تمتلئ السجلات القديمة بالعديد من قصص الشخصيات التاريخية التي امتازت بالثراء وعظمة الشأن ولا سيما أولئك الذين أثاروا خلفهم دهشة وفضول حول حجم ثرواتهم وأسلوب حياتهم ودورهم الاجتماعي، والذين لم تتوفر حولها العديد من المصادر والمعلومات واكتفت بسرد قصص مختصرة ومقتضبة، تاركةً الكثير من التساؤلات والتخيلات التي تجول في عقولنا حول عاداتهم وخاتمتهم.
وذلك مثل، قصة حاجي كانجا مانسا موسى (1280-1337) الذي يعتبر واحد من أشهر زعماء أفريقيا والإسلام في القرون الوسطى وأحد أعظم زعماء امبراطورية مالي، فعلى الرغم من مكانته المرموقة والبارزة عسكريًا واجتماعيًا، إلا أن ما يجعله محور الحديث عادةً هو كونه أغنى رجل في تاريخ البشرية -حتى الآن- وأول الملوك الذين نجحوا في لفت أنظار العالم القديم إلى هذه المنطقة من غرب أفريقيا.
كيف أصبح منسا موسى حاكمًا لمملكة مالي؟
لم يبدأ مشوار موسى إلا عندما ارتقى، مانسا أبو بكر الثاني، العرش في عام 1303 ميلادي، والذي سميت مدينة تمبكتو في عهده بـ“عاصمة الذهب” وهي كلمة تم ترجمتها في قاموس أوكسفور الإنجليزي إلى “أبعد مكان يمكن تخيله”، بسبب ما أثاره البعض حولها من أساطير تعزز الغموض حول صعوبة الوصول إليها، مثل ما وصفها بها الشاعر الاسكتلندي، ألفريد تينيسون، حين قال: “غامضة وغير مفهومة”، وشببها بالمدينة التي ابتلعتها الأمواج.
يضاف إلى ذلك، ما قاله مؤلف كتاب “دليل أفريقيا الغربية”، ريتشارد تريلو، الذي قال: “يمكنك الوصول إلى أي مكان، لكن من الصعب للغاية الوصول إلى تمبكتو”، فقد كانت الرحلة إليها تستغرق نحو 6 أسابيع، ما جعلها تبدو كمدينة نائية بالفعل بشكل لافت، كما وصفها تريلو. وذلك عدا عن اختفائها من الخريطة في القرنين السابع عشر والثامن عشر بعدما هجرها البربر، ما جعلها أكثر انفصالًا عن العالم وأكثر قربًا من الأساطير التي التصقت بها لمدة 200 عام تقريبًا.
قرر أبو بكر أن يذهب لاستكشاف المحيط الأطلسي، متنازلًا عن الحكم لمانسا الذي يعني اسمه باللغة الماندينكا “إمبراطور”، لتشهد البلاد مرحلة جديدة من التطورات الاقتصادية
بصفة عامة، كانت تعرف أيضًا بكونها واحدة من أغنى المدن التاريخية والتي كانت تقع على خطوط تجارة الملح والذهب القادمة من جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى، فلم يكن فيها فقيرًا أو محتاجًا، بل انتشرت فيها المباني الضخمة والقصور التي دللت على الثراء والرخاء الذي تمتع به أهالي هذه المدينة.
دام الحال هكذا لسنوات طويلة، إلى أن قرر أبو بكر أن يذهب لاستكشاف المحيط الأطلسي، متنازلًا عن الحكم لمانسا الذي يعني اسمه باللغة الماندينكا “إمبراطور”، لتشهد البلاد مرحلة جديدة وفريدة من التغيرات والتطورات الاقتصادية والثقافية التي تخطت حدود مملكته.
مانسا موسى.. أطنان من الذهب وأعوام من التضخم
ينتمي مانسا إلى أسرة كيتا التي كان جدها، موسى ديغيو، معروفًا بالتقوى والصلاح، إذ قال المؤرخين بأنه كان أول من دخل في الإسلام من ملوك مالي ولكن ابن خلدون كذب هذه المعلومة وقال إنه أول من حج إلى مكة المكرمة وليس أول من أسلم، كما يقال أنه بذل جهودًا كبيرة في نشر الإسلام بين قومه، ما يدلل على حرصه الكبير في نشر الدعوة الإسلامية، وهي ما وروثه أبنائه وأحفاده منه، ومن بينهم منسا.
لم يختلف منسا كثيرًا عن أقاربه من الملوك والحكام، فقد عرف هو الأخر بصلاحه وحسن خلقه، وإجادته للغة العربية التي سمحت له بإقامة علاقات مع مصر والمغرب، ما زاد بلاده مجد وانفتاح واتساع، خاصةً أنه فتح مملكته إلى الفارين من بلاد الأندلس، ويؤكد ذلك ما قاله عنه ابن خلدون، بأنه “كان رجل صالحًا وملكًا عظيمًا، له في العدل أخبار تؤثر عنه. كما كتب عنه ابن فضل العمري في كتابه “مسالك الأبصار”: “بنى المساجد والجوامع والمنارات، وأقام الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وتفقه في الدين”.
