فى اليوم الثالث للإضراب عن الطعام يفقِد المُضرب إحساسه بالجوع، وبنهاية أسبوع على إضرابه يفقد رغبته في شرب المياه كذلك، لا يُعانى المُضرب من الجوع والعطش كما نظن، و إنما يعانى من أعراض أشد قسوة. في اليوم الثالث يبدأ الجسم ليتكيف مع الوضع الجديد – كما نفعل طول الوقت – في استخدام بروتين العضلات للحصول على الجلوكوز (سكر الدم) اللازم للجسم. وخلال أول أسبوعين (15 يوم) يبدأ الجسم بفقد الوزن بشكل ثابت، و يشعر المُضرب عن الطعام بالضعف مما يجعل الوقوف على قدميه صعبًا يصاحبه دُوار دائم وانخفاض معدل ضربات القلب، بالإضافه إلى البطء في الحركة الناتج عن هذا الضعف؛ لتصبح حركته كحركة كبار السن، يشعر كذلك المُضرب عن الطعام طوال هذه المدة بالبرد، ومن أسبوعين لثلاثة أسابيع (15 لـ 21 يوم) تبدأ في الظهور مشاكل عصبية متعلقة بضعف الإدراك وصعوبة الرؤية وإنعدام المهارات الحركية مثل التحكم في الأشياء والإتزان والناتجة عن نقص فيتامين B1. مع اليوم الـ 30 للإضراب أو بفقدان 18% من وزن الجسم أيهما أقرب تبدأ مضاعفات حادة في الظهور تجعل من الصعب على المُضرب شرب الماء، بينما تصبح مخاطر فَقد السَمْع والرؤيه عاليه، و يصبح التنفس مهمه شاقه. بعد 45 يوم يُصبح الموت خطرًا حقيقيًا واحتمالية موجودة في كل دقيقة تمر بسبب ضعف القلب ونفاذ مخزون الجسم من الدهون والعضلات وإنهيار أجهزة الجسم عن أداء وظائفها .
“بوبى ساندس” تخطى الـ 45 يوم هذه بكل ما فيهم من أعراض، بدأ إضرابه عام 1981 من أجل تحقيق مطالبه كسجين سياسي بعدم ارتداء ملابس السجن، وعدم أداء أعمال السجن، وحق الاجتماع بباقى السجناء وتوفير الأنشطة التعليمية والترفيهية، و الحق في زيارة واحدة على الأقل كل أسبوع. رفض، مثلًا، منذ دخوله استلام ملابس السجن مُنضمًا لبقية السجناء الأيرلنديين في سجن “المتاهة” الإنجليزي في حملة “البطاطين” معلنين رفضهم المعامله كسجناء جنائيين وسحب الحالة السياسية منهم مكتفين بالحبس عُراه واستلام البطانية التي توزع عليهم عند الدخول فقط، وبعد أن تعرض للضرب والإهانه طوال مدة حبسه قرر البدء فى الإضراب اعتراضًا على المعامله التي يلقاها وزملائه في السجن، قرار الإضراب كان “قتلًا للنفس” كما رأته “مارجريت تاتشر” رئيسة الوزراء الإنجليزية؛ فبعد أن استخدموا العنف ضد المواطنين والنظام، صنفت إنجلترا الجمهوريين الأيرلنديين كجماعة إرهابية، ها هم يوجّهِون هذا العنف لأنفسهم بالإضراب عن الطعام، كان الغرض من الإضراب، وكل إضراب، هو لفت الانتباه والمطالبة بالضغط الإعلامي لتحقيق المطالب، “بوبى” كان يريد هذا الانتباه، يريد للمواطنين الإنجليز والأيرلنديين و لكل العالم أن يعرف أن هناك فى سجن “المتاهة” الإنجليزي سجناء يتعرضون للظلم رغم قضيتهم السياسيه. “غاندى”، و”مانديلا”، و”خضر عدنان” و”سامر العيساوى” وباقى السجناء الفلسطنيين في إضرابهم الجماعي في السجون الإسرائيلية، والثوار والسياسيين المعارضين والصحفيين الذين تم القبض عليهم فى الهند وإيران وفنزويلا وتركيا ورومانيا وبنجلاديش وتايوان كلهم كانوا يريدون بعض الانتباه لقضيتهم وبعض القوه لإظهار الرفض للنظام وأنه لن يستطع، رغم قيده حريتهم، أن يجعلهم مُجبرين على القبول بإجراءاته وقوانينه حتى لو كلفهم هذا الموت البطىء دون طعام.
