تُعيد جولات الاشتباك المباشر، التي تحدث للمرة الأولى في تاريخ الشرق الأوسط بين إيران و”إسرائيل”، النقاش حول القدرات العسكرية للقوتين، وعبره تطفو على السطح التهديدات المتبادلة وحدود القوة التي يمكن أن تُستخدَم إن توسعت دائرة الاشتباك، مع التحين الإسرائيلي المستمر للفرصة الذهبية لضرب المشروع النووي الإيراني، بموافقة ومشاركة أمريكية مباشرة.
لذلك، تُشكِّل عودة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض بوابةً لخلط العديد من المعادلات التي سيطرت على المنطقة لعقود، خصوصًا أنها حلت في ذروة الاشتباك المتصاعد على إثر مضي “إسرائيل” في حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وطموح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في تغيير “وجه الشرق الأوسط” بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية، ويجعله “ملك ملوك إسرائيل” الذي تجاوز لعنة العقد الثامن وعزز أواصر الدولة اليهودية وثبَّت أمنها.
التطلعات النووية في الشرق الأوسط
شهد الطموح النووي في الشرق الأوسط موجاتٍ من الصعود والهبوط، لكنه أصبح جزءًا أساسيًا من استراتيجيات العديد من دول المنطقة لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، وتحقيق التوازن الاستراتيجي، ومواجهة التهديدات الإقليمية، والبحث عن مصادر بديلة للطاقة، خاصة بالنسبة إلى بيئة جيوسياسية متوترة كبيئة الشرق الأوسط.
منذ الخمسينيات، بدأت دول مثل “إسرائيل” ومصر وإيران في تطوير برامج نووية بمساعدة القوى العالمية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وتحوَّلت تدريجيًا إلى طموحات عسكرية، فيما أشارت دراسة نُشرت في كلية كينغز كوليدج عام 1991 إلى أن تاريخ “السلام النووي في الشرق الأوسط” شهد منعطفًا جديدًا في العام ذاته، خاصة بعد الكشف عن البرنامج النووي العراقي ودفع إيران إلى تسريع تطويرها النووي.
على وجه الخصوص، مثَّل ملف إيران النووي دافعًا ومدخلًا لتعزيز توجُّه عدد من حكومات الشرق الأوسط إلى استثمار أوسع في مجال الطاقة النووية، على سبيل المثال تنظر دول الخليج إلى برنامج إيران النووي بعين القلق، ما دفعها – خاصةً السعودية والإمارات – إلى تعزيز مشروعاتها النووية، مبرِّرةً ذلك بأهداف مدنية مثل توليد الطاقة وتحلية المياه.
منذ 2006، أطلقت 13 دولة في المنطقة خططًا للطاقة النووية، مع تزايد الاهتمام بالأبعاد الأمنية بعد التوترات السياسية والحروب الإقليمية، حيث اتبعت الإمارات والسعودية خطوات مهمة في تطوير برامجهما النووية، مثل بدء تشغيل مفاعلات براكة الإماراتية وإدراج السعودية للطاقة النووية ضمن رؤية 2030.
توازن مفقود بين “إسرائيل” ودول المنطقة
تفاوتت المشروعات النووية في الشرق الأوسط الكبير في مدى نجاحها، بينما سجلت الدول العربية تعثرًا ملحوظًا بفعل عوامل داخلية وخارجية، ومع ذلك بقي الطموح النووي حاضرًا، وكان أبرزها:
“إسرائيل” والسلاح النووي.. السر الذي يعرفه الجميع
يعد البرنامج النووي الإسرائيلي واحدًا من أبرز البرامج سرية في العالم، ويمثل ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية لضمان تفوقها العسكري في الشرق الأوسط. بدأ في الخمسينيات، خلال ولاية رئيس الوزراء، ديفيد بن غوريون، الذي عبَّر عن هذا الطموح في كتيب أصدره عام 1948 للمجندين الجدد في جيش الاحتلال، عكس فيه إدراكه العميق لأهمية التكنولوجيا النووية كوسيلة لتحقيق “الردع المطلق” ضد أي تهديد وجودي محتمل لـ”دولة إسرائيل”.
