رغم الثناء الكبير الذي أغدق على الممثلين شادويك بوسمان ومايكل بي غوردن عن دورهما في فيلم “النمر الأسود” (Black Banther) الذي أنتجته شركة “مارفل” عام 2018، وحاز على 3 جوائز أوسكار لعام 2019 (أفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصميم أزياء وأفضل تصميم إنتاج)، فإن النجوم الحقيقين في الفيلم هم حراس مجموعة “دورا ميلاجي” أو فيلق القوات الخاصة بمملكة واكندا الخيالية.
في الواقع، شخصيات تلك البطلات المغوارات في الفيلم كانت مستلهمة من قصة حقيقية وقعت أحداثها في واحدة من الممالك الإفريقية القديمة (فيما يُعرف اليوم بجمهورية بنين في غرب إفريقيا)، ولا تزال حفيدات هؤلاء البطلات يحافظن على تراث جداتهن، فهؤلاء الحارسات الشخصيات رغم جسارتهن لم يتنازلن عن مبادئهن قيد أنملة، وكن بمثابة البوصلة الأخلاقية للفيلم.
كتيبة محاربات الأمازون
مملكة داهومي واحدة من الممالك التي ظهرت في غرب إفريقيا في الربع الثاني من القرن الـ17، وكانت في بدايتها خاضعة لحكم ألادا، وحصلت على استقلالها عام 1715، وأصبحت المملكة خاضعة للحماية الفرنسية عام 1892، وفي عام 1904، أصبحت مستعمرة فرنسية، فكانت جزءًا من الحكومة العامة لمنطقة غرب إفريقيا الفرنسية.
تميزت بلاد داهومي منذ قيامها بجيشها المكون من النساء المحاربات، مثل أسطورة نساء (أمازونيات داهومي)، وكمركز لتجارة الرقيق في القرن الـ18، وشن ملوكها عدة غزوات ضد جيرانهم وتمكنوا من توسيع نطاق المملكة بشكل ملحوظ، وكانت بذلك قوة إقليمية مهمة تتمتع باقتصاد محلي منظم مبني على الغزو والرق.
كانت “محاربات الأمازون” تقاتلن في الصفوف الأمامية لجيش مملكة داهومي، واشتهرن بالإقدام والبسالة الفائقة في المعارك
شكلت مملكة داهومي قوة مهمة في القرن الـ18، وكونت جيشًا كبيرًا، وكان بداية الأمر مع الملك الثالث لبلاد داهومي، هويجبادجا، الذي حكم من عام 1645 إلى عام 1685، ويُقال إنه أسس مجموعة حرس شخصي له من النساء الشديدات المتدربات على فنون القتل والحرب، ومن بعد ذلك تحولت تلك المجموعة النسائية إلى جيش بالكامل، لا يخشى المغامرة وخوض المعارك الخطيرة.
كانت كتيبة المحاربات في مملكة داهومي تتمتع بالكثير من الغلظة والقساوة والمهارة في فن الحرب، حتى أطلق عليها المستعمرون الأوروبيون والمؤرخون عدة أسماء منها “سباراتا السوداء” و”أمازونات داهومى” أو “محاربات الأمازون”، بسبب تشابهها مع الأمازونيات الأسطورية في الأناضول القديمة والبحر الأسود والمقاتلات الشرسات في الأساطير اليونانية.
كانت “محاربات الأمازون” تقاتلن في الصفوف الأمامية لجيش مملكة داهومي، واشتهرن بالإقدام والبسالة الفائقة في المعارك اللاتي خاضتها القوة النسائية سواء خلال غاراتهن على القبائل المجاورة أو نضالهن ضد القوات الأوروبية الغازية، وبسبب هذه القوة العسكرية ضمنت مملكة داهومي الأمان من الجيران، كما أنها توسعت قليلاً بحروبها خارج حدود الدولة الصغيرة.
كتيبة المحاربات في مملكة داهومي
زادت المجموعة قوة، وتم استغلالها أكثر على يد نجل هويجبجا، الملك أغاجا (حكم من 1708 إلى 1732) المتعطش للسلطة، الذي عزل أخته الكبرى الملكة هانغبي التي اعتلت العرش خلفًا لشقيقها التوأم، أكابا، الذي قضى نحبه فجأة في مطلع القرن الـ18، وبعد فترة حكم لم تدم طويلاً لهانغبي، استولى أغاجا عنوة على الحكم، وطمس جميع الآثار المتبقية من فترة ولاية هانغبي، لأنه كان يرى أن العرش لا يعتليه إلا الرجال فقط.
