مع محاولات النظام السوري إخراج نفسه من دائرة الحرب الاسرائيلية المباشرة على “حزب الله” والميليشيات الإيرانية داخل الأراضي السورية، واستمراره بالمناورة على هوامش تسهيل تحركات حلفائه الموالين لطهران، تزداد صعوبة المساعي الإسرائيلية لقطع وتعطيل إمداد “حزب الله” من إيران عبر سوريا.
وكان لافتًا توسُّع “إسرائيل” في استهداف إمدادات أساسية من الأسلحة التي تصل إلى “حزب الله” من إيران، الموجودة في سوريا، حيث أكّد المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن “إسرائيل ستهاجم كل محاولة لنقل وسائل قتالية من سوريا إلى حزب الله، وستهاجم كل بنية تحتية ترصد في سوريا التي تستخدم لإنتاج أو نقل وسائل قتالية لصالح حزب الله”.
تكثيف الجيش الاحتلال لضرباته على عدة مواقع في سوريا مؤخرًا، يعكس نية “إسرائيل” منع إعادة تسليح الحزب، وسعيها لإنهاء نفوذ الأذرع الولائية الإيرانية في المناطق المتاخمة لها، وهو ما بدا واضحًا في استهداف مستودعات الأسلحة ومحاور نقل وسائل قتالية وقوافل الإمدادات والبنية التحتية الاستراتيجية للحزب، إلى جانب اغتيال قيادات وعناصر بارزة تلعب دورًا كبيرًا في نقل الأسلحة عبر الحدود السورية.
أبرز المواقع التي تستهدفها “إسرائيل”
مؤخرًا، نالت العاصمة دمشق وريفها، إضافة إلى محافظة حمص وسط سوريا النصيب الأكبر في عمليات القصف، فوفق تقرير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، سُجلّت أكثر من 47 غارة إسرائيلية على عدة مواقع في سوريا منذ 26 سبتمبر/ أيلول الفائت، 29 منها استهدفت مواقع بريف حمص الجنوبي.
فيما قال المرصد السوري لحقوق لإنسان إن “إسرائيل قامت منذ مطلع العام الحالي باستهداف الأراضي السورية 148 مرة، 122 منها جويًا و26 بريًا. وأسفرت تلك الضربات عن إصابة وتدمير نحو 265 هدفًا ما بين مستودعات للأسلحة والذخائر ومقرات ومراكز وآليات، إلى جانب مقتل 284 من العسكريين، من بين القتلى 25 من الحرس الثوري الإيراني، و55 من حزب الله”.
في حمص جرى تسجيل 49 غارة، أما في دمشق وريفها فسُجّلت 53 غارة، أعنفها في منطقتي المزة وقدسيا في العاصمة، إذ تعرضتا لاستهداف طال مباني عسكرية ومقرات قيادة لحركة الجهاد الإسلامي، تزامن ذلك القصف مع وصول علي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني الأعلى آية الله خامنئي إلى العاصمة دمشق للقاء رئيس النظام بشار الأسد.
فيما استهدفت الغارات معابر حدودية رئيسة، من بينها معابر المصنع، وجديدة يابوس، وجوسية، والقاع، وعشرات المعابر غير النظامية بين البلدين، إلى جانب نفق يمتدّ بطول 3.5 كيلومترات تحت الحدود التي تربط سوريا مع لبنان، كان يُستخدم لنقل وتخزين الأسلحة التي يتلقاها الحزب من إيران.
عدا عن مواقع في ريف حمص الغربي، بالقرب من الحدود السورية اللبنانية، محدثة أضرارًا كبيرة في عدد من الجسور على نهر العاصي وطرقات على الحدود مع لبنان ضمن منطقة القصير، التي تستهدف للمرة الـ 27 منذ التصعيد على لبنان أواخر سبتمبر/ أيلول الفائت، فقد أشارت إذاعة محلية موالية إلى أن هجوم الغارات طال طريق الجوبانية-لفتايا-سنون، وطريق الجوبانية-وجه الحجر-سنون، واللذين يربطان القصير بالطريق العام حمص طرطوس.
بدوره، قال الجانب الإسرائيلي إن الهجوم نفذ على محاور نقل استخدمها “حزب الله” بدعم من النظام السوري لنقل وسائل قتالية إلى لبنان، عبر الوحدة 4400 (وحدة النقل) المخصصة بنقل الأسلحة إلى لبنان، مضيفًا أن “حزب الله” يطلق قذائف صاروخية صُنعت في سوريا، ونُقلت لاحقًا إلى لبنان.