وفقًا لمؤسسة التراث الذري الأمريكية، وضعت “إسرائيل” اللبنات الأولى لبرنامجها النووي عقب النكبة في مايو/أيار 1948، حيث اكتُشفت كميات من اليورانيوم في مناجم الفوسفات بصحراء النقب، واستفاد المشروع من إسناد غربي غير محدود، ساهم في تقليص المساحات الزمنية اللازمة لنجاح “إسرائيل” في الوصول إلى السلاح النووي، وضمان تفوقها العسكري في المنطقة.
وفي عام 1955، قدمت الولايات المتحدة مفاعل أبحاث لـ”إسرائيل” ضمن إطار برنامج “الذرَّة من أجل السلام”، لكن تل أبيب طوَّرت المفاعل ليصبح نواة لبرنامجها النووي التسليحي، لاحقًا منحت فرنسا دعمًا كبيرًا لـ”إسرائيل” عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تمثل في مساعدتها ببناء مفاعل نووي في “ديمونا” بصحراء النقب، وتدريب العلماء الإسرائيليين في فرنسا، إلى جانب تصدير التكنولوجيا والمعدات اللازمة.
تبنَّت “إسرائيل” سياسة “الغموض النووي” أو ما يُعرف بـ”الالتباس المتعمد”، فامتنعت عن تأكيد أو نفي امتلاكها للسلاح النووي. وفي الثمانينيات، كشفت تقارير وتسريبات، أبرزها شهادة التقني الإسرائيلي، مردخاي فعنونو، في صحيفة “صنداي تايمز” في 1986، أن “إسرائيل” تمتلك ترسانة نووية متطورة تشمل عشرات الرؤوس النووية وصواريخ قادرة على حملها، إلى جانب منشآت لتطوير الأسلحة وإنتاج مواد انشطارية في مفاعل “ديمونا”.
في التسعينيات، استثمرت “إسرائيل” في تطوير منظومات متقدمة، مثل صواريخ “أريحا” الباليستية، وغواصات “دولفين” القادرة على حمل رؤوس نووية، ما عزز قدرتها على تنفيذ ضربات نووية ثانية في حال تعرضت لهجوم.
ووفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) في يونيو/حزيران 2024، احتلت “إسرائيل” المرتبة الثامنة عالميًا من حيث عدد الرؤوس النووية المخزنة، حيث تمتلك 90 رأسًا حربيًا نوويًا، متفوقةً بذلك على كوريا الشمالية التي تمتلك 50 رأسًا.
مشروعات مصر النووية.. تاريخ من الطموحات المؤجلة
بدأت مصر برنامجها النووي في عام 1955 بإنشاء أول هيئة للطاقة الذرية، وتعاونت مع الاتحاد السوفيتي الذي قدم لها مفاعل “أنشاص” البحثي الصغير العامل بالماء الخفيف.
بعد نكسة 1967، أظهرت مصر رغبة قوية في تعزيز قدراتها النووية، وسعت للحصول على مفاعلات نووية أكبر وأكثر تطورًا من فرنسا والاتحاد السوفيتي، لكنها واجهت صعوبة في الحصول على هذه التكنولوجيا بسبب الضغوط الغربية وتردد الاتحاد السوفيتي في تزويدها بالتقنيات الحساسة.
وفي منتصف السبعينيات، واصلت محاولاتها لشراء مفاعلات نووية ذات قدرات أعلى، ودخلت في مفاوضات مع الولايات المتحدة لشراء مفاعلات تعمل بالماء الخفيف، لكن هذه الجهود تعثرت في ظل توقيع مصر على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عام 1981.
في 2007، وبعد عام من إطلاق مجلس التعاون الخليجي خططه النووية، أعلن الرئيس المصري السابق، محمد حسني مبارك، إحياء برنامج مصر النووي، تلاه توقيع عقد في 2009 مع شركة أسترالية لتقييم مدى ملاءمة منطقة الضبعة لاستضافة مفاعل نووي، وبدأت عملية تهيئتها في 2013.
وفي 2015، توصلت مصر وروسيا إلى اتفاق لإنشاء محطة للطاقة النووية في الضبعة، ودخل الاتفاق حيز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول 2017، وبدأت الخطوات العملية للمشروع في 2022.
