إن توقعات العلماء ورؤيتهم لشكل مستقبل العالم المتطور، لم تكن مجرد أحلام، بل أهدافاً يسعون لتحقيقها. فقد أثبت العلم في السنوات القليلة الماضية جدارته وقدرته على مساعدة البشر في تسهيل أمور الحياة اليومية بعدة جوانب، في التنقل والتعليم والاتصال والطب أيضاً، من السيارات ذاتية القيادة والطيارات بدون طيار، إلى ابتكار روبوتات لاستئصال الأورام، بكفاءة لا تقارن بمهارة أيدي الأطباء. هذه التقنيات الحديثة تزداد ذكاءً يوماً بعد يوم، بشكل سيغير الواقع المعاش للبشر خلال السنوات القليلة المقبلة، فبفضل تقنية تعلّم الآلة و”الذكاء الاصطناعي”(AI) ودمجها تحديداً في المجال الصحي والابتكار الطبي، يندمج ذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة في الحياة اليومية بشكل أفضل، حتى أن تقارير ثورية تخبرنا شهرياً عن احتمال تحول المستحيل إلى ممكن.
الذكاء الاصطناعي.. واقعنا الجديد
ما هو الذكاء الاصطناعي؟ وما هي أبرز تطوراته؟ بأبسط العبارات، يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي (AI) إلى الأنظمة أو الأجهزة التي تحاكي الذكاء البشري. آلاتٌ تتعلّم وتستنتج، وهذا يعني وجود القدرة على الاستكشاف والاستفادة من التجارب السابقة للتطوير من نفسها، معتمدةً على المعلومات والبيانات التي تستقبلها. في حين يعرّفه جون مكارثي -الذي وضع هذا المصطلح سنة 1955- بأنه “علم وهندسة صنع آلات ذكية”، الهدف منه تمكين البشر ومساعدتهم في شتى أنواع الإدارة، أيّ ثورة علمية تشمل جميع المجالات وأهمها مجاليّ الطب والعلوم وهو ما سنتطرق إليه في هذا المقال. بحسب ما يقوله العلماء، سيكون باستطاعتنا مستقبلاً معرفة التاريخ الطبي للمريض خلال ثوانٍ معدودة، ومن بين أهم 10 استخدامات يعد بها الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي هو انخفاض معدل الأخطاء الطبية السنوي، مما يعني عمليات ناجحة أكثر، وعمر أطول.
ماذا يقدم الذكاء الاصطناعي لذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى؟
من أجل أن يستمر البشر في إحياء هذه الأرض عليهم أن يكونوا في صحة جيدة وبنية قوية تساعدهم على القيام بجميع مهام حياتهم، هنا يأتي جزء من دور تقنية الذكاء الاصطناعي، الذي ساهم ولا زال يساهم بتطوير المجال الطبي والصحي بعدة أشكال، سواء بتطوير تقنيات العلاج أو الوقاية والكشف المبكر أو حتى استرجاع حواس مفقودة نتيجة حادث أو عيب خلقي.
في مجال الاحتياجات الخاصة، يذكر من بين أهم الاختراعات التي قدمها لنا الذكاء الاصطناعي وأحدثها بالعالم العربي، هو الروبوت “سيدو”
على سبيل المثال، بحسب موقع “Harvard Business Review” أثبتت تقنية الذكاء الاصطناعي جدارتها في تحسين تحليل صور الفحوصات بسرعة ودقة، حيث يقوم بتحديد الشذوذات ويعرضها على مرأى من طبيب الأشعة. وفي عام 2011 وجد مجموعة من الباحثين في مركز لانغون الطبي التابع لجامعة نيويورك أن هذا النوع من التحليل المؤتمت يمكنه الكشف عن أورام الرئة الصغيرة بنسبة تتراوح بين 65% و 97% أسرع من أطباء الأشعة.
