أكدت مصادر أمريكية حصول كييف على الضوء الأخضر من إدارة جو بايدن لاستخدام صواريخ بعيدة المدى زودتها بها في حربها ضد روسيا، في تحول لافت في السياسة الأمريكية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ فبراير/شباط 2022، فيما نُسب إلى 3 مصادر مطلعة قولها إن الإدارة الأمريكية رفعت القيود التي كانت تمنع أوكرانيا من استخدام الأسلحة التي تزودها بها لضرب عمق الأراضي الروسية.
وبحسب المصادر التي نقلت عنها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن أوكرانيا – التي تلقت ضربات روسية موجعة خلال الآونة الأخيرة – تعتزم شن أول هجوم بعيد المدى في الأيام المقبلة، دون الكشف عن تفاصيل هذا الهجوم بسبب مخاوف أمنية، فيما أحجم البيت الأبيض عن التعليق على تلك المعلومات.
تتزامن تلك الأنباء مع هجوم روسي عنيف على شبكة الطاقة الأوكرانية في مدينة زاباروجيا في جنوب شرق أوكرانيا وميناء أوديسا المطل على البحر الأسود، كما استهدف البنية التحتية لقاعدة جوية تابعة للجيش الأوكراني، ما أسفر عن مقتل 10 أشخاص على الأقل وجرح نحو 20 في كل أنحاء البلاد، فيما أصدرت القوات الجوية الأوكرانية تحذيرات لكل البلاد من غارات جوية، لكن نطاق الهجوم لم يتضح بعد.
وفي بيان للخارجية الأوكرانية قالت إن ما تتعرض له البلاد حاليًا واحدًا من أوسع الهجمات الجوية الروسية منذ بداية الحرب، بينما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن روسيا أطلقت نحو 120 صاروخًا و90 طائرة مسيرة في هجوم جوي “واسع النطاق” على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا، الأمر الذي دفع بولندا بالإسراع لإرسال طائرات للمجال الجوي تحسبًا لأي هجوم صاروخي ضدها.
وأحدث توقيت القرار الأمريكي بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى في استهداف العمق الروسي، حالة من الجدل، كونه يأتي قبل شهرين من تولي الرئيس الفائز في الانتخابات الأخيرة، دونالد ترامب، المسؤولية، في 20 من يناير/كانون الثاني المقبل، والمعروف بموقفه المناهض للدعم الأمريكي لكييف في تلك الحرب، في حين حذر برلمانيون روس من حرب عالمية ثالثة حال شنت كييف هجمات بتلك الصواريخ الأمريكية.
تحول في السياسة الأمريكية
وترى “نيويورك تايمز” أن تلك الخطوة التي واجهت انقسامًا حادًا بين مستشاري إدارة بايدن، هي بمثابة تحول كبير في السياسة الأمريكية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، مُرجعة إياها إلى قرار موسكو المفاجئ بإدخال القوات الكورية الشمالية في القتال إلى جانبها في تلك المعركة، وهو القرار الذي يحمل الكثير من الرسائل والدلالات، وكان على واشنطن أن ترد وبصورة تتناسب مع تأثير هذا التحرك.
وتشير الصحيفة بحسب مصادرها المطلعة إلى أن الصواريخ طويلة المدى التي سمحت الولايات المتحدة لأوكرانيا باستخدامها، والمعروفة باسم أنظمة الصواريخ التكتيكية للجيش أو “ATACMS”، من المرجح أن يجري استخدامها ضد القوات الروسية والكورية الشمالية دفاعًا عن القوات الأوكرانية في منطقة كورسك بغرب روسيا.
يذكر أن إدارة بايدن كانت قد بدأت في تخفيف القيود المفروضة على استخدام الأسلحة التي زودت أمريكا أوكرانيا بها على الأراضي الروسية، في أعقاب الهجوم الذي شنته القوات الروسية في مايو/أيار الماضي ضد خاركييف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، حيث سُمح للجيش الأوكراني باستخدام أنظمة “ATACMS” الأطول مدى، التي يبلغ مداها نحو 190 ميلًا، للدفاع عن المدينة الأوكرانية.
ويسعى بايدن المأزوم لتسول أي انتصار محتمل على مسار السياسة الخارجية لبلاده، خاصة بعد فشله في إنهاء الحرب في غزة ولبنان، في ظل تعنت وصلف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، آملًا في الخروج المشرف من البيت الأبيض بتحقيق إنجاز سياسي ولو رمزي في ملف الحرب الروسية الأوكرانية، يُحسب للديمقراطيين ويُرمم ولو جزء بسيط من الشروخات التي أحدثها الانتصار التاريخي لترامب في الانتخابات الأخيرة أمام كامالا هاريس.