على الرغم من التأخير في تشغيل محطة الضبعة النووية، فإن مصر قد تكون في طور الانضمام الرسمي إلى “النادي النووي”، ورغم أن التقدم ما زال محدودًا، فإن مصر تجهز البنية التحتية التي قد تؤدي في المستقبل إلى تحولات كبيرة، ما يتيح لها تحقيق الردع النووي ويجعلها لاعبًا محتملًا في هذا المجال.
العراق والنهاية الحتمية للطموحات النووية
يعد البرنامج النووي العراقي أحد أبرز التجارب الطموح في الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إذ سعت القيادة العراقية، تحت حكم حزب البعث وصدام حسين لاحقًا، إلى بناء قدرات نووية قادرة على تعزيز مكانة العراق كقوة إقليمية كبرى، ورغم انطلاق البرنامج بهدف الاستخدامات المدنية، فقد تطور ليأخذ طابعًا عسكريًا، ما أدى إلى تدخلات دولية وإقليمية حاسمة انتهت بتدميره.
في منتصف الخمسينيات، بدأ العراق خطواته النووية من خلال تأسيس “هيئة الطاقة الذرية العراقية” عام 1956، وبالتعاون مع الاتحاد السوفيتي، حصل على أول مفاعل نووي صغير في 1968، وتبع ذلك افتتاح منشأة “التويثة” للأبحاث النووية جنوب بغداد في نفس العام، ما شكل نقطة تحول في البرنامج نحو تطوير قدرات عسكرية، ثم زودته فرنسا بمفاعل “تموز 1” المتطور، الذي كان قادرًا على إنتاج البلوتونيوم المستخدم في الأسلحة النووية.
في 7 يونيو/حزيران 1981، تلقَّى البرنامج النووي العراقي ضربة قاسية، إذ نفَّذت طائرات إسرائيلية هجوم “أوبرا” استهدفت فيه “تموز 1”، ودمَّرته، وثمَّة ضربة ثانية وجهت للبرنامج بعد غزو العراق للكويت في 1990، حيث تعرضت المنشآت النووية العراقية لقصف جوي مكثف من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في عملية “عاصفة الصحراء”، أسفر عن تدمير جزء كبير من البنية التحتية للبرنامج النووي، ما أدى إلى فشل العراق في مواصلة مساعيه النووية.
وبعد انتهاء الحرب، فرضت الأمم المتحدة عقوبات صارمة على العراق، وشكَّلت فرق تفتيش دولية للتحقق من خلو المنشآت النووية من الأنشطة الممنوعة، وادَّعت هذه الفرق أن العراق أحرز تقدمًا في تخصيب اليورانيوم وتصميم الأسلحة النووية، لكنها لم تعثر على أي سلاح نووي مكتمل.
سوريا والمشروع النووي الذي قُتل في مهده
المشروع النووي السوري تجربة مختلفة نسبيًا، حيث بدأ محدودًا وسريًا للغاية، لكن لم يُكتَب له النجاح بسبب التحديات الداخلية والضغوط الإقليمية والدولية.
في بداية الألفية الجديدة، وسط تصاعد التوترات الإقليمية في المنطقة، تحركت سوريا نحو تطوير برنامج نووي عسكري سري. ووفقًا لصحيفة يديعوت أحرنوت العبرية في يوليو/تموز 2002 اتفقت سوريا وكوريا الشمالية على مشروع تعاون مشترك لإقامة مفاعل نووي سوري، وبدأت سفن محملة بقطع للمشروع تتحرك من كوريا الشمالية إلى سوريا، بغطاء أنها تحمل مواد بناء مثل الأسمنت، وتم تصميم منشأة نووية في موقع “الكبر”، الذي يُعتقَد أنه كان مخصصًا لإنتاج البلوتونيوم.
كشفت تسريبات استخباراتية عن تطور المشروع، فراقبته أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية مراقبة مكثَّفة، ووفقًا لتحقيق لصحيفة “ذا نيويوركر”، تتبع عملاء الموساد رئيس وكالة الطاقة الذرية السورية، إبراهيم عثمان، في فيينا واقتحموا غرفته بالفندق واستنسخوا جهاز الكمبيوتر الخاص به، وحسب التقارير الإسرائيلية، كان الحديث عن “كنز” من المعلومات الحاسمة عن مفاعل نووي لإنتاج البلوتونيوم.