في مصر، ولأننا أم الدنيا طبعًا، هناك صحفى شاب تخطى رقم “بوبى ساندس” بكثير ووصل لليوم الـ 107 مضربًا عن الطعام اعتراضًا على القبض عليه أثناء تأدية عمله. تم القبض على “عبدالله” يوم 14 أغسطس من العام الماضي، أى منذ أكثر من 300 يوم، أثناء تغطيته لفض اعتصام “رابعه العدوية” الذي كان مراسل شبكة الجزيرة الإخبارية من ميدانها طوال فترة الاعتصام؛ لينضم إلى 81 صحفيًا آخرين تم القبض عليهم عشوائيًا أثناء تأدية عملهم ويواجهون تُهمًا بالإرهاب ونشر أخبار كاذبة وتهديد استقرار الوطن وبقية موضوع التعبير الذى يُوضع في نهاية كل إتهام، وباستثناء العاملين في قنوات “الحافظ” و”الناس” و”مصر 25″ و”شبكة رصد” وقناة “الجزيرة” و”الجزيره الإنجليزية” على اعتبار أن تلفيق التُهم سهل لهؤلاء، فقد تم القبض عشوائيًا أيضًا وبنفس “الغشومية” على صحفيين من “المصرى اليوم” و”البديل” و”مصراوي” وحتى “جريدة المال”! ليواجهوا نفس التهم التى توضع كـ “بادج” لكل من يتم القبض عليه بغض النظر عن ملابسات قضيته التي تصبح ملفًا في درج السيد وكيل النائب العام لـ “جمهورية مصر العربية التي تحارب الإرهاب” .
وفى “جمهورية مصر العربية التي تحارب الإرهاب”، و التى نكافىء مخترعها: رئيس المخابرات الحربية الأسبق ووزير الدفاع ونائب رئيس الوزراء لشئون الدفاع والأمن السابق بترشيحه لمنصب رئيس الجمهوريه الحالي، تم القبض على 21317 مواطن فى أنحاء الجمهورية في الفترة من أغسطس 2013 وحتى نهاية ديسمبر نفس العام. أكثر من واحد وعشرين “ألف” مواطن تم القبض عليهم كأثر جانبي للحرب المزعومة على الإرهاب، زادوا بالتأكيد ولم يقلوا بعد مرور أربعة شهور من العام الجديد. ما يقارب نصف هذا العدد تم القبض عليهم في النصف الثاني من شهر أغسطس بعد المذبحة التي قُتل فيها بدم بارد في إطار نفس الحرب أكثر من ألف مواطن، وخلال المظاهرات والمسيرات الرافضه لهذه المذبحة.
