لم تنفك قيادات النظام الحاكم والدائرين في فلكهم بالجزائر عن تخويف الجزائريين، ضمنًا أو مباشرة، منذ بداية الحراك قبل أكثر من أسبوعين، من الفوضى وانعدام الاستقرار والأمن في حال تواصل احتجاجاتهم المطالبة بوقف “مسرحية” العهدة الخامسة، وإرجاع البلاد لأصحابها.
لم يكتفوا بالتحذير، بل بالتذكير أيضًا أنهم الوحيدون القادرون على حماية أمن واستقرار البلاد وضمان العيش الكريم للمواطنين بعيدًا عن كل مظاهر الفوضى، فهم من أخرجوا الجزائر منها، لكنهم نسوا أو تناسوا وفق العديد من الجزائريين أنهم السبب الرئيسي فيما تعيشه البلاد من أزمات.
ورقة العشرية السوداء
ما زالت ذكريات الحرب الأهلية المريرة في تسعينيات القرن الماضي تلازم الجزائريين الأكبر سنًا الذين عايشوا الأحداث واكتووا بنارها، وهو ما دفعهم لغض الطرف عن الإجراءات القمعية الصارمة بحق العديد من أبناء جلدتهم مقابل الاستقرار والأمن الذي يروج له النظام.
استغل النظام هذا الأمر، للتضييق على الجزائريين وتذكيرهم بالأحداث الأليمة كلما رفعوا صوتهم مطالبين بالتغيير، فما إن يشعر النظام برغبة الشعب في التغيير، حتى يسارع باستعادة ملامح “العشرية السوداء” والفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات، فتجده يحذر مما يعتبره فوضى تؤدي حتمًا وفق تصوره، لرجوع البلاد إلى حالة الاقتتال والعنف، ودخولها في مغامرة سياسية وأمنية لا يعرف أحد عواقبها على البلاد وأهلها.
مؤخرًا، ما إن يتكلم أحد أذرع النظام للحديث عن الاحتجاجات التي تعم مدن البلاد، حتى يحذر من الفوضى ويستدعي مصطلحات من قبيل “سنوات الجمر” و”عشرية الدم”، للدلالة على فظاعة الأحداث التي حصلت خلال تلك الفترة التي ما زلت ذكراها الأليمة ساكنة في عقول الجزائريين ممن شهدها أو حتى سمع عنها، كل ذلك لتفويت الفرصة على الجزائريين لاستعادة بلادهم.
إنقاذ البلاد من الحرب الأهلية، وفق أنصار الرئيس، يعطي لهم الحق في حكم البلاد وتقرير مصيره ومصير الملايين من أبناء شعبه
يقف مريدو النظام فوق المنصات وأمام الشاشات وخلف مصادح الإذاعات، خلال هذه الأيام، محذرين من الفوضى، مذكرين بفضل قائدهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أخرج البلاد من العنف والاقتتال وأنهى سنوات الفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين.
يصر هؤلاء في خطاباتهم أمام المواطنين على تأكيد ضرورة اتقاء العودة إلى الفوضى التي عاشتها البلاد في السابق، وذلك بالاصطفاف حول الرئيس المنقذ وإن كان مريضًا ولا يقوى على الحركة ولا الكلام، وتبني خياراته فهي الوحيدة الكفيلة بإنقاذ البلاد من أزماتها العديدة.
ويصف العديد من أتباع النظام وأنصاره، الاحتجاجات التي تعرفها البلاد ومحاولات التغيير الحاصلة، ضربًا للاستقرار في البلاد، وتهديدًا لأمنه وتماسكه، فهم الوحيدون المؤهلون لحكم البلاد، بعد أن أنقذوها وفق ادعائهم من الحرب الأهلية من خلال سن قانون الوئام المدني الذي يعتبر أول قرار سياسي اتخذته السلطة تجاه الجماعات المسلحة في البلاد، مباشرة بعد فوز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات أبريل/نيسان 1999.
يستدعي النظام مصطلحات الفوضى لتخويف الجزائريين
إنقاذ البلاد من الحرب الأهلية، وفق ادعائهم، يعطي لهم الحق في حكم البلاد وتقرير مصيره ومصير الملايين من أبناء شعبه، فهم صمام الأمان للمصالحة الوطنية التي تمنع عودة سنوات الدم، وتجنب الجزائر والجزائريين خطر الانزلاق مجددًا في أتون الحرب الأهلية، لذا لا أحقية لغيرهم في حكم البلاد، فهم وحدهم دون غيرهم صانوا أمنه وحفظوا استقراره، ومن يسعى لاستبعادهم إما جحود أو حاقد أو عميل لجهات تريد الدمار للبلاد عبر بث الفوضى فيها.
الجيل الجديد لم تعد تنطلي عليه “الحيلة”
هذا الخطاب كان ينفع مع الجزائريين الأكبر سنًا، لكن المحتجين الشبان الذين لا تربطهم أي صلة حقيقية بحرب الاستقلال وما حصل خلال تسعينيات القرن الماضي التي تعزز مكانة القادة المتقدمين في السن، أمثال الرئيس بوتفليقة، فقد نفد صبرهم في ظل ما يعانونه من نقص الوظائف والأزمات الكبيرة.
