نقصد بالعولمة الثقافية النشاط الذي يسعى إلى تعميم النمط أو المظهر الثقافي الواحد على العالم أجمع، سواء كان ذلك في الطعام أو اللباس أو العادات والتقاليد أو غيرها.
وتجدُ العولمة الثقافية في عصرنا الحالي طريقا جديدا لها تسلكه، وذلك من خلال ظاهرة تعميم الأنماط الفنّية 1 التي تمثّلت بنماذج مثل أغنية «Happy» أو رقصة «Harlem shake» ورقصة «Penguin»، وغيرها من الأنماط والأغاني والرقصات التي تنتشر بسرعة فيما يشبه الـ Viral marketing2
ولنذكر نبذة عن كلّ واحدة من هذه النماذج قبل الشروع في الحديث عن مضمون العولمة الثقافية الذي تحمله ومدى خطورته على جيل الشباب.
«Happy»: هي أغنية للمغنّي الأمريكي فاريل ويليامز، وقد حققت انتشارًا كبيرا لدى رفعها على موقع “يوتيوب” في تشرين الثاني من العام الماضي، ووصل عدد مشاهدي الفيديو إلى أكثر من 221 مليون مشاهد. ثمّ قام الكثير من الشباب حول العالم، بما في ذلك العالم العربي، بتقليد الأغنية من خلال تصوير مقاطع فيديو لشباب وفتيات يتراقصون على أنغامها مبتسمين فرحين.
«Penguin»: هي رقصة تعود لعام 1956، حيث ظهرت عبر برنامج تلفزيوني ألماني لتعليم الرقص، وإن كانت الموسيقى تختلف حينها نوعًا ما، إلا أنّ الرقصة مطابقة تمامًا لما هي عليه الآن، وقد انتشرت في موقع “يوتيوب” عالميّا، وانتشرت في العالم العربي من خلال مقطع فيديو في إحدى حفلات الزواج العربية، حيث بدأت هذه الرقصة تستهوي المجتمع العربي، بعد أن عجّ موقع “يوتيوب” بمئات المقاطع المماثلة لها3.
«Harlem shake»: هي رقصة جديدة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في 2013 بسبب فيديو رُفع على موقع “يوتيوب” لمستخدم يدعى فيلثي فرانك، حيث قام فيلثي برفع أول فيديو للرقصة، وبعدها قام خمسة مراهقين من كوينزلاند في أستراليا برفع فيديو مدته 31 ثانية نال أكثر من 19 مليون مشاهدة، فأعجب الناس بالفكرة، وحاولوا تقليدها مما أدى إلى انتشارها عالميا4.
ويبدو أنّ انتشار هذه الرقصات والأغاني أمرٌ طبيعيّ في ظلّ شيوع مواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت التلاقح الثقافي والفنّي بين الشعوب أكثر انتشارًا. ولكن إذا نظرنا بشكل أعمق لهذه الظواهر – التي تبدو ذات تأثير “تافه” – فسنلاحظ أنّ معظم هذه الفنون والموضات تأتي من ثقافة “العالم الأول” المهيمن، ثقافة أوروبا وأمريكا، فيتلقّفها الناس – والشباب بصفة خاصّة – من جميع أنحاء العالم ليتعاملوا معها باعتبارها “ثقافة عالمية” في عصر “القرية الواحدة” التي نعيش فيها، حيث لا فوارق بين البشر من دين أو عرق أو وطن.
والأمر لا يقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل لا يلبث أن يخرج للواقع المحسوس، فلم يعدْ أمرًا غريبًا أن تجد الشباب والفتيات في جامعات مصر يتراقصون مرحين على أنغام أغنية «Happy»، أو أن تجد بعض الشباب الخليجي، بلباسه العربيّ التقليديّ، يرقص بسخافةٍ رقصة «Penguin» ليشاهده العالم أجمع!
وأنا لا أدّعي أنّ القضيّة “مؤامرة”، ولا أنّها مدبّرة أساسا. ولكنّني أقول إنّها انعكاس صارخ لهذه العولمة المتغوّلة في عالمنا، والتي تفرض – شئنا أم أبينا – ثقافة العالم المتفوّق على الشعوب المتخلّفة، التي تتلقّى أنماط الفنون وهي تتلمّظ فرِحَةً غير مدركة لعمق المأساة التي يعكسها هذا التقليد والرقص المجنون!
وبعضنا لا يتعجّب لأنّ الألفة على هذه الأنماط قد أخذت مأخذها من قلبه، ولم يعدْ يشعر بالاستياء من تلك المظاهر!
إنّ الأمر يبدأ برقصة عاديّة (بمعيار الشباب الطائش) لا تحمل إيحاءات جنسيّة مباشرة، ولكنّها قد تلمّح بها من بعيد. ثمّ كلّما جاءت رقصةٌ لعنتْ أختها، وزادت الانحرافَ “شَرْطة” لا تُلاحظ في خضمّ التسارع الذي يعيشه عالمُنا. وهكذا، يمضي الشباب منقادًا مع هذه الأنماط المجنونة، تذهبُ به كلّ مذهب، حتى إذا دخلت به جحرَ ضبّ دخلَ معها دون أن يتساءل: إلى أين؟!