جدير بالذكر، أن الدين الإسلامي وصل في البداية إلى مالي من خلال الروابط التجارية بين قبائل شمال أفريقيا المعروفون باسم “البربر” وتجار غرب أفريقيا، الذين كانوا يتبادلون الذهب مقابل الملح، وبالتالي كانت فئة التجار أول من دخلوا في الإسلام ولاحقًا انضمت إليهم الأسر الحاكمة والمالكة ورجال الدين والعلماء، ما جعل الإسلام دين الشريحة النخبوية آنذاك في مالي.
لفت منسا أنظار الشرق والغرب إليه عندما ذهب بصحبة 60 ألف من أفراد حاشيته، بالإضافة إلى 100 حمولة من الذهب الذي أخذه من مناجم مالي الضخمة إلى الحج
المهم في ذلك هي الحقيقة هي أنها تنفي العديد من الأساطير والمعلومات المضللة حول أفريقيا وحكامها وشعوبها، والتي تزعم أنهم لم يكونوا سوى مجموعة من القبائل الفقيرة غير المتحضرة والتي تؤمن بالسحر والشعوذة، ولكن قصة منسا موسى تثبت العكس، فقد كان يحاول باستمرار زيادة معلوماته عن الإسلام وتثقيف نفسه وشعبه عن هذا الدين، ولعل الشهرة التي اكتسبها جاءت حين خرج لأداء فريضة الحج في عام 1324.
لفت منسا أنظار الشرق والغرب إليه عندما ذهب بصحبة 60 ألف من أفراد حاشيته، بالإضافة إلى 100 حمولة من الذهب الذي أخذه من مناجم مالي الضخمة. وهو في طريقه للحج، أنفق بسخاء ملفت ومفرط ووزع كل ما كان بحوزته للفقراء الذين قابلهم أثناء رحلته، كما أنه قدم مبالغ كبيرة لمدينة القاهرة واشترى العديد من الهدايا التذكارية مقابل الذهب، وبنى قصورًا ومنازلًا في القاهرة لحاشيته.
وبالرغم من نواياه الحسنة، إلا أنه تسبب بانهيار أسعار الذهب في العالم وأدى إلى تضخم أسعار السلع بشكل كبير، ما أدى إلى انهيار اقتصادات القاهرة والمدينة المنورة ومكة لأكثر من عقد من الزمن. ويؤكد ذلك ما كتبه عنه ابن خلدون في كتابه حين قال: “لما جاء منسى موسى من بلاد المغرب للحج، سلك على طريق الصحراء، وخرج عند الأهرام بمصر، وأهدى إلى الناصر (الملك محمد بن قلاوون) هدية حفلة، يقال: قيمة خمسين ألف دينار، وأنزله بقصر عند القرافة الكبرى وأقطعه إياه، ولقييه السلطان بمجلسه وحادثه ووصله وزوده وقرب إليه الخيل والهجن، وبعثه معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع وعشرين”.
مضيفًا،”وكان أعد لنفقته من بلاده، فيما يقال: مائة جمل من البتر، في كل حمل ثلاثة قناطير، فنفدت كلها، وأعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار” بعد أن أذهلت قافلته العظيمة الشرق والغرب، فحين تعرف عليه تجار البندقية في مدينة الإسكندرية الساحلية، عادوا إلى بلدهم إيطاليا وهو يرون قصصًا عن ثرائه الفاحش وسخائه الفارط، ما خلق في عقول الأوروبيين أسطورة تشير إلى غناء غرب أفريقيا بالذهب.
بلغت ثروته ما يعادل 400 مليار دولار أميركي بعملة اليوم، وذلك نتيجة لغنى بلاده بالملح الذي كان يتم مقايضته بالذهب آنذاك، علمًا أن جزء كبير من ثروته تم إنفاقها على الحروب الأهلية وإعداد الجيوش الغازية عسكريًا.
عندما عاد منسا إلى تمبكتو، أسس جامعات ومكاتب ضخمة واصطحب معه العديد من المهندسين والمعماريين والفقهاء والعلماء، أملًا في إثراء الحياة العلمية والدينية والثقافية في مالي، إذ تقول إحدى المصادر التاريخية أنه “عندما فرغ من رحلة حجة، رجع بالجمال إلى مالي وهي محملة بالكتب، فقالوا عنه: “رحل الذهب وجاء بكنوز الكتب”، وذلك بعد رحلة دامت لعام كامل.
أما فيما يخص أكثر الجوانب إثارة للدهشة فإن قيمة ثروته، بحسب قائمة “أغنى 25 شخصًا عبر التاريخ”، بلغت ثروته ما يعادل 400 مليار دولار أميركي بعملة اليوم، وذلك نتيجة لغنى بلاده بالملح الذي كان يتم مقايضته بالذهب آنذاك، علمًا أن جزء كبير من ثروته تم إنفاقها على الحروب الأهلية وإعداد الجيوش الغازية عسكريًا.