واحد وعشرون “ألف” مواطن معتقل في السجون المصرية من وقتها، أي ما يوازي أربعة لواءات أو فرقه كاملة في جيش أي دولة محترمة، ومتوسط الحضور الجماهيرى لنادى فولهام باستاد النادي في الدوري الإنجليزي الممتاز، ركاب 27 طائرة إيرباص A380 ذاهبه للحج، وخريجي دفعة كاملة من جامعة حلوان بكل كلياتها. هذا العدد الذى تم القبض عليه فى إطار حربنا المقدسة على الإرهاب متهم فيه 89 مواطنًا فقط بأعمال إرهابيه. 89 مواطن فقط من واحد وعشرون “ألف” مواطن، أما باقي ركاب قافلة الطائرات الذاهبة للسجن فتم القبض عليهم على خلفية أحداث سياسية حيث تم القبض على أكثر من 16 “ألف” في المظاهرات الرافضي للمذبحة ومظاهرات الطلبة بالجامعات المصرية. الطلبة، مثلاً، يمثلون 2129 من هذا الرقم الإجمالي منهم 1151 من داخل أسوار الجامعة التي صارت وكرًا للإرهاب، طبعًا يسمح بالقبض من ضمن هذا العدد على 95 طالبة جامعية لإلقائهم فى السجون التي يبيت فيها كل ليلة 239 فتاة وسيدة و327 معتقل قاصر، أقل من 18 سنة، منهم 94 طالب و14 طالبة في المرحلة الثانوية، و7 طالبات في الإعدادي، وطفل في ابتدائي!. طبعًا يصدعنا الإعلام ليل نهار أن هذه الأعداد هى من الجماعة المحظورة التي صارت بعون الله وفضل جهود سيادة وزير الدفاع السابق إرهابية، وأن هذا سبب كافٍ للقبض عليهم، في حين يُمثِّل قيادات وأنصار الجماعة 2590 مواطن فقط من واحد وعشرون “ألف” مواطن تم القبض عليهم بزعم الإرهاب، أى أنه باستثناء 89 مواطن متهمين بأعمال إرهابية، متهمين فقط وليسو مذنبين، و2590 مواطن متهمين بالانتماء لجماعة تم إتهامها بأنها إرهابية، هناك أكثر من 18 “ألف” مواطن تم القبض عليهم بتهم كخرق حظر التجوال والكتابة على الجدران وتوزيع منشورات وحيازة شعار “رابعة” وإدخال أكل للمدينة الجامعية وزيارة محتجز، تم القبض عليهم فى مظاهرات عامة ومسيرات ووقفات والمظاهرات الطلابيه داخل الحرم الجامعي وحتى أثناء زيارة أقاربهم وذويهم في السجن .
هذه “الآلاف” التي تم القبض عليها عشوائيًا وسط ظروف احتجاز وإجراءات إدارية وقضائية غاية في السوء أدت على سبيل المثال لوفاة 50 مواطن أثناء الاحتجاز ودون الاتهام في قضيه حتى، منهم 38 ماتوا بالاختناق في سيارة ترحيلات أبو زعبل وحدها، يجب أن تمر برحلة التجديد 45 يوم لثلاث مرات أمام النيابة، أي 135 يوم، أربعة شهور ونصف، وهي مدة كافيه جدًا لتضييع سنة دراسية كاملة على الطلبة وعلى تأخير “قسط الجمعية” لآلاف الأباء المعتقلين والذى سيؤخر تجهيز “البنات” ومصاريف الأولاد وسيغلق بيوتًا كانت مفتوحة من حلال لمجرد الاشتباه أو التلفيق أو لأسباب سياسيه كالتظاهر رفضًا لأكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديثة، ثم بعد رحلة “التجديد” تبدأ رحلة “التأجيل” للقضيه نفسها أمام القضاء لأجل غير مسمى ثم وحين يرضى عنا القضاء تبدأ رحلة الكفالات والغرامات التي وصلت مثلاً في دائرة سيدي جابر بالإسكندريه عن 7 محاكمات في أحداث سيدى جابر إلى 6.710 مليون، ودائرة باب شرق خلال أربع محكمات 5.330 مليون، ودائرة الأميرية لنفس عدد المحكمات 5.050 مليون مما يعنى أن ما يتخطى الخمسة مليون جنيه غرامات على الأقل سيدفعها المُعتقلون بعد “البراءة” وبعد الاحتجاز على الأقل 6 شهور، بلا جريمة فى سجون مصر التي هى أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا بالتأكيد .
قضيه أخرى كـ “الأجانب” الذين دخلوا البلد، والاعتصامات والمظاهرات التي كلها سوريين “واخدين فلوس” التي تسمعها كأمر مسلم به في التليفزيون، والمواصلات، والشارع، والقهوة، نعرف من المصادر “الرسمية” للدولة التي تحارب الإرهاب أنه تم القبض – طوال هذه المدة التي من ضمنها من تم القبض عليهم فى الاعتصامين في “رابعه” و”النهضه” – على 181 أجنبي فقط من أكثر من 21 “ألف” تم إلقاء القبض عليهم، ما يقرب من نصف الـ 181 هؤلاء سودانيين تم القبض عليهم كمتسللين ومهاجرين غير شرعيين والنصف الباقى يتوزع ما بين فلسطنيين مُتهمين بالصيد فى أماكن محظورة ومواطنيين من كل من العراق وليبيا والأردن وسوريا وكندا وأيرلندا وأمريكا وتركيا وهولندا وأستراليا وبنجلاديش تم إلقاء القبض عليهم عشوائيًا لمجرد أنهم سيئوا الحظ كانوا في مصر بينما مصر تحارب الإرهاب .