ينطبق الأمر أيضاً في قدرة الذكاء الاصطناعي على التشخيص الدقيق والسريع للأمراض، ومساعدة الأطباء على إصدار الأحكام الطبية بدقة عالية. لا زالت النتائج قليلة، ولكن الكثير من التجارب القائمة حالياً هي بمثابة أمل للباحثين والمستفيدين من المرضى. في هذا السياق، قامت مجموعة من الباحثين في جامعة ستانفورد بتجربة خوارزمية ذكاء صناعي تتنافس مع 21 طبيب متخصص في الأمراض الجلدية لمعرفة قدرة التقنية على تحديد أمراض وسرطان الجلد، ووفقاً لما نشرته مجلة (Nature) البريطانية عن “تحقيق الخوارزمية أداءً متساوياً مع أداء جميع الأطباء المختبرين”، ما يوضح قدرة الذكاء الاصطناعي على تصنيف أمراض سرطان الجلد بمستوى من الكفاءة يضاهي كفاءة أطباء الجلد.
وفي مجال الاحتياجات الخاصة، يذكر من بين أهم الاختراعات التي قدمها لنا الذكاء الاصطناعي وأحدثها بالعالم العربي، هو الروبوت “سيدو”. إذ قدّم مؤسس مركز صناع للإبداع القطري “محمد الجفيري” الروبوت “سيدو” للعالم على أنه الروبوت الأول من نوعه، فهو يساعد الأطفال الصم على فهم الكلمات “غير المادية”، أيّ أنه قادر على شرح معنى الكلمات التي لا يتوفر لها مثال حاضر، فكيف باستطاعتنا شرح معنى كلمة “ضمير” لطفل مصاب بالصمم؟
روبوت سيدو
من هذا المنطلق يمكن لسيدو استخدام شاشته لعرض محتوى للرسوم المتحركة أو فيديو يشجع الطفل على الاستجابة بالحركة الصحيحة. إذا كان الطفل يرتكب خطأ، سيهز سيدو رأسه وينفذ لفتة لغة الإشارة الصحيحة لكي يتعلم الطفل.
قصة أخرى تستحق الرواية هي قصة “سكيب الشيخ“، حين فقد قدرته على الرؤية في عمر ال 8 سنوات حلم الشيخ أن يصنع نظارة قادرة على تحليل الأشياء ووصف الأشخاص بسرعة وسهولة. حلمٌ تمكن من تحقيقه في عام 2016، وحتى ذلك العام كان الشيخ يعاني، مثل كثير من فاقدي النظر، التفاعل مع محيطه وفهم ما يجري حوله، مثل تحديد المنتجات في محل البقالة أو رؤية من حوله عند السير في الشارع وقراءة اللافتات وغيرها، حتى قرر الشيخ وزملاؤه أن يستكشفوا كيف يمكن للذكاء الاصطناعي (AI) منح المكفوفين فرصة للرؤية والتفاعل مع محيطهم. فقاموا بابتكار تطبيق يدعى (seeing al) وهو تطبيق يكشف عن العالم المرئي للأشخاص المكفوفين ومن لديه ضعف بصر، باستخدام كاميرا نظاراتهم iphone أو Pivothead SMART، يذكر أن شركة مايكروسوفت تبنت المشروع ورعت الابتكار وتهدف إلى جعل هذا التطبيق متاحاً لأكبر عدد ممكن من الأشخاص عبر طرحه مجاناً.
بالإضافة إلى ما يقدمه الذكاء الصناعي لذوي الاحتياجات الخاصة، فهو رائد أيضاً لتطوير العلاجات والأدوية الأمثل لأمراض مختلفة، من بينها مرض الباركنسون-الرعاش. عام 2018، قامت جمعية الجمعيات الخيرية للبحوث الطبية(AMRC) بمسابقة لتقديم مقترحات توضح كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في إجراء أبحاث محتملة لعلاج مرض الباركنسون، الذي يعاني المصابون به من اضطراب تنكسي في الجهاز العصبي المركزي، والذي يؤثر بشكل رئيسي على الجهاز الحركي.