وتعدّ القصير بريف حمص التي تحاول “إسرائيل” عزلها عن لبنان، بوابة “حزب الله” الأهم نحو الداخل السوري، وهي أول منطقة سيطر عليها الحزب بشكل رسمي خلال الحرب السورية، قبل أن تتحول منطلقًا لعملياته العسكرية في أنحاء سوريا، فهي التي تحظى بموقع جغرافي واستراتيجي، عدا عن كونها ممرًّا لعناصر وقادة “حزب الله” اللبناني، يربط العاصمة دمشق بالساحل السوري (طرطوس واللاذقية) عبر حوض العاصي.
استفادة روسية وانخراط أمريكي
الغارات الإسرائيلية على القصير جاءت بعد ساعات من إعلان روسيا أن ضبط مرور الأسلحة الإيرانية عبر الحدود السورية إلى “حزب الله” في لبنان ليست من مهام الجيش الروسي، وأن “القوات الروسية في سوريا موجودة فقط لمحاربة الإرهاب”، كما أن “مهمة إغلاق الحدود وتنظيم نقاط التفتيش مهمة غير عادية وتقع مباشرة على عاتق السلطات اللبنانية والسورية”.
الردّ الروسي جاء تعليقًا على مقترح إسرائيلي رمى الكرة بملعب موسكو، الذي طالبها بتفعيل دورها مستقبلًا لمنع تدفق السلاح من سوريا إلى “حزب الله”، عبر الحدود البرية بين سوريا ولبنان، ويبدو أن استهداف تل أبيب لمستودع سلاح داخل قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية بعد وصول طائرة إيرانية إليها مطلع الشهر الفائت، قد فتح شهيتها لتقديم مثل هذا المقترح، لا سيما بعد نفي المبعوث الروسي إلى سوريا استخدام القاعدة من قبل إيران لنقل السلاح إلى “حزب الله” في لبنان، ودخول أي شحنة إليه من دون تفتيش.
يرى مراقبون أن روسيا ترى بتقليص نفوذ ميليشيات إيران أمرًا مهمًّا يحافظ على حماية مكاسبها في سوريا، ويمكّن نفوذها خاصة على مصادر الطاقة السورية، لا سيما أنها فشلت في إبعاد ميليشيات إيران مسافة 85 كيلومترًا عن الحدود الفاصلة بين سوريا و”إسرائيل”، بعد الاتفاق الدولي المبرم في أغسطس/ آب 2018.
أمام المقاربة التي تحاول “إسرائيل” خلقها مع روسيا، خاصة أنها تجد في الانتشار الروسي بالجنوب السوري حالة من الارتياح؛ تتقاسم الولايات المتحدة الأمريكية النهج الإسرائيلي نفسه ضد الميليشيات الإيرانية في الشرق السوري، ففي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري قصفت طائرات حربية أمريكية منشأة لتخزين الأسلحة ومقرًّا لوجستيًا لميليشيات إيرانية في البوكمال، ردًّا على هجوم صاروخي على أفراد أمريكيين في قاعدة الشدادي شرقي محافظة الحسكة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه لتجاوز مسألة الردع إلى الانخراط المباشر، تحقيقًا لهدف “إسرائيل” بطحن خصومها عبر حروب متدحرجة، إذ أعلن الجيش الأمريكي مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن قاذفات أمريكية من طراز “بي-52 ستراتوفورتريس” من جناح القاذفات الخامس وصلت إلى منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية، مضيفًا أن هذه العمليات الجديدة تضاف إلى القرار الأخير بنشر نظام الدفاع الصاروخي “ثاد” في “إسرائيل”.
التضاريس تقف مع “حزب الله”
تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا على عدة ركائز، يأتي في مقدمتها تأمين حزام برّي محيط بها على الجانب السوري غربًا، إذ تعمل “إسرائيل” على مشروع بناء وتعبيد طريق على طول خط “ألفا” الفاصل بين مرتفعات الجولان المحتلة والأراضي السورية في محافظة القنيطرة، أما الركيزة الثانية فتكمن في تنفيذ الغارات والهجمات على مناطق نفوذ إيران و”حزب الله” في سوريا، فيما تتمثل الركيزة الثالثة بضرب الشرايين الرئيسية التي تتدفق منها حركة المقاتلين والسلاح.