طور أغاجا الحرس الشخصي الذي أسسه والده، وأنشأ حرسًا شخصيًا من الإناث المسلحات بالبنادق إلى ميليشيا واستخدمها بنجاح في هزيمة داهومي للملكة المجاورة سافي عام 1727، وعلى خلاف ذلك، ذكرت مصادر أخرى أن الملكة هانغبي شقيقة الملك أغاجا، كانت الحاكمة التي أنشأت تلك الوحدات، لكن هناك بعض الخلافات على ما إذا كانت الملكة هانغبي موجودة بالفعل.
واختلفت الروايات الشفهية والمكتوبة بشأن أصول الفيالق النسائية الخالصة التي لا تضم رجلاً واحدًا، فالبعض يصف “محاربات الأمازون” بأنهن صائدات أفيال ثم أصبحن فيما بعد صائدات البشر، غير أن الرواية الأكثر شيوعًا تقول إن هؤلاء المحاربات كن حارسات للملكة هانغبي ومن خلفها من ملوك.
جيش داهومي النسائى
في البداية، تم إلحاق فتيات صغيرات من سن 12-15 عامًا اللواتي تطوعن، وتم اختيارهن بالقرعة، فلما زادت الحاجة للجنديات بعد أن أثبتن ولاء وكفاءة قتالية عالية، تم تجنيدهن قسرًا من اللواتي ارتكبن جرائم، ثم مُدَّ نطاق الاختيار إلى مجتمعات ومناطق جغرافية أخرى في المنطقة.
جعل كويذو المملكة كلها تعتمد على 3 أشياء: نسائها القويات، الاحتفالات التي لا تنتهي لنسائه المحاربات مع زوجاته الألف، وأخيرًا تجارة العبيد التي أكسبته الأموال الطائلة
ومنذ أوائل القرن الـ19 تم تجنيد الشابات اللواتي تم أسرهن في الغارات، وأعطى الملك كويذو الذي خلف الملك أغاجا، طابعًا خاصًا للدولة، وفي عهده التحقت “محاربات الأمازون” رسميًا بصفوف جيش داهومي، وقد اتخذ الملك هذا القرار لسد العجز في الأيدي العاملة بعد أن كادت تستنفدها تجارة العبيد الأوروبية.
قام الملك كويذو خلال فترة ولايته التي امتدت من عام 1818 إلى عام 1858، بإجراء حملات تسجيل للمواطنين كل 3 سنوات، وحولهن إلى قوة ضاربة، فأمر الداهوميين بأن يقدموا إليه بناتهم غير المتزوجات وأدخلهن في جيشه وشكل منهن فيالق منتخبة، وبرعن في القتال وكانت قوتهن العضلية مدهشة.
وقسم الملك الجيش النسائي إلى عدة أفواج، وقام بتحديث المعدات ومدهن بالأسلحة النارية، كما وضع مبدأ التجنيد المنتظم، فتزايدت أعداد الجنديات مرة واحدة، وتنقل ممثلو الملك من قرية إلى قرية، ليختاروا أكثر الفتيات ملاءمة من الناحية الجسدية حيث يجب أن يتميزن بطول القامة والقوة والرشاقة، والأهم أن يكن في سن الشباب.
جيش داهومي النسائي
أصبحت داهومي في عهد كويذو متعلقة بالروح الحربية بشكل متزايد، فوضع أهمية كبيرة على الجيش، ورفع ميزانيته وأضفى الطابع الرسمي على هيكله من الاحتفالية إلى العسكرية الجادة، في حين أن الروايات الأوروبية تشير إلى الجنود النساء باعتبارهن “أمازون”، فإنهن أطلقن على أنفسهن اسم أحشائي “زوجات الملك” أو “مينو” الذي قد يعني “أمهاتنا” بلغة الفون المحلية.
