بينما كانت طائرة علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد الإيراني علي خامنئي، تستعد للهبوط في مطار دمشق يوم الخميس الفائت، كان دوي الانفجارات على بُعد كيلومترات قليلة يهزّ عدة مواقع في العاصمة السورية، جرّاء ضربات إسرائيلية.
يحمل مشهد القصف الإسرائيلي خلال جلوس الأسد مع لاريجاني، رمزية كبيرة في سياق التطورات المتسارعة في البلد الجار لبنان، حيث تواصل “إسرائيل” هناك حربها ضد “حزب الله”، بينما يكتفي الأسد بإصدار تصريحات، لتذكير حلفائه الإيرانيين بأن سوريا لا تزال ضمن “محور المقاومة”.
ووفقًا لحساب رئاسة الجمهورية التابع لنظام الأسد في منصة “تيليغرام” أكّد الأسد لضيفه الإيراني لاريجاني، “التمسك بالحقوق الفلسطينية التاريخية، ودعم صمود الشعبَين الفلسطيني واللبناني بشتى الوسائل، ووقف المجازر، ووضع حدّ لجرائم الإبادة الجماعية”، غير أن الأسد نفسه يدرك جيدًا أن تصريحاته بشأن فلسطين ولبنان والمواجهة مع تل أبيب باتت مثيرة للسخرية حتى بالنسبة إلى جمهور “محور المقاومة”، في ظل ما وصفته صحيفة “فورين بوليسي” الأمريكية بأنه “نأي غريب بالنفس” عن دوامة الصراع قرب الحدود الشرقية والجنوبية مع سوريا.
بل إن الواقع هو أن الأسد لا ينأى بنفسه فقط عن الصراع الدائر في غزة ولبنان، إذ بات يأخذ وضع المتفرج “شديد الحيادية” تجاه القصف الإسرائيلي المتكرر في مناطق سيطرته، حيث تشنّ “إسرائيل” بشكل شبه يومي غارات يتصاعد عنفها، تستهدف بشكل رئيسي قيادات من “حزب الله” أو الحرس الثوري الإيراني أو فصيل الجهاد الإسلامي الفلسطيني، دون أي محاولة من قبل نظام الأسد حتى للتصدي لتلك الضربات كما كان يفعل قبل أسابيع قليلة.
وباتت مناطق سيطرة نظام الأسد بمثابة ساحة مفتوحة ومستباحة، يتلقى فيها حلفاء النظام الضربات، بينما هو يلوذ بالصمت المطبق، من أجل “أولوية البقاء” التي “طغت” على جميع أولويات النظام في دمشق، بحسب تقرير أصدره حديثًا مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط.
وأبدى بشار الأسد رغبته في تجنُّب المواجهة مع “إسرائيل” في خضمّ التحديات المتزايدة، بينما يبدو الطريق “محفوفًا بالمخاطر”، نظرًا إلى روابط الأسد الوثيقة بإيران، ووجود “حزب الله” على الجانب الآخر من الحدود في لبنان، ودور سوريا بوصفها مركز عبور للأسلحة من إيران إلى الحزب اللبناني.
رسائل الضغط الإيراني
تكتسي زيارة لاريجاني أهمية خاصة، لكونها جاءت عقب فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية الرئاسية وإدارته غير المبشّرة لإيران، وفقًا لأيمن الدسوقي الباحث في مركز عمران للدراسات.
يقول الدسوقي لـ”نون بوست” إن زيارة لاريجاني تأتي في ظل توتر خفي في العلاقة بين نظام الأسد وإيران، على وقع الحديث عن عروض للأسد لضمان حياده أمام “الاندفاعة الإسرائيلية” إقليميًا، ووسط مطالب بإعادة ضبط علاقته بشكل جذري مع إيران و”حزب الله”، مقابل مكاسب مالية وسياسية، فضلًا عمّا يرشح من معلومات عن وقف لإطلاق النار في لبنان قد لا يكون لصالح “حزب الله” بشكله الراهن.
ويضيف الدسوقي أن التحولات في البيئتَين الدولية والإقليمية فرضت نفسها على حسابات صانع القرار الإيراني، دافعةً إياه للتدخل وإرسال لاريجاني، محل ثقة المرشد خامنئي، لإيصال رسالة خاصة للأسد، ورغم عدم وجود معلومات كافية بعد حول فحوى الرسالة، لكن المرجّح أنها تتصل باستكشاف نوايا الأسد تجاه تموضعه في “محور المقاومة”، بحسب الدسوقي.