غير أن هذه الركيزة تبقى مثار شدّ وجذب، بسبب شبكات “حزب الله” السرّية المتضمنة مواقع التخزين وممرّات التهريب وخطوط الإمداد المحصّنة، والأهم أن هذه العمليات تستفيد من التضاريس الوعرة في سوريا للتخفّي عن الأنظار، ما يمثّل تحديًا كبيرًا للقوات الإسرائيلية المكلفة برصد شحنات الأسلحة واعتراضها.
حسب تقرير أصدرته مجلة “المجلة”، فإن العمليات الإسرائيلية الأخيرة تظهر تأثيرًا ملحوظًا على خطوط إمداد “حزب الله” عبر الحدود السورية، حيث أدّت إلى تدمير الكثير من المستودعات وتعقيد حركة نقل الأسلحة. ومع ذلك، يبقى القضاء الكامل على خطوط إمداد “حزب الله” عبر سوريا من خلال ضربات جوية محدودة أمرًا غير مرجّح، نظرًا إلى عدة عوامل:
– صعوبة مراقبة الحدود السورية اللبنانية الشاسعة والوعرة بشكل كامل، خاصة في ظل وجود “حزب الله” الراسخ ونفوذه القوي على جانبَي الحدود، فهذه المنطقة معقدة بشبكة من الطرق السرية والأنفاق، خصوصًا في مناطق مثل القلمون وجنوب حمص.
– تموضع “حزب الله” بشكل استراتيجي لدعم شبكة إمداده، وتعدّ هذه القنوات السرية، التي أنشأها “حزب الله” وحلفاؤه ويشرفون على صيانتها، عاملًا أساسيًا يجعل من شبه المستحيل وقف شحنات الأسلحة عبر الغارات الجوية وحدها.
– اتصالات “حزب الله” الواسعة بشبكات التهريب المحلية والتي تساهم في تفادي رصد شحنات الأسلحة، ما يزيد من تعقيد عمليات الرصد والاستخبارات الإسرائيلية.
– التزام إيران المستمر بتسليح “حزب الله”، إذ أدّى الوجود العسكري الإيراني الواسع في سوريا إلى تسهيل نقل وتخزين الأسلحة المتقدمة مقارنة بالماضي، فيما تشير التقارير إلى أن إيران تصنع أسلحة داخل سوريا، ما يقلّل من تأثير الخسائر الناجمة عن الضربات الإسرائيلية على الطرق المؤدية إلى لبنان، ويضمن تدفقًا مستمرًّا للإمدادات العسكرية إلى “حزب الله”.
– موقف النظام السوري من تعقيد مهمة “إسرائيل”، فبينما يحافظ بشار الأسد على درجة من النأي بالنفس عن المواجهات المباشرة مع “إسرائيل”، يبدو غير راغب في التدخل في نشاطات “حزب الله” على الأراضي السورية وحظر شحنات الأسلحة إليه، خاصة أنه يعتبره حليفًا رئيسيًا لدعم نفوذ نظامه.
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار الباحث أحمد رمضان، رئيس مؤسسة مدى للرؤية الاستراتيجية في لندن، إلى أن إيران تمتلك عدة وسائل لتزويد “حزب الله” بالسلاح بمختلف أنواعه، فعلى مدى عقد ونصف تم بناء مصانع للذخيرة والأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل سوريا، وفي منطقة البقاع (شرق لبنان)، التي تشكّل مصدرًا مهمًّا للحزب ولعناصر الميليشيا المدعومة من الحرس الثوري (نحو 25 ألف عنصر ميليشيا).
مضيفًا أن إيران تستخدم أيضًا خطوط التجارة البرية في نقل قطع السلاح ويجري على الأغلب تجميعها داخل سوريا أو لبنان، حسب مكان التخزين والاستخدام، ويتم ذلك مع شحنات المواد ذات الاستخدام المدني، إذ وقّعت إيران عام 2010 اتفاقًا مع العراق يحظر على الأخير تفتيش الشاحنات القادمة من إيران في حال كانت متجهة إلى بلد ثالث، مثل سوريا أو لبنان، وفي حالات محددة استخدمت الطائرات المدنية في نقل شحنات أسلحة، وغالبًا ما تتعرض للقصف عند وصولها إلى مطارَي حلب ودمشق.