وبوتفليقة أحد القلائل الباقين على قيد الحياة من أبناء الجيل الذي شارك في حرب التحرير الجزائرية وقاد البلاد بعد الاستقلال عام 1962، وكان أصغر وزير خارجية سنًا في العالم حين تولى المنصب إثر وفاة أول وزير خارجية للجزائر بعد الاستقلال محمد خميستي، سنة 1963، ويعد بوتفليقة، أكثر الرؤساء الذين عمروا في قصر المرادية، حيث بلغ 20 سنة من الحكم، ويرجع له الفضل حسب العديد من الجزائريين في إنهاء الحرب الأهلية في البلاد.
يضع إصرار الرئيس عبد العزيز وجماعته في حكم الجزائر مدة أخرى، دون أن يستجيبوا لمطالب الشعب الذي خرج بمئات الألاف في الشوارع، البلاد على مفترق طرق
يقول مدير موقع طريق نيوز الجزائري لمين مغنين: “درجة الوعي التي وصل إليها المجتمع الجزائري ستجنب الجزائر الدخول في مرحلة اللااستقرار”، وأضاف في تصريح لنون بوست “ما يحصل في الجزائر هو صراع بين جيلين، جيل الثورة وجيل ما بعد الثورة والجميع أدرك أنها نهاية مرحلة والدخول في مرحلة أخرى ترسم معالم جزائر جديدة وجمهورية ثانية”.
وأكد الإعلامي الجزائري أن من يحتكرون السلطة والمستفيدين من غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أصبحوا عبئًا على الجزائر، ويتهم الكثير من الجزائريين جهات نافذة في الحكم بالاستئثار بخيرات البلاد وثرواتها الباطنية الكثيرة، ما جعل الجزائر في تراجع مستمر.
وعن استدعاء بعض أذرع النظام، مصطلحات تذكر بالعشرية السوداء التي عرفتها البلاد قبل نحو 25 سنة، قال لمين مغنين: “هو خطاب للتخويف طبعًا ولكن هذا الجيل لم يعش الإرهاب لذا أعتقد أن هذا الخطاب عقيم منذ البداية”، وأضاف “أعتقد أنه نفد صبر الجيل الجديد بدرجة لم تعد تخيفه مصطلحات الفوضى واستدعاء خطاب العشرية السوداء، فنحن نشاهد المسيرات في كل المناطق، البنات والأطفال والشباب كلهم خرجوا إلى الشوارع، متمسكين بمطلب التغيير ورؤية جزائر جديدة بنظام وأفكار جديدة بعيدًا عن تلك التي يتمسك بها هذا النظام الحاكم تذكر بالعشرية السوداء والعنف”.
وفي ختام حديثه لنون بوست، قال مدير موقع طريق نيوز الجزائري: “أعتقد أنه حان الوقت لإعطاء فرص للجيل الجديد، جيل التكنولوجيا لإثبات وجوده، وعلى الأقل مشاركته في بناء الجزائر العزيزة علينا”.
عبء سياسي واقتصادي ثقيل
يرى الإعلامي والمحلل السياسي الجزائري علي لخضاري أن “السلطة السياسية التي يمثلها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وعصبة المنتفعين من رجال المال وأصحاب النفوذ، أصبحوا فعلاً يشكلون عبئًا سياسيًا واقتصاديًا ثقيلاً وجب رحيلهم في أسرع وقت إنقاذًا للجزائر”.
تواصل الاحتجاجات في مدن الجزائر
وقال لخضاري: “توظيف مصطلحي الثورة وإسقاط النظام في التجربة الجزائرية مسبوقة منذ أحداث أكتوبر 1988 وما أعقبها من مرحلة العنف التي امتدت لأكثر من 10 سنوات بتكلفة بشرية ومادية ما زالت تأثيراتها في المشهد الجزائري حتى اليوم، كل هذا صقل التجربة السياسية والاجتماعية في الجزائر وساهم في عقلنة مطالب المتظاهرين الذين كان مطلبهم الأساسي هو منع العهدة الخامسة للرئيس المنتهية ولايته الرابعة عبد العزيز بوتفليقة”.
وأكد المحلل السياسي الجزائري “يجب التفريق بين النظام والسلطة في الجزائر، فالنواة التي تشكل القوى الصلبة في النظام الجزائري قوية متماسكة وتتمتع بشرعيات متعددة، والجيش الذي يشكل نواة النظام له شرعية تحرير وتأسيس الدولة الجزائرية، وهو ما يطرح إشكالية أولوية السياسي أو العسكري في الجزائر، فجزء أصيل من النظام في هذه الحالة أصبح بشكل منطقي متغير أساسي في معادلة الحل لا التعقيد وذلك رغم إخفاقات السلطة السياسية التي تطالب الجماهير برحيلها”.
ويضع إصرار الرئيس عبد العزيز وجماعته في حكم الجزائر مدة أخرى، دون أن يستجيبوا لمطالب الشعب الذي خرج بمئات الآلاف في الشوارع، البلاد على مفترق طرق، وينذر بما هو أخطر، خاصة أن كلا الطرفين مصرين على الذهاب قدمًا دون تراجع.