها فإن لتخبطاتها الاستشارية عظيم الأثر، ففي كتاب نُشر للصحفي المختص بالشؤون الاقتصادية داف ماكدونالد بعنوان “الشركة: قصة ماكينزي وتأثيرها السري على أمريكا”، يُظهر الكاتب كيف أن ماكينزي، عندما أصبحت جزءًا لا غنى عنه في صناعة القرار على أعلى المستويات، لم تفعل شيئًا أقل من تحديد مسار الرأسمالية الأمريكية، ويجيب أيضًا عن السؤال الذي يدور في ذهن أي شخص سمع كلمة ماكينزي: هل تستحق كل هذا؟
تناول الكاتب في أحد فصول الكتاب الإخفاقات الاستشارية في مجال الأعمال، التي كانت ماكينزي خلفها، وكان منها نصيحة شركة ماكينزي، في التسعينيات، للخطوط الجوية السويسرية (SwissAir) على تنفيذ “إستراتيجية الصياد” المثيرة للجدل، التي أدَّت لفشل برنامج التوسع الكبير فشلًا ذريعًا، واضطرت الشركة إلى إعلان إفلاسها عام 2001.
كما ذكر الكاتب تجربة ماكينزي السيئة مع عملاق الطاقة الأمريكي إنرون “NRON“، التي ربطتها بماكينزي علاقة وثيقة على مدى 15 عامًا، لكنها هوت في سنة واحدة على خلفية نصائح الشركة الأمريكية الاستشارية، ما أدَّى إلى انهيارها في الـ2 من ديسمبر/كانون الأول عام 2001، متسببة في فصل نحو 5 آلاف موظف بها، كما فقد أصحاب المعاشات وصغار المساهمين مدخراتهم التي استثمروها في أسهم المؤسسة، بالإضافة إلى ضياع ملايين الدولارات من أموال المساهمين في إحدى أكبر أزمات الإفلاس في تاريخ الشركات الأمريكية.
مع وجود هذه العيوب والأخطاء في الماضي، تستمر ماكينزي في ممارسة قوتها ونفوذها في عالم الأعمال، لكن مهما بلغت احترافيتها في وضع الخطط والإستراتيجيات إلا أنها بطبيعة الحال لن تتمكن من معرفة المستقبل
وما يجدر ذكره أن الرئيس التنفيذي لشركة إنرون، جيف سكيلنج كان أحد خريجي ماكينزي، وبحسب مجلة “التايم” الأمريكية، فإن إنرون لها علاقات مع إدارتي بيل كلينتون وجورج بوش، فقد أعطت مبلغ مئة ألف دولار من أجل تمويل حملة كلينتون الانتخابية الثانية، كما مولت حملة جورج بوش الابن الأولى بمبلغ 2.3 مليون دولار، وهي أكبر مساهمة يمكن أن تقدمها مؤسسة صناعية.
وبحسب اللجنة الخاصة للتحقيق التي شكلتها “إنرون” أن كبار المديرين التنفيذيين وأعضاء مجلس الإدارة كانوا يقدمون أرقامًا مبالغًا فيها تزيد على أرباح الشركة الحقيقية بما يقارب مليار دولار، وأكد تقرير اللجنة أن كبار مسؤولي إنرون قاموا بعمليات مشاركة وهمية ساعدتهم في إخفاء خسائر وديون “إنرون” الفعلية.
ومع وجود هذه العيوب والأخطاء في الماضي، تستمر ماكينزي في ممارسة قوتها ونفوذها في عالم الأعمال، لكن مهما بلغت احترافيتها في وضع الخطط والإستراتيجيات إلا أنها بطبيعة الحال لن تتمكن من معرفة المستقبل، وهذا ما ينبغي وضعه في الحسبان.
ويؤمن الكثير من الخبراء أن التخطيط طويل المدى، الذي تمتهنه كبرى الشركات الاستشارية كـ”ماكينزي”، ومجموعة بوسطن، سينتهي، ولن يكون لها مكان في المستقبل القريب، فاليوم، بتنا نرى العديد من الشركات الناجحة، والتي لم تستعن بتحليلات “ماكينزي” ولا بخططها، مثل شركتي أبل وجوجل التي حققت نجاحات باهرة معتمدةً على عملها الدؤوب، وقدرتها على فهم احتياجات المستهلك دون الولوج في مخططات ومعايير وتحليلات قد تعطل الإنتاجية بدلًا من دفعها.