ترحيب أوروبي.. اللغة الوحيدة التي يفهمها بوتين
القرار الأمريكي لاقى قبولًا واستحسانًا أوروبيًا بشكل لافت، حيث وصفه وزير الخارجية البولندي، رادوسلاف سيكورسكي، بأنه “اللغة التي يفهمها بوتين”، معلقًا في تغريدة له على منصة “إكس” بقوله: “بعد دخول قوات كورية شمالية في الحرب والهجوم الصاروخي الروسي الضخم، رد الرئيس بايدن بلغة يفهمها بوتين”، مضيفًا أن “الضحية التي تتعرض للهجوم لها الحق في الدفاع عن نفسها”.
كما أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أنه “لا ينوي التحدث” مع فلاديمير بوتين، بعد يومين من اتصال مثير للجدل بين المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الروسي، مضيفًا في مقابلة مع الصحافيين في الطريق إلى قمة “مجموعة الـ20” التي تبدأ اليوم الإثنين في البرازيل “الأمر متروك للمستشار شولتز ليقرر مع من يتحدث، ليست لدي نية للتحدث مع بوتين”.
وأكد ستارمر على ضرورة مضاعفة الجهود لتعزيز دعم أوكرانيا، لافتًا إلى أن هذه المسألة ستكون على رأس جدول أعماله لقمة العشرين التي يشارك فيها القادة الرئيسيون في العالم وليس من بينهم بوتين، لافتا إلى أن غدا الثلاثاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني سيصادف اليوم الألف للحرب في أوكرانيا، مردفًا: “يمثل هذا 1000 يوم من الهجوم الروسي، و1000 يوم من التضحية من أجل الشعب الأوكراني، وأخيًرا رأينا قوات كورية شمالية تعمل مع الروس”، معتبرًا أن هذا الأمر – في إشارة إلى استعانة الروس بقوات كورية شمالية – يُظهر يأس روسيا، لكن له آثارًا خطرة على الأمن الأوروبي وعلى أمن المحيطين الهندي والهادئ، وتابع: “يجب أن نقدم دعمًا كاملًا (لكييف) ما دام ذلك ضروريًا”.
من جانبه اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الروسي فلاديمير بوتين بأنه “لا يريد السلام” مع كييف و”ليس مستعدًا للتفاوض”، وذلك تعليقًا على الهجوم الروسي الأخير على شبكة الطاقة الأوكرانية، مضيفًا أن الأولوية بالنسبة لفرنسا هي مواصلة مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد روسيا.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أكدت هي الأخرى أن أوكرانيا “يمكنها التعويل” على الاتحاد الأوروبي بعد الهجمات الروسية “الرهيبة” التي استهدفت شبكتها لتوزيع الطاقة وخلفت 10 قتلى، مضيفة في مقابلة مع قناة “غلوبو نيوز” البرازيلية: “لقد رأينا الهجمات الرهيبة التي شنتها روسيا هذه الليلة على أوكرانيا”، مجددة على موقف المفوضية الثابت: “نقف إلى جانب أوكرانيا ما دام ذلك ضروريًا، تستطيع أوكرانيا التعويل علينا”.
موسكو تحذر من حرب عالمية ثالثة
القرار الأمريكي استفز الجانب الروسي بشكل دفع عددًا من البرلمانيين هناك للتحذير من تبعاته التي قد تصل إلى احتمالية نشوب حرب عالمية ثالثة:
– العضو البارز في مجلس الاتحاد، الغرفة العليا للبرلمان الروسي، أندريه كليشاس، كتب على تطبيق “تليغرام” قائلًا: “يمضي الغرب في مستوى من التصعيد قد ينتهي بتدمير الدولة الأوكرانية بالكامل بحلول الصباح”.
– رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، ليونيد سلوتسكي، قال إن منح الولايات المتحدة كييف الموافقة على ضرب روسيا بصواريخ من طراز أتاكمز سيثير أقوى رد، مضيفًا: “الضربات بالصواريخ الأمريكية في عمق المناطق الروسية ستؤدي حتمًا إلى تصعيد خطير، ما ينذر بعواقب أكثر خطورة”.
– النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس، فلاديمير جباروف، حذر من أن رد موسكو سيكون فوريًا، قائلًا: “هذه خطوة كبيرة جدًا نحو بداية الحرب العالمية الثالثة” حسبما نقلت عنه وكالة “تاس” للأنباء.