وحسب ما وعد به الشعب، جعل كويذو المملكة كلها تعتمد على 3 أشياء: نسائها القويات، الاحتفالات التي لا تنتهي لنسائه المحاربات مع زوجاته الألف، وأخيرًا تجارة العبيد التي أكسبته الأموال الطائلة، إذ كانت البواخر تأتي فارغة إلى ساحل بلاد داهومي، وتحمل معها العبيد من رجال وأطفال ونساء إلى بلاد أوروبا، وكان الملك أكثر المستفيدين ماديًا من هذه التجارة.
وخلال فترة حكم الملك كويذو، امتلكت بلاد داهومي أكبر تاريخ مظلم في تجارة العبيد، فملايين من الإفريقيين السود كان يتم اختطافهم من بيوتهم ومن حقولهم على مدار مئات السنوات، ليشحنوا مثل البضائع إلى بلاد أوروبا وبعدها أمريكا، ويُباعوا هناك كعبيد.
عادت تجارة العبيد بالأموال الطائلة على الملوك، وكانت تشكل الدخل الأساسي لميزانية البلاد
المشكلة الكبرى هي أن تجار العبيد من الأوروبيين لم يلطخوا أياديهم يومًا باصطياد السود، بل كانت هناك فرق من الصيادين تابعين لملوك إفريقيا، وخاصة ملوك داهومي، وبعض المغامرين التابعين أيضًا للملوك، الذين يتولون قضية خطف أخواتهم السود وبيعهم إلى التجار.
عادت تجارة العبيد بالأموال الطائلة على الملوك، وكانت تشكل الدخل الأساسي لميزانية البلاد، وعلى رأسهم الملك كويذو الذي لم يحرم كبيرًا ولا صغيرًا، وسلمهم للأوروبيين بثمن بخس ليتم التعامل معهم بأبشع الطرق الممكنة.
كانت الملكة فكتوريا أول من حاول التدخل في هذا الأمر غير الإنساني، فبعثت برسالة إلى الملك كويذو عن طريق القنصل البريطاني عام 1850، احتوت على طلب بالتوقف عن أعمال النهب والسرقة من البلاد الإفريقية ومن بلاد كويذو شخصيًا وعدم التجارة بالبشر مرة أخرى، ليتحولوا إلى بلاد تعتمد على الزراعة والتجارة، وعلى الملكة أن تسد العجز لمدة 3 سنوات في ميزانية الدولة بسبب انقطاع تجارة العبيد.
نساء في وجه الاستعمار
وطَّد انضمام “محاربات الأمازون” إلى صفوف الجيش الرسمي لداهومي دعائم مبدأ الثنائية الذي رسخته في المجتمع ديانة الفودو، وهي إحدى الديانات الرسمية في بنين في الوقت الحاليّ، ويتجلى مبدأ الثنائية في الأسطورة المتأصلة في ديانة الفودو عن الإله ماوو والإلهة ليزا، اللذين توحدا معًا لخلق الكون، وأطلق عليهما اسم ماوو-ليزا.
وفي منتصف القرن الـ19، كان عدد الجنديات في داهومى يُقَّدر بعدة آلاف، وهو ما يمثل 30-40% من إجمالي الجيش، وكانت الإستراتيجية الأساسية لهذا الجيش هي عنصر المفاجأة، وكانت النساء المقاتلات لا يلجأن إلى القتال إلا في الحالات القصوى، مع أن قدرتهن على ذلك لم تكن بحاجة إلى شهادة.
ورغم ندرة الروايات الموثوق بها عن محاربات الأمازون، فقد سجل العديد من تجار العبيد والمبشرين والمستعمرين الأوروبيين مواجهات لهم مع هؤلاء المحاربات الجسورات، ففي عام 1861، وصف القس الإيطالي فراشيسكو بورغيرو تدريبات للجيش، وقال إنه شاهد آلاف النساء الحفاة يتسلقن أشجار السنط الشائكة التي يبلغ طول الواحدة منها 120 مترًا، ولم تئن أي منهن من الألم.
وفي عام 1889، ذكر المراقب الفرنسي جين بايول أنه شاهد إحدى محاربات الأمازون، وهي تقترب من أحد الأسرى في إطار التدريبات، وكتب: “رأيتها تتبختر زهوًا وأخذت تلوّح بسيفها في الهواء ثلاث مرات بكلتا يديها، ثم أقبلت على الأسير بهدوء وفصلت رأسه عن جسده تمامًا، ثم أزالت الدم من على سلاحها وابتلعته“.