ما يريده منا النظام، أي نظام، هو أن تبقى هذه الأرقام مجرد أرقام متشابهة ليس بينها فروق، كتلة واحدة يمكن وصمها بالإرهاب، العماله، التآمر، الشيوعية، زعزعة الاستقرار، قلب نظام الحكم وأي إتهام آخر يخترعه النظام، نزع القصص التي تجعلها إنسانية واستدراك الآخرين للوقوع في فخ أن “فُلان صاحبي مش بلطجي” والذى يعني أن “صاحبه” استثناء لقاعدة أن أكثر من واحد وعشرون “ألف” مواطن آخرين تم إلقاء القبض عليهم من الشارع، والبيت، والجامعة، ومحل العمل هم مجرمين وبلطجية وإرهابيين، أن تختفى صورهم وتبقى فقط الصور المنشورة لهم بعد المبيت في القسم دون طعام أو ملابس أو نظافة لمدد طويلة أو انتقالهم للسجن لتراهم بـ “الطقم الأبيض” لتبقى في الأذهان صورهم بوشوش متربة وذقون غير حليقة وشعر أشعث يتم تصوريهم كرهًا أمام زجاجات المولتوف والأسلحه والقنابل اليدوية الصنع كمجموعة من البلطجيه فعلاً أو كسجناء مبتسمين بـ “الترينينج الأبيض” يقضون عقوبتهم على أفعال أقروا بها مبتسمين.
فى السجون الإسرائيلية، مثلًا، يجب أن يخدم المجند الإسرائيلي الوافد حديثًا من خارج إسرائيل في مراقبة السجون بعد أن يقضى فيه الفلسطينيين مدد طويلة في ظروف شديدة السوء تجعلهم أقرب في مناظرهم وتصرفاتهم للحيوانات ليراهم الجندى الإسرائيلى الجديد القادم من روسيا أو أستونيا كحيوانات فعلاً لباقي حياته التي يتساهل خلالها جدًا مع فكرة أن يراهم يُقتلون يوميًا أو أن يُطلق عليهم النار بنفسه بعدها لأنهم “حيوانات” و”يستاهلوا”.
ما يريده النظام، أي نظام، هو أن يتم دمج عشرات الآلاف من قصص القتل والاعتقال والتعذيب لتصبح قصة واحدة يخترعها النظام بنفسه ويلقيها للإعلام، في قالب واحد ثابت يسع الجميع، يرددها فيرددها خلفه الناس: “الاعتصام سوريين واخدين فلوس”، “المظاهرات إخوان”، “اللي ف الجامعات بلطجية مأجورين مش طلبة”، أي قوالب ثابته يصلح معها “حشر” آلاف “العاديين” ليدخلوا هذه القوالب مجبرين وسط تهليل الناس، و صراخ البعض على ذويهم أن “فلان مش بلطجي” مع صورة “نضيفة” له وسطرين ثلاتة من نشاطاته الاجتماعية والخيرية ودرجاته في الفيزياء والرياضيات. في حين أن هؤلاء ليسوا متهمين أصلاً، سواء كانوا متعلمين أو غير متعلمين، معدل ذكائهم عالى أو متوسط، يعيشون في منطقه راقية أو في العشوائيات، أفكارهم بخصوص شكل الدولة وفريق الكرة المُفضل وطريقة اللبس مثلنا أو مختلفين، استثنائنا لأقاربنا وأصدقائنا وأصدقاء أصدقائنا معناه أننا مُقرِّين بحدوث مثله لآخرين شرط ألا نعرفهم، طالما دائرة معارفك في أمان، طالما أنت في أمان، حتى لو كان أمان زائف ومؤقت ولا يحميك فيه من بطش الدولة التي قتلت أكثر من ألف مواطن مدني في يوم وليلة واعتقلت أكثر من واحد وعشرين “ألف”، غير جهلك .