وبعد أقل من 48 ساعة على زيارة لاريجاني، وصل وزير الدفاع الإيراني، عزيز نصير زادة، إلى دمشق، والتقى مسؤولين عسكريين على رأسهم نظيره السوري، قبل لقائه بشار الأسد في وقت لاحق.
ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إيرنا” عن زادة قوله إن “العلاقات بين طهران ودمشق متنامية”، وأضاف: “إن لسوريا دورًا استراتيجيًا وبارزًا جدًّا في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية”، وأن “العلاقات الإيرانية السورية متنامية وندعم بعضنا في الظروف الحسّاسة”.
بينما أفادت وكالة “سانا” الناطقة باسم نظام الأسد، في بيان مقتضب، أن الأسد بحث مع زادة “قضايا تتعلق بالدفاع والأمن في المنطقة، وتعزيز التعاون بين البلدَين لمواجهة الإرهاب وتفكيك بنيته بما يخدم استقرار المنطقة وأمنها”.
ويعبّر الباحث الدسوقي عن اعتقاده بأن زيارة وزير الدفاع الإيراني “مؤشر على تجاوب الأسد مع رسالة المرشد، وتفعيل هذا التجاوب من خلال خطوات ملموسة بين مؤسسات الدولتَين”، وفي ظل القراءة الإيرانية فالمنطقة مقبلة على تطورات كبيرة جرّاء الاندفاعة الإسرائيلية ومجيء ترامب للسلطة، والمستهدف ليس إيران فقط إنما النظام السوري أيضًا، الأمر الذي “يتطلب التنسيق المشترك في الميدان ودور ملموس للنظام لمواجهة تهديدات هذه المرحلة، وطمأنة بضمانة المرشد خامنئي بأن إيران مستعدة لتقديم دعم متعدد الأوجه لضمان بقاء الأسد ونظامه”.
وتشكل العلاقة بين بشار وطهران حساسية كبيرة جدًّا في السياسة الخارجية الإيرانية، إذ شاركت إيران بدعم بقاء الأسد منذ الأيام الأولى للثورة الشعبية ضده قبل 13 عامًا، ووضعت كل ثقلها العسكري والاقتصادي في سبيل إنشاء ممر برّي يصل بين إيران والبحر المتوسط فيما عُرف إعلاميًا باسم “الهلال الشيعي”، وتدرك طهران جيدًا أن فقدان النفوذ على الأسد يعني عمليًا فقدان هذا الممر، وتحطُّم المشروع الإيراني في المنطقة الذي بلغ أوجه فترة 2016-2022.
في واقع الأمر، لا يطبّق بشار الأسد تكتيك “النأي بالنفس” عن القضية الفلسطينية والمواجهة مع “العدو الإسرائيلي” التي طالما كانت العنوان الإعلامي الأبرز لحكمه وحكم أبيه، ولا عن “حزب الله”، حليفه الميداني الأكبر على الأرض، والذي كان بمثابة “جيش رديف” في المعارك البرية التي خاضها جيش الأسد ضد قوات المعارضة السورية، إنما كان النأي بالنفس عن المشروع الإيراني الكبير في المنطقة، والذي كان الأسد يُعَدّ أحد أهم أدواته، فيما تعتبره إيران “رأس حربة” في هذا المشروع.
وهذا ما يفسّر بالفعل تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتكررة عن “دور سوريا والأسد” في مواجهة “المشروع الصهيوني”، وكان من أهمها تصريح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني، خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، والتي أكّد فيها عبر بيان صادر عن مكتبه أن “الحكومة السورية هي حكومة ثورية ومعادية للصهيونية وإحدى الحلقات الأساسية في سلسلة المقاومة”، واصفًا الأسد بأنه “شخصية مؤثرة تؤمن بالمقاومة وتدعمها خصوصًا ضد الكيان الصهيوني”.
وحينها قالت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية التي نشرت البيان، إن تصريحات ولايتي جاءت ردًّا على “بعض الشائعات المتعلقة بالعلاقات الإيرانية- السورية.. بهدف تدمير العلاقات بين إيران وسوريا”.