وكان الرئيس الروسي قد حذر في سبتمبر/أيلول الماضي من أنه إذا سُمح لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية بصواريخ بعيدة المدى، فإن ذلك يعني أن الغرب سيكون في مواجهة مباشرة مع روسيا، وهي الخطوة التي قال إنها ستغير طبيعة الصراع ونطاقه، مضيفًا أن بلاده ستضطر إلى اتخاذ ما أسماها “قرارات مناسبة” بناء على التهديدات الجديدة.
حشد الأوراق قبل قدوم ترامب
منذ الإعلان عن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة وحالة من القلق تخيم على الساحة الأوروبية، ترقبًا لما يمكن أن تشهده العلاقات الأمريكية الأوروبية خلال السنوات الأربعة القادمة، وتداعيات هذا الانتصار غير المتوقع للمرشح الجمهوري على القضايا والمسائل التي تتشابك فيها العلاقات بين الطرفين، وفي المقدمة منها الحرب الروسية الأوكرانية.
ففي الوقت الذي يعتبر فيه الأوروبيون تلك الحرب مسألة وجودية بالنسبة للأمن القومي الإقليمي للقارة العجوز، يراها ترامب مسألة هامشية لا تتناسب مطلقًا وحجم الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لأوكرانيا، والذي وصل إلى 175 مليار دولار (7% من إجمالي ميزانية الدفاع الأمريكية خلال العاميين الماضيين) منذ الغزو الروسي لأوكرانيا فبراير/شباط 2022.
ويتوقع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، واللذان يعتبران دعم أوكرانيا خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه طالما ظلت الأمور على وضعيتها تلك، أن قدوم ترامب سيحمل معه تبعات سلبية بشأن الموقف الأمريكي إزاء هذا الملف، خاصة في ظل تصريحات الرئيس الفائز السابقة التي تضمنت انتقادات لاذعة للرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، حينما اتهمه بالافتقار إلى الإرادة لإيجاد حل للصراع، كما وصفه بـ”أفضل سمسار على هذا الكوكب”، بجانب العلاقة الشخصية التي تربطه بنظيره الروسي والتي كانت محل جدال خلال ولايته الأولى.
ورغم أن ترامب لم يتحدث بشكل مباشر عن رؤيته لتلك الحرب خلال حملته الانتخابية، مكتفيًا بأنه يستطيع إيقافها فور فوزه دون أن يكشف تفاصيل ذلك، فإن نائبه المحتمل، جيه دي فانس، أماط اللثام عن بعض التفاصيل الخاصة بخطة رئيسه لتسوية هذا الصراع، حيث أشار إلى أنها تتضمن حياد أوكرانيا وتجميد خط المواجهة وإنشاء منطقة منزوعة السلاح شديدة التحصين، لافتًا إلى أن هذا الطرح يحقق الثنائية المطلوبة، حفاظ أوكرانيا على استقلالها من جانب، وتحجيم الروس عن المزيد من الغزو للأراضي الأوكرانية من جانب آخر، مؤكدًا على تحمل الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا، كلفة إعادة إعمار أوكرانيا.
ويترقب الأوروبيون الأيام الأولى لتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب ولايته الجديدة، وما يمكن أن يطرأ على السياسة الأمريكية إزاء الحرب الروسية الأوكرانية من تغيرات محتملة، فيما اتخذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) خطوة استباقية تحسبًا لأي ارتدادات عكسية، حين وضع مقترحًا على طاولة النقاش الأوروبي بشأن صندوق دعم يناهز 100 مليار دولار لأوكرانيا إذا فاز ترامب بالرئاسة.
في ضوء ما سبق، بات واضحًا أن إدارة بايدن ومعها الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يسابقون الزمن لتحقيق أوكرانيا أي انتصار ميداني على الروس خلال الفترة المتبقية لقدوم ترامب، لتقوية الموقف التفاوضي لكييف حين يُفرض الجلوس على طاولة المفاوضات لبحث إنهاء تلك الحرب بحسب الخطة الترامبية المتوقعة، وهو ما يعيه بوتين جيدًا، والذي يحاول بدوره التحذير من هذا التوجه الذي ربما سيكون له تبعات غير متوقعة.
ومن ثم فمن المتوقع أن تشهد الأسابيع الثماني القادمة تصعيدًا واضحًا على مسار المواجهة بين الأوكرانيين والروس، وأن يكثف الغرب من دعمه لكييف أملًا في كسب نقاط يمكن توظيفها سياسيًا للخروج بالنتائج المرضية لأوكرانيا والأوروبيين على حد سواء، إذ إن أي تسوية لا تخدم الرؤية الغربية ستُقابل حتمًا برفض أوكراني، وعليه ستتواصل الحرب وإن كانت بمستويات أقل زخمًا، في حال أصر ترامب على إغلاق صنبور الدعم العسكري الأمريكي لكييف.