واستنادًا إلى صور الأقمار الصناعية للتجسس من “أوفيك”، ومن داخل المنشأة، تبين أن سوريا كانت تبني مفاعلًا نوويًّا في دير الزور، على بعد 145 كيلومترًا من حدودها مع العراق، مماثلًا للمفاعل النووي الكوري الشمالي “يونغبيون” المخصص لإنتاج البلوتونيوم.
في 6 سبتمبر/أيلول 2007، شنَّت “إسرائيل” عملية “البستان” العسكرية السرية، فاستهدفت طائراتها الحربية منشأة الكبر ودمرتها، وكشف الاحتلال تفاصيلها بعد 15 عامًا، فيما قالت سوريا إن الموقع المستهدَف كان منشأة عادية وليس جزءًا من برنامج نووي عسكري، لكن تحقيقات للوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت عكس ذلك.
المشروع النووي الإيراني.. شد الحبل مع العالم
البرنامج النووي الإيراني يعد من أكثر البرامج إثارة للجدل في الشرق الأوسط، إذ شهد تطورًا مستمرًا منذ انطلاقه في خمسينيات القرن الماضي، ليصبح اليوم محورًا رئيسيًا للصراع الدولي والجيوسياسي، ويجمع البرنامج بين الطموحات المدنية والعسكرية، مدفوعًا برغبة إيران في تحقيق استقلالية تكنولوجية وضمان دورها كقوة إقليمية مؤثرة.
بدأ البرنامج في أواسط السبعينيات، في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، حيث وقعت إيران والولايات المتحدة اتفاقية ضمن برنامج “الذرَّة من أجل السلام”، لمساعدة إيران في تطوير قدرات نووية مدنية، وخلال هذه الحقبة، وقع بهلوي عقودًا مع شركات ألمانية وفرنسية لتشييد مفاعلات ضخمة، أبرزها محطة بوشهر النووية، التي بدأ العمل عليها في السبعينيات.
لكن الثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979، عندما كان المفاعل قد اكتمل بنسبة 85%، أدت إلى تجميد البرنامج النووي، حيث اعتبرت القيادة الجديدة بقيادة آية الله الخميني أن التكنولوجيا النووية ليست أولوية مقارنة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
وفي أثناء الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، أدركت القيادة الإيرانية أهمية امتلاك تكنولوجيا نووية لتعزيز قدراتها الاستراتيجية، ما دفعها في عام 1984 إلى إعادة إحياء البرنامج النووي الإيراني، وبدأت في 1996 بناء منشأة لإنتاج الماء الثقيل في مدينة آراك، ثم أنشأت في 2004 مفاعل من تصميمها بقدرة 40 ميغاواتا بالقرب من هذه المنشأة، يعتمد في تشغيله على الماء الثقيل واليورانيوم الطبيعي المتوافر هناك.
في 2002، كشفت جماعات معارضة إيرانية عن منشآت نووية سرية في نطنز وأراك، ما أثار اهتمام المجتمع الدولي، خصوصًا أن هذا النوع من المفاعلات وبهذه القدرة يصلح لإنتاج البلوتونيوم بالكميات المطلوبة للسلاح النووي، وتصاعدت الأزمة النووية في العقد التالي، ففرضت الأمم المتحدة عقوباتٍ اقتصاديةً وعسكريةً صارمةً على إيران في 2010.
في 2015، توصلت إيران إلى اتفاق نووي مع مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا) يُعرَف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”، فوافقت على تقليص برنامجها النووي بدرجة كبيرة، بما في ذلك خفض مستويات تخصيب اليورانيوم، والسماح بمراقبة دولية صارمة، مقابل رفع تدريجي للعقوبات الدولية.
في 2018، انسحبت الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق، وأعادت فرض عقوبات قاسية على إيران، ما أدى إلى تصعيد جديد استمر في السنوات التالية، مع تزايد التوترات بين إيران و”إسرائيل”، التي استهدفت منشآت إيرانية بهجمات إلكترونية وعمليات سرية.