هل ينجح الأسد بالخروج من عباءة إيران؟
في موازاة التعويل الإيراني على أهمية بشار الأسد في محور المقاومة، يحرص الأخير على المشي بحذر فوق حبلَين خطيرَين، الأول يحاول من خلاله الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع إيران، والثاني يسعى فيه إلى عدم التورط وإغضاب “إسرائيل” التي هددته بمصير يشبه مصير حسن نصر الله، في حال لم يتعاون مع تل أبيب في منع نقل الأسلحة من سوريا إلى لبنان، ولهذا فإنه يحكم اليوم رقعة جغرافية أصبحت بمثابة “أرض صيد” لعناصر وقيادات “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني، وفق تعبير صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية.
وأشارت الصحيفة الإسرائيلية إلى تقارير حول أن الأسد “يحاول إبعاد نفسه عن حليفه الإيراني والاقتراب من الدول العربية المعتدلة”، مؤكدة أن “بعض المراقبين الإسرائيليين للشأن السوري يتّفقون مع هذا التقييم”، غير أنها عادت لتوضح أن جيش الأسد بات “الحلقة الأضعف” في المشهد السوري، وأن إيران هي التي تسيطر فعليًا على معبر البوكمال الحدودي الجنوبي الشرقي بين العراق وسوريا، والطرق المؤدية إلى غرب البلاد (باتجاه لبنان والبحر المتوسط)، فيما “لا يدخل جيش الأسد هذه المنطقة إلا بإذن إيراني”.
تضيف “جيروزاليم بوست” أن تل أبيب لا تبدي أي اهتمام خاص بالأسد، باستثناء اهتمامها بمدى ما تسعى إليه قواته من تسهيل أو مساعدة أو الدفاع عن مسار الأسلحة الإيرانية من العراق إلى لبنان، موضحة أن “الفوضى النسبية” الحالية في محور المقاومة قد تؤدي إلى جهود من جانب الأسد لتخليص نفسه من هذا المحور.
تقول الصحيفة الإسرائيلية في الإجابة عن هذا السؤال المهم جدًّا: “ربما كان من الأفضل مقاومة أي آمال في أن يتمكن الأسد من تحقيق قطيعة حاسمة مع إيران”، وتذكر عدة أسباب حيال هذا الافتراض، بينها أن من سمّته “الديكتاتور السوري” مدين لطهران في نجاته من السقوط، ولا شك أنه يدرك تمام الإدراك أنه لو دخل فترة الربيع العربي وهو متحالف مع الغرب، لكان من المؤكد تقريبًا أن يلقى نفس مصير الزعماء الذين أطاحت بهم الثورات الشعبية في مصر وتونس، وتشدِّد على أن “التخلي الكامل عن الإيرانيين من شأنه أن يمثل قطيعة حادة مع النموذج الذي خدم عائلة الأسد بشكل جيد، لذا فإن أي قطيعة من هذا القبيل (مع إيران) تظل غير مرجحة”.
وترتبط الضغوط على بشار الأسد بشكل طردي، بالضغوط التي يرجّح أن تمارسها إدارة ترامب ضد إيران، ومن هذا المنطلق يعتقد الباحث الدسوقي أن الأسد “في موقف صعب، وهامش حياده يتضاءل”، وطالما أنه ليس هناك قرار دولي بإسقاطه فالراجح أنه “لن يتوانى عن الانخراط في رهان عالي الكلفة”.
وقريبًا من هذا الرأي، يوضح تقرير كارنيغي السابق أن مقاربة النظام غير المتسقة تجاه استراتيجية “وحدة الساحات” قد ساعدته على تجنّب الردود الإسرائيلية المباشرة، إلا أن ذلك وحده لن يكون كافيًا لحماية سوريا من المخاطر في المستقبل، ومن أجل الحفاظ على بقائه “هو مضطر لمواصلة السير على حبل رفيع تمسك به قوى إقليمية متعددة”، فيما “سيصبح الحفاظ على هذا التوازن صعبًا بشكل متزايد”، مع مواصلة “إسرائيل” حربها التي قد تقترب أكثر من دمشق.
وكان تقرير نشره “نون بوست” في 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أشار إلى أن الأسد يواجه الكثير من الخيارات المرّة، فالمطلوب منه إيرانيًا سيكون أكبر من قدرته، والمطلوب منه إسرائيليًا أوسع ممّا يستطيع، واللافت في الأمر أنه في حال تلبية مطالب أي من الطرفَين، فلن يكون بمنأى عن استهداف الطرف الآخر.