وأخشى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه ظاهرة «Drag queen» 5نمطًا “فنّيا” شائعا في بلاد المسلمين؛ لاعتبار شيوعه في أرجاء واسعة من العالم الغربي “المتحضّر”! وقد يجد بعضهم له “مبرّرات” كثيرة (كما وجد له مروّجوه) تحاول التخفيف من سلبيّته بدعوى إحسان الظنّ وأنّ الأمر ليس أكثر من مجرّد “تسلية” وليس مرتبطًا بالشذوذ الجنسي بالضرورة! ومن الممكن أن تكون القنوات التلفزيونية وسيلة فعّالة لإشاعة هذا النمط الشاذّ في مجتمعات المسلمين.
إنّ هذا المظهر من مظاهر العولمة الثقافية يحمل في طيّاته خطرين يعصفان بالشخصية المسلمة:
أوّلهما: خطر التبعية؛ حيث يضع الشباب المسلم نفسه في موضع “التبعية الثقافية” لأدوات الإعلام العالمية التي تصدّر الموضات والرقصات وما شابهها من التفاهات وتُطلقها في الشبكة، فيتلقّفها هذا الشباب ويعمل تلقائيّا على تقليدها، حين يرى مختلف الشعوب تقوم بذلك، بدعوى أنّها “تراث إنساني مشترك”.
والثاني: خطر التفاهة والتمييع: حيث ينشغل الشباب المسلم بالتفاهات، فلا يلبث أن يملّ من واحدة حتى تظهر أخرى، وهي وإنْ لم تكن تشغل كامل وقته، ولكنّها تميّع شخصيّته وتَحْرفُها عن الجدّية المطلوبة منه، بالإضافة إلى ما يصحبها من اختلاط الجنسين والتجاوزات الكثيرة. وإنّه لحريّ بهذا الشباب ألا يلتفت إلى هذه الأنماط الفنّية المجنونة، وينشغل بالترفيه المباح الذي ليس فيه ميوعة وتفاهة، وبخاصة أنّ حال الأمة في وقتنا الحاضر لا يبشّر بخير، بل هي في الحضيض في شتّى المجالات، ولا يليق بشبابها الانغماس في التفاهات في لحظات مسيرتها الحرجة، التي تكون فيها بأمسّ الحاجة لشباب يافع جادّ يحمل مسؤوليّة النهضة بأمّته، والارتفاع بها إلى ذرى المجد والخيريّة، ألم يصف الله عزّ وجلّ هذه الأمة في كتابه العزيز قائلا: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (آل عمران: 110).
فهل يليق بخير أمّة أخرجتْ للناس أن يكون شبابها، عماد نهضتها، مشغولا بالأنماط التافهة والرقصات المجنونة؟!
1 بعد كتابة صُلب المقال، اتّضح لي أنّ هذه الظاهرة ملاحَظة في الأوساط العلمية، وهو ما لم أكن أعرفه حين شرعتُ في الكتابة وجمعت الظواهر المذكورة، وقد تمّ الاصطلاح عليها باسم Internet meme، وهي تعني (بحسب ويكيبيديا): “مصطلح يستخدم لوصف شعار أو فكرة تنتشر بسرعة من شخص إلى أخر من خلال الإنترنت، ويستند المصطلح إلى مفهوم الميمة على الرغم من أنّ هذا المفهوم يشير إلى فئة أوسع بكثير من المعلومات الثقافية”.
2 التسويق الفيروسي، أو الإعلان الفيروسي: هي تقنية تسويقية تستغل الشبكات الاجتماعية القائمة للترويج للعلامات التجارية أو تحقيق أهداف ترويجية أخرى، وذلك اعتماداً على عملية التناسخ الفيروسي بما يشبه تناسخ الفيروسات في المجال الحيوي وفي عالم الحاسوب والإنترنت. حيث يقوم من يستلم الإعلان بتمريره طواعية إلى جميع من يعرفهم لما يجد فيه من طرافة أو تميّز (ويكيبيديا).
3 من مقال على موقع “العربية” بعنوان “فيديو.. رقصة “البطريق” الأصلية تعود لـ60 عاماً ماضية”، بتصرّف. وحين ترى قناة العربية مهتمّة جدّا بالحديث عن هذه الرقصة وانتشارها في المجتمعات العربية، وخصوصا المجتمع “السعودي”؛ فعليك إذن أن تضع ألف علامة سؤال!
4 عن موقع “ويكيبيديا” بتصرّف.
5 ظاهرة فنّية غربية انتشرت في أنحاء العالم، يظهر فيها رجال بعروض ساخرة مرتدين لباس النساء ويتصرّفون كالنساء، ويقومون في الكثير من الأحيان بتقليد شخصيات من المشاهير. ويتمّ الترويج لهذه الظاهرة على أنّها مجرّد تسلية، بينما هي في الحقيقة تنطوي على الرغبات المنحرفة لأوساط الشذوذ الجنسي، وتلقى رواجًا في هذه الأوساط.