في الـ8 من مارس/آذار عام 1963، وصل حزب البعث العلماني صاحب الأجندة الاشتراكية، وعبر انقلاب عسكري دبره مجموعة من الضباط في الجيش (خليط علماني بعثي ناصري قومي) إلى سدة الحكم في سوريا، أذاع الانقلابيون بيانهم الأول صباح الـ8 من مارس/آذار وأعلنوا حالة الطوارئ في بيانهم الثاني، ودخلت سوريا رسميًا تحت الحكم العلماني المجيد الذي ثبت ركائزه فعليًا مع وصول حافظ الأسد إلى رأس سلطة.
رغبت في بداية المقال بتذكير نفسي بداية، وأبناء شعبنا، بحقائق تاريخية تحاول بعض القوى العلمانية السورية اليوم إعادة إنتاجها وقولبتها بما يتناسب مع مخيالها عن العلمانية، وإعادة تصدير شعارات الفردوس الأرضي الموعود الذي ستحققه العلمانية حال حكمت وحكم رموزها، رغم السجل الحافل بالجرائم الذي قامت به النظم العلمانية وليس حافظ الأسد وابنه بشار إلا امتدادًا لهذه المدرسة.
حقيقة لم أكن راغبًا في كتابة هذا المقال، لكن الزوبعة الإعلامية والجدل الحاصل بشأن بيان “إخوان سوريا” الأخير الداعي لضرورة تسلم تركيا المنطقة الآمنة والتأكيد على ضرورة السيطرة والإدارة التركية عليها في حال رغب المجتمع الدولي بأن تكون المنطقة الآمنة “آمنة فعلاً”، دفعتني للكتابة، أملاً في إيصال صوت الناس في مناطقنا المحررة، وإن كان هذا الصوت لا يعني شيئًا لأصدقائنا المثقفين في الطائفة العلمانية الكريمة.
في سوريا عجز المجتمع الدولي، فجاءت إيران وبعدها روسيا لقتل السوريين، دونما مراعاة لأي قرار دولي، لنتصور ماذا كان ليحدث لنا لو بقينا في انتظار التحرك الدولي وتطبيق قرار “2254”
قرأت ما كتبه ياسين الحاج صالح، جوهر المقال مصادرة وطنية لجماعة وطنية بذريعة الوطنية ويا للمفارقة، فكما عملت العلمانية في إحدى مراحلها التاريخية على مصادرة القداسة من الدين وإلصاقها بالدولة الحديثة وخلق لاهوت جديد خاص بها وجب على الشعب تقديسه، يعمل ياسين بجد، على مصادرة الوطنية ليس من الإخوان المسلمين فقط، بل بالضرورة من كل مواطن سوري مؤمن بما جاء به بيان الإخوان الأخير واحتكار الوطنية به وبأمثاله، في استمرار لنهج حزب البعث العلماني الحاكم.
في سوريا عجز المجتمع الدولي، فجاءت إيران وبعدها روسيا لقتل السوريين، دونما مراعاة لأي قرار دولي، لنتصور ماذا كان ليحدث لنا لو بقينا في انتظار التحرك الدولي وتطبيق قرار “2254”، في إدلب وريف حلب وحماة جاءت تركيا فظهر لنا أفق للخلاص، وهذا ما ينتظره أهلنا في المنطقة الشرقية أيضًا، هذه الحقيقة التي يهربون منها، وتجاهلها وتجاهل مصير ملايين السورين يؤكد أن مثقفي النخب العلمانية ليسوا أبناء ثورة ولا أصحاب قضية، بل إنهم “يعملون في الثورة”، وقضيتهم البقاء داخل شبكة المنافع والعلاقات، ولو أن أحد هؤلاء نزل إلى المناطق المحررة التي يدعي تمثيلها، لما جلس فيها إلا بضعة أيام، ولما وجد من يتفاعل معه، بل قد لا يجد في كل المناطق المحررة بطولها وعرضها شخصًا واحدًا يعرفه، حرفيًا، يدرك الحاج صالح ذلك جيدًا، ولذلك فهو ليس معنيًا بمصير السوريين، وهذا هو الفرق، نحن أبناء الأرض وهم أبناء فرنسا والإمارات وألمانيا، نبحث عن حل وأفق للخلاص لنا ولأهلينا، وهو يبحث عن المزوادات والبقاء داخل شبكات المنافع.
في أيامنا، ليس هناك نادٍ سري، هناك تحالف علماني معلن، متوحد على معاداة أردوغان والإخوان وأبناء الربيع العربي وفي القلب منهم أبناء الثورة السورية
ختامًا، في كتابها “صناعة هوية سورية: المثقفون والتجار في بيروت القرن التاسع عشر”، أشارت الأكاديمية فروما ساخس “fruma zachs” إلى دور ما سمي نادي بيروت السري (أغلب أعضائه من خريجي الكلية الإنجيلية السورية) في نشر الملصقات المعادية للحكم التركي، ودعت العرب إلى الثورة ضد تركيا، والتأثير الكبير للإرساليات البروتستانتية الأمريكية (البعثات التبشيرية)، في الفكرة السورية والهوية السورية، والدور الذي قام به بطرس البستاني في الترويج للهوية السورية المطابقة للجغرافية القومية، وتصدير شعار “حب الوطن من الإيمان” عبر صحيفته “نفير سورية”، وعليه يمكن القول إن ما يقوم به أمثال سمير نشار والحاج صالح وصبرا وغليون ما هو إلا إتمام لجهود الإرساليات التبشيرية والكلية الإنجيلية.
طبعًا، في أيامنا، ليس هناك نادٍ سري، هناك تحالف علماني معلن، متوحد على معاداة أردوغان والإخوان وأبناء الربيع العربي وفي القلب منهم أبناء الثورة السورية.