أحاطت إيران مشروعها بستار واسع من السرية وعمليات التمويه، واعتمدت استراتيجية “الإبرة والقش”، على أساس أن ثمة مواقع نووية مفترضة، موزعة على امتداد المساحة الشاسعة للبلاد، وأنفاق تحت الأرض تخفي مواقع لبرامج حساسة، وبعضها لا يسمح بدخوله إلا لقلة من المسؤولين الإيرانيين، ما شكل أحد أبرز المصاعب التي قد تواجه أي عمل عسكري لتدمير برنامجها النووي.
في أغسطس/آب 2022، قال مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، كمال خرازي، إن “إيران تملك الوسائل التقنية لإنتاج قنبلة نووية، لكن لم يكن ثمة قرار لبناء واحدة”، وأكد أنها “يمكن أن تعيد النظر في عقيدتها النووية إن تجرأت إسرائيل على تهديدها بسلاح نووي”.
تستند العقيدة النووية الإيرانية إلى “فتوى” الإمام خامنئي العائدة إلى 2003، والتي حرَّمت امتلاك القنبلة النووية واستخدامها، فتحوَّل التحريم الديني إلى تحريم سياسي، وفي عام 2019 أعاد خامنئي تأكيد موقفه قائلًا إن “بناء وتخزين القنابل النووية خاطئ واستخدامها حرام”، “على الرغم من امتلاكنا للتكنولوجيا النووية، تجنبتها إيران بشدة”.
الطموح السعودي “أرامكو نووية”
بدأ الاهتمام السعودي بالطاقة النووية في السبعينيات، مع التركيز على توليد الكهرباء وتحلية المياه. وفي 1999، أُفيد أن المملكة ساعدت في تمويل تطوير الأسلحة النووية في باكستان. وفي 2007، تعاونت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتطوير برنامج نووي سلمي، وفي 2008 وقَّعت اتفاقية مع الولايات المتحدة تتيح لها الحصول على التكنولوجيا النووية للاستخدام السلمي.
مع “رؤية 2030” في 2016، أصبحت الطاقة النووية جزءًا من خطة تنويع الاقتصاد، مع خطط لبناء 16 مفاعلًا نوويًّا بحلول 2040. وفي 2018، ذكر ابن سلمان أنه إذا طورت إيران سلاحًا نوويًا، ستسعى المملكة لتطويره أيضًا، ما أثار شكوكًا حول نوايا عسكرية. وفي 2020، أعلنت السعودية تشغيل أول مفاعل نووي بحثي ووقَّعت اتفاقيات تعاون مع دول كروسيا والصين وكوريا الجنوبية.
وفي أغسطس/آب 2020، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال”، عن مسؤولين تأكيدهم أن الصين أقامت منشأة في الصحراء السعودية لتحويل خام اليورانيوم إلى “الكعكة الصفراء”، وهي مرحلة وسيطة قبل التخصيب، كما أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى وجود مبنيَيْن قرب الرياض قد يكونان “منشآت نووية” غير معلنة.
شهدت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، محاولات للتوصل إلى اتفاق تطبيع بين السعودية و”إسرائيل”، حيث طرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ثلاثة مطالب رئيسية مقابل اتفاقية تطبيع محتملة: ضمانات أمنية أمريكية، والوصول إلى معدات وتكنولوجيا عسكرية أمريكية متطورة، ودعم برنامج نووي مدني محلي يشمل الوصول إلى تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم، ما يمكن أن يُستخدم لاحقًا لإنتاج متفجرات نووية. واعتُبر سعي السعودية إلى هذه الصفقة بمثابة البحث عن نموذج مشابه لتأسيس “أرامكو نووية”.
وفي هذا السياق، صرح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بأن المملكة ترغب في الحصول على “دورة الوقود النووي الكاملة”، بما يشمل إنتاج “الكعكة الصفراء” واليورانيوم منخفض التخصيب، وتصنيع الوقود النووي للاستخدام الوطني والتصدير، وتشير هذه المطالب إلى رغبة السعودية في إعادة معالجة الوقود المستهلك، وهو ما قد يؤدي إلى إنتاج البلوتونيوم القابل للاستخدام العسكري.