شريان التسليح ما بين إيران و”إسرائيل”
في الوقت الذي تسعى فيه “إسرائيل” لتقليص مخزون “حزب الله” من ترسانة صواريخه ومسيّراته وضرب معابره العملياتية نحو سوريا، يرى خبراء أن المهمة صعبة جدًّا على “إسرائيل”، لا سيما أن إيران لن تتخلى عن “حزب الله” والنظام السوري، وهو ما ترجمته الزيارات المكوكية لمسؤولين إيرانيين إلى دمشق وبيروت، آخرها زيارة وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده برفقة وفد عسكري رفيع المستوى إلى دمشق، بعد يوم من اختتام زيارة علي لاريجاني كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني للعاصمة السورية.
ورغم أن الأوضاع لم تعد کالسابق بالنسبة إلى النظام الإيراني، من حيث إرسال الأسلحة والمدد لـ”حزب الله”، لا سيما بعد فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية في أمريکا، إلا أن إمكانية قطع “إسرائيل” شريان السلاح والإمداد العسكري واللوجستي الواصل لـ”حزب الله” عبر سوريا يواجه صعوبة كبيرة، إذ يرى الباحث رمضان أن الصعوبة والتعقيد يعودان إلى عدة أسباب:
أولًا، إن الحزب يملك مخزونات كبيرة من السلاح بمختلف أشكاله، وهي منتشرة على كامل الأراضي اللبنانية، بما فيها مناطق الشمال المتاخمة للحدود مع سوريا.
ثانيًا، إن الحزب يستخدم مخازن تابعة له في منطقة القلمون (شمال غرب دمشق)، وفي حمص وريفها، إضافة إلى حلب، وقد عمد إلى إقامة خطوط دفاع ودعم لوجستي متعددة، حيث تبدأ من البقاع “خط إمداد أول”، تليه مناطق غرب سوريا والتي تضمّ بعض القرى الشيعية من أصول لبنانية، ثم حمص، فحلب، ثم البوكمال عند الحدود مع العراق، ويستمر ذلك إلى الأنبار، فجنوب بغداد “جرف الصخر” ومحافظة المثنى.
ثالثًا، إن الحزب يستطيع الاستعانة بمخازن جيش الأسد عند الحاجة وفق اتفاق بين الطرفَين، ولذا فإن قدرته على توفير السلاح عند الحاجة لا ينبغي الاستهانة بها، وبالمقابل إن “إسرائيل” تدرك هذه المعادلة وصعوبتها، لذا تلجأ إلى اغتيال العناصر المكلّفة بنقل واستخدام الأسلحة، وإحداث فجوة في الكفاءة والقدرة لدى “حزب الله”، وصعوبة الاستعاضة عنهم بآخرين خلال وقت محدود.
ويتفق نزار الجاف، الباحث في الشأن الإيراني، في أن مهمة “إسرائيل” بقطع الشريان الواصل لـ”حزب الله” عبر سوريا مهمة صعبة وتتسم بشيء من التعقيد، لأن النظام الايراني -کما هو منتظر- سيقوم باستخدام الطرق والأساليب التمويهية، لاسيما أن السي آي أيه تتعاون مع الموساد بصورة مستمرة من أجل متابعة هذا الموضوع وهو أمر ليس بخافٍ على طهران، التي ترى الأهمية الحيوية لضمان تدفق الأسلحة لـ”حزب الله” حتى لو وصلت نسبة 50% أو أقل.
في مقابل الصعوبة التي تعانيها “إسرائيل” في استنزاف دعم “حزب الله” وتقليص نفوذه، تواجه إيران الصعوبة ذاتها، فـ”ليس أمامها سوى طريق وحيد لمواصلة دعم حزب الله، ذاك الذي يمر عبر العراق، ومن هناك تتکفل الميليشيات الشيعية بنقل الدعم من خلال استخدام طرق وأساليب تمويهية من أجل إتمام المهمة بنجاح”، حسب الباحث الجاف.
مضيفًا أن “الفرضية الأخرى التي يمكن طرحها الآن لإرسال الدعم اللوجستي لحزب الله، هي أن يستخدم النظام الإيراني المافيا المتخصصة لهذا الغرض في حال فشل الميليشيات في إنجاز المهمة الموکلة بها، لأن النظام الإيراني يعتبر مسألة إرسال الأسلحة والمدد لحزب الله من المسائل بالغة الأهمية، عدا عن تخوفه من استخدام طائراته المدنية لإرسال الأسلحة إلى حزب الله عبر مطارات سوريا، ولذلك فإنه يحجم عنها على الأغلب”.