فى آيرلندا مثلاً، وبخصوص الأمان الزائف، وأثناء سجن الجمهوريين، الذين تم تصنيفهم كجماعة إرهابية أيضًا مع اختلاف الظروف، و تعذيبهم وإهانتهم في السجون وبدء حملات الإضراب عن الطعام وتجاهلها من قبل السُلطات تم اغتيال 16 ضابطًا في نفس الفترة، قنابل مُفخخة في السيارات، رصاصة في الرأس أثناء السير مطمئنًا في الشارع، زائر غريب في الانتظار أمام المنزل في الصباح وهكذا، أمام 89 متهم بأعمال إرهابية طوال الفترة السابقة في مصر – أشك بعد كل هذا طبعًا فى اتهامهم – تم القبض على أكثر من واحد وعشرين “ألف” مواطن آخر لأسباب سياسية أو لدواعى أمنيه تتبعها بلادنا مثل أن: “اضرب المربوط يخاف السايب”. وصف هذا بـ “الجنون” وباستدعاء إرهاب لم يكن موجودًا أصلاً يبدو سخيفًا جدًا لأن جنونًا كهذا استعر فعلاً في كل دولة قرر فيها نظامًا دمويًا أن يبدأ عهده بقاعدته الراسخة “اضرب المربوط يخاف السايب”. تم ضرب “المربوطين” و”السايبين” في أندونسيا، تركيا، كوبا، فنزويلا، البرازيل، إيران وفي كل مرة كان الناس يهللون للدولة المدنية الديمقراطية الجديدة، التي قمعت الظلاميين سواءً كانوا شيوعيين، يساريين، إسلاميين، على حسب النظام الجديد، و يقفوا “طوابير” للاستفتاء على الدستور الذي يضمن حرية التعبير وحرية الصحافة وحقوق السجناء ومنع الحبس احتياطيًا إلا لمدة محددة، ثم يكون كل هذا كلامًا على ورق مثلما انتهى الاستفتاء نفسه لمجرد صورة جديدة أُضيفت لألبوم تأييد شرعية النظام الذي يبدو إضراب “عبدالله” ضده باهتًا لا يلفت الانتباه في دولة لا تهتم أصلًا بما يقوله العالم عنها وعن تجاهلها للمضربين عن الطعام طالما مر قتلها للمدنيين في الشوارع واعتقالهم وتعذيبهم فى السجون على أنغام “تسلم الأيادي”.
يكتشف الناس بعد “الأغنيه” أن الإرهاب لم ينته، بل بدأ، وأن المُطالبة بالحرية للمعتقلين ليس لأننا نعرفهم، وليس لأنهم أصدقائنا وأقربائنا الذين نعرف جيدًا أنهم مظلومون، ولا لأننا مُرهفو الحس وبتوع “حقوق إنسان”، ولكن لأننا نُدرك المخاطر الحقيقية للظلم كأقصر طريق للعنف الذي عندما يبدأ يطالنا جميعًا، نبدأ في اكتشاف أشياء أكثر عمقًا كأن تجاهل إضرابٍ عن الطعام ومعاملة غير إنسانية في سجن لن تخلق من السجين الذي أضرب عن الطعام – الذي هو نوع من المقاومة السلمية أصلاً – إرهابيًا، وإنما تستدعى أن يتحول شخص آخر خارج السجن لقاتل يحقق عدالته بنفسه برصاص عشوائي على كمين، قنبلة في كشك حراسة، أو رصاصة تنتظر ضابط في مكان مظلم أثناء عودته لمنزله .