“إسرائيل” والتفوق النووي.. استراتيجية البقاء في الشرق الأوسط
تستند “إسرائيل” في استراتيجيتها الاستباقية لمنع تحول أي دولة في الشرق الأوسط إلى قوة نووية إلى ما يُعرف بـ”عقيدة بيغن” (Begin Doctrine) التي ظهرت أولى تجلياتها في عملية “دموقليس” عام 1962، وهي حملة سرية قادها جهاز الموساد لاستهداف علماء وفنيين ألمان سابقين عملوا في برنامج الصواريخ النازي، ثم في تطوير صواريخ لمصر في موقع “333” العسكري.
استهدفت “إسرائيل” عبر اغتيالات سرية عددًا من العلماء العرب والمسلمين الذين كانوا يشاركون في الأبحاث والبرامج النووية، سواء في بلدانهم أم في دول أخرى. وفي كتاب “الموساد: أكبر مهام المخابرات الإسرائيلية”، كشف المؤلفان ميخائيل بارزوهار ونسيم ميشعال عن اغتيال علماء نوويين إيرانيين، مثل ماجد شهرياري، المسؤول العلمي في المشروع النووي الإيراني في 2010، وداريوش رضائي نجاد في 2011، بالإضافة إلى الخبير أردشير حسين بور، في إطار محاولات “إسرائيل” لإعاقة تقدم البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك تنفيذ عمليات لزرع مواد تعيق عمل المفاعلات عبر شركات وهمية أنشأها الموساد لهذا الغرض.
قبيل قصف المفاعل النووي العراقي، وجَّهت “إسرائيل” ضربة للجهود النووية العراقية باغتيال يحيى المشد، أحد أبرز العلماء النوويين في العراق في تلك الفترة، فعُثر عليه في 14 يونيو/حزيران 1980 مقتولًا في فندق “لو ميريديان” في العاصمة الفرنسية باريس.
في سوريا، اغتيل عالِم الصواريخ السوري نبيل زغيب مع جميع أفراد أسرته في يونيو/حزيران 2012 على يد مجموعة مدربة خصيصًا على تنفيذ عمليات اغتيال “مجهولة الهوية”، كما تُوَجَّه أصابع الاتهام إلى الموساد في اغتيال محسن فخري زاده، كبير علماء الذرة الإيرانيين، في كمين على الطريق بأبسارد الإيرانية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ولجأت “إسرائيل” أيضًا إلى تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة لإفشال محاولات بعض دول الشرق الأوسط في الوصول إلى تكنولوجيا نووية.
في 7 يونيو/حزيران 1981، نفَّذت “إسرائيل” عملية “أوبرا” الجوية، حين شنت غارة على مفاعل تموز النووي العراقي قرب بغداد، في رسالة تحذيرية لدول المنطقة بأنها لن تسمح بأي مشروعات نووية تهدد أمنه، وفي 6 سبتمبر/أيلول 2007، نفذت غارة جوية أخرى على منشأة الكبر النووية في دير الزور بسوريا، مؤكدة على سياستها الاستباقية لمنع انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.
وفي أحدث العمليات، كشف مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون عن تفاصيل هجوم إسرائيلي استهدف مجمع “بارشين” النووي السري في إيران في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2024، مؤكدين أن الضربة أضعفت قدرة إيران على تطوير جهاز نووي متفجر، وأن المعدات المتطورة دمرت في الهجوم، والتي كانت ضرورية لتصميم واختبار المتفجرات البلاستيكية المحيطة باليورانيوم داخل جهاز نووي.
كما استخدمت “إسرائيل” تقنيات الحرب الإلكترونية لتعطيل تقدم البرنامج النووي الإيراني، وكان أبرزها فيروس “ستوكس نت” في 2010، الذي أصاب أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز الإيرانية.
