كتبت على سبيل السخرية أن يوم الـ8 من مارس/من آذار ليس عيد المرأة العالمي بل يوم تأثيم الرجل بذنوب لم يرتكبها ودفعه إلى اعتذار ملزم بمذلة، والحقيقة أن اختيار يوم خاص بعيد المرأة هو خطاب ضد الرجل قبل أن يكون مبحث عدالة اجتماعية ونفسية لصالح المرأة، فالظلم التاريخي والفقر والامتهان لم يكن موجهًا عبر التاريخ ضد المرأة بل ضد الإنسان، لذلك فإن الفرز بين ظلم ضد المرأة وظلم ضد الرجل هو نوع من الجدال الأيديولوجي الحداثوي الذي يتمتع مثقفو الغرب ببثه في العالم ويجدون له أنصارًا من الحداثيين أو مدعي الحداثة في العالم.
ونهتم هنا بالحداثيين العرب الذين استوردوا الموضوع وناضلوا به وكسبوا دعمًا غربيًا انتهي غالبًا إلى جيوبهم ومصالحهم الخاصة باسم النضال من أجل حقوق المرأة ولم تكن المرأة فيها إلا مطية، سندفع الجدال هنا إلى وجهة أخرى لأن هناك باب آخر للدخول في الموضوع يتعمد المختفون خلف حقوق المرأة التي سرقها الرجل تغييبه.
هل أنت مع بناء الأسرة أم مع حرية الفرد؟
هذا هو السؤال الذي يطرح على كل حداثي يزعم تبني قضايا المرأة على طريق سيمون دي بوفوار الفرنسية لأن الأمرين متناقضان من حيث النتيجة وإن كان ظاهر الخطاب لا يفصل بينهما، فأن تكون مع حرية الفرد المطلقة معناه أن تحرره من كل التزام جماع، وإذا آمنت بالأسرة فمعناه قبول الحد من الحرية الفردية.
قبول بناء المجتمع على الأسرة كخلية أساسية هو حد إرادي من حرية الأفراد كما يقدمها لنا خطاب الحداثة الذي اكتشف حرية المرأة بعد زمن طويل
الالتزام الجماعي الأهم الذي قد يكون عائقًا في مسار الحرية الفردية المطلقة هو المجتمع القائم على فكرة مركزية الأسرة، فالأسرة التزام بالحد من حرية الفرد في استعمال جسده وماله ووقته، فهي تجمع إرادتين على قائمة مبادئ أولها أن الأسرة السليمة اجتماعيًا تكون بين مختلفي الجنس وليس بني متماثلي الجنس لأن الأسرة هي الإنجاب الطبيعي ثم البنوة والتربية وكلها تبدأ من لقاء مختلفين أي بين شخصيتين تنازل كلاهما عن قدر من الحرية لبناء الأسرة والإنجاب وتحمل مسؤولية الإنجاب.
قبول بناء المجتمع على الأسرة كخلية أساسية هو حد إرادي من حرية الأفراد كما يقدمها لنا خطاب الحداثة الذي اكتشف حرية المرأة بعد زمن طويل من إخراجها للعمل لتعوض الرجل (الذكر المحارب) الذي أبادته الحروب، فإذا سلمنا بذلك صار نقاش هوامش الحرية وما يبنى عليها من حقوق فردية أمرًا مثار جدال قانوني وأخلاقي.
بعض وجوه هذا الجدل أن مؤسسة الزواج ليست مؤسسة معادية لحقوق المرأة، فأن تكون المرأة مع ذكر واحد ليس حرمانًا من الحرية لأن ذلك يقوم على أن يكون الرجل أيضًا مع أنثى واحدة، هذا التبادل أو تقاسم التنازلات يلغي الحديث عن حرية التصرف في الجسد ويتسع ليشمل كل دعوة إلى حرية في الجسد بما في ذلك المثلية الجنسية كشكل من أشكال الحرية أي أن يكون سلوك الأفراد العاطفي والحسي مبرمج مسبقًا على تأليف الأسرة.
ورطة القائلين بالحرية المطلقة أنهم لا ينتبهون إلى نهايات مسار إطلاق الحرية الفردية التي تعبر الآن عن نفسها بانقطاع النسل وتهرم السكان والفناء الفردي في عزلة اجتماعية ونفسية مطلقة
هذه البرمجة أو الاستعداد الاجتماعي الشامل تنعت لدى جماعة الحريات المطلقة بأنها ما قبل حداثية، بحيث ينتهي المرء إلى أن الحداثة تتجسد أو تعبر عن نفسها في الفرادنية التي هي إلغاء الأسرة بالقوة أو في أفضل الحالات الحفاظ عليها كتقليد قديم مثل الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد.
ورطة القائلين بالحرية المطلقة أنهم لا ينتبهون إلى نهايات مسار إطلاق الحرية الفردية التي تعبر الآن عن نفسها بانقطاع النسل وتهرم السكان والفناء الفردي في عزلة اجتماعية ونفسية مطلقة، أما ورطة المتمسكين بأهمية التربية على الأسرة فإنهم يرتبكون بسهولة أمام نعتهم بالرجعية والتخلف وخاصة بإرباكهم بمعاداة حقوق المرأة، فقد صار دور المرأة الإنجابي تجسيدًا لامتهانها وإذلالها.
اليساري الصغير أب الحداثة
اليساري فقد موضوع نضاله بعد الحرب العالمية الثانية، فاتخذ من المرأة موضوعًا ولم يكن مبادرًا، فقد كان رأس المال هو الذي أخرج المرأة للعمل بعد فناء الذكور، وكان اليساري الأوروبي حينها قد صار جزءًا من ماكينة التبرير الرأس مالي للاستعمار، وابتعد مسافة كبيرة عن الثورة العالمية حيث يتحد عمال العالم ضد رأس المال العالمي.