الحرب على الإرهاب – إن كان هناك إرهاب – تكون بالعدل، بالحرية للمساجين ظُلمًا، للأرقام التى نقرأها فى الأخبار ونسمعها في النشرات، للأسماء الكثيرة التى يُحكم عليها بالإعدام أو يجدد حبسها فلا تعنى لنا أكثر من أسماء ثلاثية في كشف طويل نمر عليه سريًعا دون إهتمام : عبدالرحمن محمد إبراهيم، ماهر محمد حسن، حفصة أحمد علي، محمد عبدالله طه، محمد صلاح سيد، إيمان مصطفى الشناوي، عبدالرحمن مجدي محمد، مريم محمد الشريف، منار رجب عبدالستار، أبوبكر حسن محمود، وغيره وغيره وغيره. الأمر لا يتعلق بكون النظام قاتلاً وظالمًا وأنه يدمج آلاف الأشخاص والحكايات والأحلام والاختلافات الشخصية والفروق الاجتماعية والمعرفية في قالب المتهم الواحد الإرهابي القاتل الخطر على المجتمع والذي سيكون النجاح في التخلص منه أساس لحكمه المدني الرشيد، وإنما بأن نعرف ونرفض، أن نذكر دائمًا أن هناك آلاف قتلوا بغير حق، وعشرات الآلاف معتقلون أيضًا بغير حق، أن هذا النظام ظالم ودموي ولا يهتم بدستور أو قانون أو برأي الناس، ولا حتى برأي العالم، وأن تجاهلنا يعنى القبول وصمتنا يعني الموافقة، أن لا نترك حكايات هؤلاء تخبو أو نسمح بأن يصيروا أرقامًا وأوراقًا فارغة في قضية بلا معنى بل نبقيهم حكايات وابتسامات وأحلام ومطالب، نبقيهم أفرادًا، صحيح يبدو النزول للشارع صعبًا بعد أن كان ما كان لكن يبدو الإضراب عن الطعام في رمزيته خيارًا أخيرًا لتعاملنا مع نظام كهذا، رفضه من أساسه، تعريته من أسباب شرعيته التي اتسعت بموافقتنا وصمتنا يومًا بعد يوم، التشهير به والتذكير طول الوقت بجرائمه كاملة، ليست الجرائم التي تخصنا وأصدقائنا فحسب، وإنما جرائمه كاملة، حتى تجاهله سيصير جريمه بمرور الوقت، بدء حملات بخصوص المعتقلين، وبخصوص التحقيق في الجرائم التي تمت وأُغلقت بالنسيان .
الناس فى أيرلندا لم تنس، تعاطفت مع “بوبى” ورفاقه ومطالبهم، و بدأت حملة لاختيارهم كأعضاء للبرلمان رغم سجنهم ورغم حالتهم الصحية جراء إضرابهم عن الطعام، وبنهاية الحملة التى استمرت لأسابيع أصبح “بوبى ساندس” ذو الـ 27 عامًا هو أصغر نائب في مجلس العموم البريطاني ليضاف ضغط جديد على الحكومة من أجل تحقيق المطالب التي سار إليها في شجاعه مع 9 رفاق آخرين عندما بدأوا إضرابهم عن الطعام، قبل أن ترضخ الحكومة في الأخير وتنفذ مطالبهم ويصبح “بوبى ساندس” من وقتها بطلاً قوميًا تُحكى قصته وقصة إضراب الجمهوريين الأيرلنديين في سجن المتاهة الإنجليزي أفلام سينمائيه ك “H3″ـ و “Some mother’s son و ” Hunger” لتبقى حاضرة طول الوقت تُذكر بجرائم الإنجليز وبكفاح الأيرلنديين من أجل حقوقهم. ليس ما يعنينا كيف تكون النهايات، سواء كانت نهاية “بوبى ساندس” أو “غاندى” أو “مانديلا” أو “سامر العيساوى”، ما يعنينا أن تبقى الحكاية في الذاكرة، وأن نفعل ما تستحق من أجل أن تبقى، مهمتنا هى ألا ننسى، أن يبقى في أذهاننا حاضرًا كل ما حدث، وأن ننشر هذا طول الوقت ليبقى حاضرًا للجميع. عدد الطلبة، الصحفيين، الأطباء، الصغار، مُعتقلى المسيرة الفُلانية، ومُصابى المسجد الفُلاني، مواعيد القضايا، صور المعتقلين، ومطالبهم. قضيتنا الآن ألا تمر هذه الأشياء من “ثقب الذاكرة”، أن نبقى متمسكين بها ونشعلها كلما خبت جذوتها وسكنت، فنحن لا نموت بالرصاص، أو بالإضراب عن الطعام، بل بالنسيان.