الذكاء الصناعي قطاع واسع يمكنه إضافة الكثير على مجال الصحة وإدارة المكاتب الصحية
فازت بالجائزة صندوق The Cure Parkinson، وستقوم بالتعاون مع جمعية AMRC بالاستفادة من قدرات منصة (Benevolent.ai) لتحليل البيانات الطبية، في التفكير والاستنتاج واقتراح علاجات جديدة تماماً بعد دراسة الأدوية الموجودة. تم وضع أهداف طموحة بهدف تحديد ما لا يقل عن ثلاثة أدوية متاحة حاليًا والتي يمكن إعادة توجيهها للتعامل مع مرض باركنسون وطريقتين جديدتين لمعالجة المرض أيّ ما يعني “أهدافاً دوائية جديدة”، إذا نجحت، فسوف تمثل تقدماً كبيراً في علاج هذا المرض.
في هذا الصدد، علّقت الدكتورة جاكي هنتر، الرئيسة التنفيذية لشركة (BenevolentBio) قائلة: “إذا كنا سنكون قادرين على تحقيق تقدم في علاج مرض باركنسون ، فإننا سنحتاج إلى اتباع نهج مختلف. ومن خلال هذا التعاون، سنجمع بين المعرفة الواسعة للمؤسسات الخيرية بالمرض، ومنصة الرسم البياني للمعرفة الرائدة على مستوى العالم. “نحن متحمسون للغاية لمعرفة ما إذا كنا قادرين على التعرف على علاجات جديدة قد تصل إلى المرضى بسرعة خلال الأشهر الـ 12 المقبلة”.
الإدارة الصحية
لا يقتصر الذكاء الصناعي على الأمثلة المذكورة فحسب، فهو قطاع واسع يمكنه إضافة الكثير على مجال الصحة وإدارة المكاتب الصحية، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن المهام التي لا تتعلق برعاية المرضى تستهلك أكثر من نصف عناية الممرضات، وخمس جهد الأطباء. وهنا طوّرت شركة (sensely) ممرضة رقمية مدعمة بذكاء اصطناعي وأطلقت عليها اسم “مولي”، وبدأت جامعة كاليفورنيا وهيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة (NHS) بالاعتماد عليها للتفاعل مع المرضى، وطرح الأسئلة عليهم ومن ثم توجيههم إلى العيادة المناسبة لأعراضهم.
عند تقييم ثورة تكنولوجية ومعرفية غير مسبوقة، تغيب عنا ممكنات مساهمة العلم والتقنيات المتطورة في استمرارية وصمود الجنس البشري أمام العواصف، والحروب، والكوارث والأمراض
توقع العلماء تقدماً سريعاً في عالم الذكاء الاصطناعي، حتى ذهب البعض منهم إلى القول أنه خلال سنوات قليلة سيكون كوكب الارض تحت سيطرة الروبوتات، إلا أن بعض الرائدين في المجال حذّروا من هذا التصوّر. مثل العالم البريطاني الراحل، ستيفن هوكينغ الذي قال: “إن الذكاء الاصطناعي سيقضي على الكائن البشري”. وانضم إليه مؤسس شركة (spaceX)، إيلون ماسك، قائلاً: إن الذكاء الاصطناعي خطر وجودي، وواحد من أكبر المخاطر التي سنواجهها كحضارة”.
ولكن هذه الآراء هي كلها جزء من المعادلة فقط، فهذه التحذيرات تستند إلى مخاوف ليست بالضرورة قائمة بالحدّة ذاتها. ففي أغلب الحالات، عند تقييم ثورة تكنولوجية ومعرفية غير مسبوقة، تغيب عنا ممكنات مساهمة العلم والتقنيات المتطورة في استمرارية وصمود الجنس البشري أمام العواصف، والحروب، والكوارث والأمراض، ونلتفت بدلاً من ذلك لنقاش أضرارها ومساوئها التي ربما يمكن الحدّ منها عبر التوعية والرقابة. فلو ركزنا على الانفتاح في مناقشة الذكاء الاصطناعي وممكناته والفرص والتحديات التي يفرضها، مع الحفاظ على البصيرة تجاه المستقبل، سيؤدي ذلك إلى خلق محادثات واعية، عن ماهيته الآن ومستقبله ومحاذيره.