نجد اليساري الصغير (العالم ثالثي) يتبنى قضايا اليساري الكبير الغربي فيروج له مسوداته النضالية كما لو أنها قضايا حارقة في بلدان تعاني الفقر برجالها ونسائها
تبين له أن المرأة موضوع للنضال باعتبارها كائنًا مضطهدًا، ومن هنا بدأ التفريق غير المنهجي بل الأيديولوجي بين اضطهادين: أحدهما مسلط على المرأة، ونسي اليساري الأوربي العامل الرث في أطراف الأرض الذي كانت ثرواته تسرق لتحسين ظروف عمل الرجل والمرأة في الغرب.
سيكون للنضال البيئي اليساري مدخل مماثل، ففي الوقت الذي تزدهر أحزاب الخضر وتدخل البرلمانات باسم الحافظ على الطبيعة كانت دول الغرب تحول دولاً في العالم الثالث لمقابر نووية وكان اليسار هو حزب الخضر وحزب المرأة ولاحقًا (بداية من سنوات الثمانين سيصير حزب المثلية الجنسية باسم الدفاع عن حرية الأفراد من القهر الرأسمالي الرجعي المتحالف سرًا وعلنًا مع الكنيسة الظلامية).
سينقل اليسار العربي محاور النضال اليساري الغربي إلى بلدان عربية وتصير قضية الحرية الفردية قضيته الأساسية متناسيًا بها الثورة على رأس المال التابع، ويصير الأمر مثار سخرية فالدفاع عن حقوق المرأة في البلدان الفقيرة يتم بتمويل من دول تستعمر أو تستغل بلدان هذه المرأة وتذل حكومتها وتبقيها في وضع التبعية الاقتصادية القاهرة التي منها إذلال المرأة والرجل على السواء.
نجد اليساري الصغير (العالم ثالثي) يتبنى قضايا اليساري الكبير الغربي فيروج له مسوداته النضالية كما لو أنها قضايا حارقة في بلدان تعاني الفقر برجالها ونسائها وتقوم فيه الأسرة التقليدية بدور اجتماعي فعال ما كان ليقوم به أحد إلا الأسرة مجتمعة.
الحداثة ليست الفرادنية، فالفرادنية صيغة مدمرة للاجتماع الإنساني ونتائجها ظاهرة للعيان
في عالم رأسمالي متوحش قامت الأسرة (كصورة من الانتظام الاجتماعي ما قبل حداثي) بحماية بنى المجتمع من التفكك وقامت المرأة داخل الأسرة بالدور الأهم الذي تجاوزت به وظيفتها البيولوجية إلى دور الرابطة الاجتماعية الفعالة فمنعت الفرادنية الغربية من التسلل إلى بيت العالم الثالث عامة والعربي خاصة، لكن اليساري الصغير لم يكن يرى ذلك بل يدعو إلى تحرير المرأة من واجب الأسرة، فضمانة حقوقها هي حريتها والحرية تتناقض مع الأسرة.
ضرورة إعادة النقاش إلى نقطة البداية
الحداثة ليست الفرادنية، فالفرادنية صيغة مدمرة للاجتماع الإنساني ونتائجها ظاهرة للعيان، وتمويه الفرادنية باسم الحرية ثم تخصيص الحرية في حرية المرأة دون سواها هو عملية أيديولوجية تروج لها تيارات اليسار الغربي الفاقد لكل مصداقية أخلاقية ونضالية أمام قضايا الفقراء والمضطهدين في العالم التي يزعم الدفاع عنها في حين يعيش البذخ من سرقة ثروات تلك الشعوب والأمم المفقرة.
وإذا كانت تجد لها صدى في بلدان مثل تونس فان ذلك يعود أساسًا للتمويلات الجزيلة التي يمكن الحصول عليها لترويج أفكار ومسارات مماثلة وجهت النضال من أجل المرأة إلى نضال ضد الإسلام السياسي جاعلة من كل خطاب يحمي الأسرة خطابًا دينيًا رجعيًا، وهذا انحراف محلي (تونسي وعربي) للنضال من أجل المرأة.
انحرف النقاش من قضايا عامة تمس الرجل والمرأة وتعود إلى الاستعمار والتخلف الاقتصادي الشامل إلى تقديم قضايا خاصة بالمرأة وحدها واتهام الرجل بأنه أحد الأسباب
بمقتضى هذا التحريف صار كل إسلامي رجعيًا معاديًا للمرأة وصار كل يساري تقدميًا صديقًا لها ونصيرًا، وصار يوم 8 من مارس:آذار يوم ترذيل للإسلاميين، ولكن نتيجة هذا تخريب صورة الأسرة ومكانتها ودورها كوسيط تضامن اجتماعي يحمي الأفراد من فردانية صنعها السوق وروج لها فحول الأفراد إلى جزر معزولة تموت بصمت في المأوى المخصص للعجز.
لقد انحرف النقاش من قضايا عامة تمس الرجل والمرأة وتعود إلى الاستعمار والتخلف الاقتصادي الشامل إلى تقديم قضايا خاصة بالمرأة وحدها واتهام الرجل بأنه أحد الأسباب، وفي خطابات كثيرة هو السبب الوحيد وعادة ما ينتهي الخطاب بإرباك الرجل ودفعه إلى تقديم الورد معتذرًا لامرأة لم يظلمها بل سكن إليها وجعلها أمًا لأولاده، وينسيان كلاهما أنهما ضحية استعمار غاشم.