وتذكر الكتابات للمؤرخين والمحاربيين الأوروبيين الذين خاضوا حروبًا معهن أنهن كنّ لا يخفن من شيء، وكن شرسات جدًا، وكانت نسبة الخسائر منهن قليلة جدًا مقارنة مع الرجال المحاربين من مملكة داهومي، وأذاقت هذه النساء الحملات الأوروبية الويلات، وحاربن في كل مكان، وصددن شرورهم لفترات طويلة من الزمن حتى تفوق الأوروبيون عليهنّ بالأسلحة الحديثة.
خلال قرنين تقريبًا كانت الممالك المجاورة تخشى جانب نساء داهومي المقاتلات، فقد كان جيشهن يتألف من 2500 امرأة تقريبًا
واستمر جيش داهومي من هؤلاء المحاربات إلى أن تزايدت قوة الفرنسيين في داهومي، وفي عام 1892 خاضت المملكة الحرب الداهومية الفرنسية الأولى والحرب الداهومية الفرنسية الثانية ضد فرنسا حتى سقطت داهومي بأيدي الفرنسيين، فكانت نهاية مملكة داهومي ونهاية جيش النساء.
لكن خلال قرنين تقريبًا كانت الممالك المجاورة تخشى جانب نساء داهومي المقاتلات، فقد كان جيشهن يتألف من 2500 امرأة تقريبًا، كلهن زوجات الملك الرسميات مدججات بالسلاح من أقواس النشاب إلى البنادق والأسلحة النارية الأخرى، وكذلك خناجرهن العريضة كانت معروفة جيدًا.
وفي إحدى المعارك الفاصلة ضد القوات الفرنسية عام 1892 قبل سقوط المملكة في يد القوات الفرنسية، قيل إن جيش محاربات الأمازون الذي تصدى للفرنسيين كان قوامه 434 محاربةً، ولم تنج منهن إلا 17 محاربة فقط.
الحقيقة أن ذلك الجيش الحريري كان حديديًا أيضًا، فقد تميزت المقاتلات بالعنف والشراسة حتى بعد سقوط بنين في يد الاحتلال الفرنسي بسبب التفوق في السلاح، وعانت القوات الفرنسية الأمرين من القوات النسائية بسبب وحشيتهن وبسالتهن القتالية، وظلت أعمال المقاومة مستمرة بعد الاحتلال الفرنسي لداهومى؛ لأنهن لم ينسين ثأرهن مع المحتل.
تخلّد القصور الملكية بمدينة أبومي تاريخ مملكة داهومي في بنين
وبين عامي 1946 و1960، وُلدت العديد من الأحزاب السياسية في داهومي، في ظل الاتحاد الفرنسي، وقد ظهرت شخصيات – مثل سورو ميغان آبيتي، نائب رئيس بلدية بورتو نوفو، وجوستين آهوماديغبي أو إميل درلين زينسو هنري – على الساحة السياسة المحلية مطالبة بالحكم الذاتي أو الاستقلال، في حين أن غرب إفريقيا الفرنسية يعاني من التفكك.
صوتت داهومي بنعم في استفتاء 28 من سبتمبر 1958، خلال فترة الاحتلال الفرنسي بين عامي 1958 و1960، وتحولت المملكة إلى جمهورية داهومي في يوم 4 من ديسمبر، وحاولت الجمهورية الجديدة التحالف مع السنغال والسودان وفولتا العليا في اتحاد مالي، لكن فرنسا رفضت هذا القرار وفشل المشروع جزئيًا تحت ضغط الفدراليين الذين هزموا بعدها في الانتخابات في أبريل/نيسان عام 1959.
وفي أغسطس 1960، خلال جولته الإفريقية، أعلن الرئيس الفرنسي شارل ديغول استقلال داهومي، وفي 22 من سبتمبر، حصل البلد على مقعده في الأمم المتحدة، في 25 من نوفمبر 1960، تمت الموافقة على أول دستور للبلاد من خلال الجمعية التأسيسية، وغيَّرت اسمها بعد الاستقلال إلى بنين عام 1975، وهكذا تسمى إلى اليوم.