مسارات مستقبلية.. ولادة شرق أوسط نووي
ترجِّح تقديرات عديدة أن سياسة الضغط الأقصى التي تتعرض لها طهران بفعل زيادة التوترات في الشرق الأوسط، وإصرار إسرائيل على المضي قدمًا في سياساتها العدوانية الهادفة إلى “تغيير وجه الشرق الأوسط”، والذي بلغ ذروته في الحرب المستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قد تحدث تغييرات على عقيدتها النووية، إذ لن تكون الفتاوى الدينية المُقيِّدة الصادرة عن المرشد الإيراني خامنئي أكثر تفوقًا من شعور إيران بالخطر الوجودي، لا سيما أنها وصلت إلى مرحلة “العتبة النووية”، وبات صعبًا تعطيل برنامجها إلا بخيار عسكري موسع يتعدى القدرات الهجومية الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، تراهِن “إسرائيلُ” على خوض غمار الخيار العسكري بمساندة الولايات المتحدة للتصدي للمشروع النووي الإيراني، وعبَّر نتنياهو عن هذه المراهنة في أحدث تصريحاته أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنسيت بشأن السلاح النووي الإيراني، قائلًا: “ستُختَبَر قدرتنا على العمل ضد هذا التهديد قريبًا مع الإدارة الأمريكية القادمة”.
يُشكِّل اتخاذ ترامب خطوات عسكرية مباشرة ضد إيران في فترته الرئاسية السابقة، باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بهجوم مباشر استهدف موكبه في العاصمة العراقية بغداد، الطموحَ الإسرائيليَّ بإمكانية تحفيزه لاتخاذ خطوات دراماتيكية قادمة أكثر تأثيرًا ضد إيران.
مع ذلك، يُعرَف عن ترامب أنه “رجل الصفقات” غير المندفع في اتجاه الخيارات العسكرية المكلفة، والذي يبحث عن خيارات لا تتطلب تسخير جزء من موارد الولايات المتحدة وإمكانياتها المباشرة في سبيلها، وسيكون بحثه عن صفقات رابحة المسار الأكثر ترجيحًا في سياساته الخارجية، بما في ذلك تجاه الشرق الأوسط.
يضع هذا التقدير احتمال توجه الإدارة الأمريكية الجديدة للتوصل إلى صفقة شاملة مع دول الشرق الأوسط، عمادها توسيع التطبيع السعودي الإسرائيلي، والتفاوض حول برنامج نووي سلمي مع ضمانات أمنية بألَّا يُشكِّل خطرًا فعليًا في المستقبل.
من ناحية أخرى، يتزايد سباق التسلح في الشرق الأوسط وسط تصاعد الاشتباكات والتغيرات في ميزان القوى الدولي، مما يهيئ المنطقة لتجاوز إيران عتبتها النووية وتطوير سلاح نووي، وبالتالي يضع دولًا مثل السعودية وتركيا ومصر أمام ضرورة تحقيق توازن نووي إقليمي، إما عبر دعم أمريكي، على غرار النموذج الهندي-الباكستاني، أو بالتعاون مع قوى كالصين وروسيا لتطوير قدراتها النووية.
بناءً على ذلك، فإن تحوُّل المنطقة إلى “شرق أوسط نووي” يُهدد بتجريد “إسرائيل” من تفوقها النوعي التاريخي، ويعني انهيار “عقيدة بيغن” التي شكلت ركيزة استراتيجيتها العسكرية، وساهمت في تعزيز نظرتها إلى دول الشرق الأوسط، حتى الحليفة منها، كخصوم مستقبليين محتملين، في إطار قراءتها لمدى هشاشة أنظمة الحكم في المنطقة، وإمكانية الانقلاب عليها أو إزاحتها بثورات داخلية من شعوبها، ما يعني إمكانية تحوُّل أي مقدرات نوعية إلى مقدرات عدائية تستهدفها إن تغيرت معادلات الحكم لدى هذه الأنظمة،
لذلك ستواصل “إسرائيل” استخدام جميع الوسائل الممكنة لمنع أي دولة من امتلاك السلاح النووي، لكن فشلها المتكرر في الحروب وإضعاف صورتها الردعية والأسطورية الخاصة بـ”الجيش الذي لا يقهر”، يضع الشرق الأوسط بأكمله أمام تحديات كبرى ومخاطر مصاحبة لتحولات استراتيجية محتملة.