ترجمة وتحرير نون بوست
هل سيجبر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على التخلي عن الترشح لعهدة خامسة؟ أم أن الحاشية التي تحيط به والتي من مصلحتها أن يبقى في الحكم رغم مرضه وشيخوخته “ووضعه الصحي الهش” تطبق على أنفاسه وخلاياه العصبية؟ بدأ هذا التساؤل يلوح في الأفق بشكل كبير مع استمرار الضغط الذي يسلطه الشارع والمظاهرات الجديدة التي هزت البلاد يوم الجمعة الموافق للثامن من آذار/ مارس بعد الصلاة.
في الأثناء، تلقت المستشفيات الجامعية في جنيف في سويسرا حيث يتلقى الرئيس الجزائري العلاج منذ أسبوعين تقريبا وابلا من المكالمات الهاتفية من الجزائر. لقد غادر العديد من كبار الشخصيات المؤيدة لنظام بوتفليقة على غرار النقابيين والمسؤولين وقدماء المحاربين سفينة النظام.
مظاهرة ضد ترشح بوتفليقة لولاية خامسة في باريس.
قد يتبادر إلى الأذهان سؤال آخر: من يحكم الجزائر البالغ تعداد سكانها نحو 42.2 مليون نسمة؟ من يتخذ القرار؟ من يقيل؟ علما بأن صحة بوتفليقة بدأت تنهار بعد إصابته بقرحة في المعدة كادت تودي بحياته سنة 2005، ليصاب سنة 2013 بسكتة دماغية جعلته مقعدا.
لا يمكن أن يكون هذا الرجل العجوز ظلا لنفسه أو رئيسا بالوكالة أو بالمراسلة، وهو لا يستطيع الكلام أو المشي. ومن جهتهم، يحاول المهاجرون الجزائريون في سويسرا إنقاذ الرئيس عبر تقديم شكوى ضد المقربين منه بتهمة “خطف شخص عاجز عن اتخاذ القرار”، فيما يطالب آخرون بإخضاعه للموت الرحيم باعتبار أنه مرخص في سويسرا.
لا يشك أحد في أن صحة هذا الرجل الطاعن في السن متدهورة، ناهيك عن أنه محاط بحراسة من قبل المقربين منه بينما هو طريح الفراش داخل طابق خاص ضمن أكبر مستشفيات سويسرا، الذي يرقد فيه منذ 12 يومًا في الوقت الذي ينتفض فيه الشعب ضده وضد النظام الذي يجسده، في حين أنه من الأجدر أن يستعد لحملته الانتخابية بما أنه عرض ترشحه بنفسه للانتخابات القادمة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يعد لهذا الرجل العجوز “المتواري عن الأنظار” ولم يتحدث إلى شعبه منذ سبع سنوات أي علاقة بالنظام، وقد أضحى مخيرا بين المضي قدما في ترشحه أو إلحاق العار بنفسه. لم يعد هذا الرجل العجوز قادرا على تمثيل نفسه بسبب عجزه عن الظهور علنا حتى على كرسي متحرك لحضور مراسم الافتتاحات والاحتفالات، كما أن الشعب لم يعد مثلما كان في السابق شعبًا “يؤطّر”.
لطالما كان من الصعب معرفة من يدير الجزائر، ومن الذي يقرر ولماذا، حتى عندما كان بوتفليقة بصحة جيدة وقائدا ثوريا ومحاربا ضد المستعمرين الفرنسيين ثم ضد الإرهابيين، أي عندما ساهم في تحقيق الوئام الوطني والسلام والمصالحة بعد العشرية السوداء.
خلال حوار له أجراه منذ سنة مع “ميديابار”، ذكر المختص في العلوم السياسية عبد القادر يفسع أن “آلية عمل النظام الجزائري والاقتصاد متماثلة إذ أن كلاهما غير واضح”، وهو ما يعني أن البلاد تعيش في غموض تام ويستحيل معرفة من يحرك الخيوط وأي خيوط بالضبط.
وفقا لبنجامين ستورا، المختص في شؤون المغرب العربي المعاصر، فإن “النظام هو نتيجة لتقارب قوى متعددة: الجيش، وأجهزة الاستخبارات، والشرطة، والأحزاب، ورجال الأعمال، التي تسعى كلها لحماية مصالحها”. ومن جهته، قال أكرم بلقايد، وهو محرر في صحيفة “كوتيديان دوران” وصحيفة “وموند ديبوماتيك”، إن “النظام الجزائري قائم على عدة مستويات، أي أن هناك دولة ومؤسسات تدير كل شيء”.
في سياق متصل، أشار بلقايد إلى أن “الدولة تنقسم بدورها إلى شكلية إدارية ومؤسساتية واضحة في بلد مثل الجزائر. ولكن بالنسبة للقرارات الحساسة، على غرار التوجهات السياسية والقوانين الاقتصادية الجديدة والإدارة الأمنية للمعارضين، فإن الذين يتخذونها عددهم محدود. وينضاف إليهم رئاسة الجمهورية، أي بوتفليقة والمقربين منه، ورئيس هيئة أركان الجيش الذي يعتبر مواليا لبوتفليقة ولكنه ليس تابعا له، وهذا هو المهم. أما القرارات الاستراتيجية فتتّخَذ بعد التفاوض والوصول إلى توافق”.
بالنسبة للمحللة النفسية وصاحبة تحقيق عن “الآثار النفسية للقمع الاستعماري في الجزائر”، كريمة لازالي، فإن “هذا التشويش يدفع السلطة السياسية إلى التهرب من مسؤولياتها”. وهذا يعني أن النظام الحالي لم يبدأ مع بوتفليقة، بل ظهر خلال فترة رئاسة الشاذلي بن جديد (1980-1991)، واليمين زروال (1994-1998)، وتحديدا منذ سنة 1962. وأوضحت لازالي أنه “منذ الاستقلال، تم بناء سلطة سياسية مرتكزة على مشهدين متوازيين، أحدهما كان مرئيًا والآخر مخفيّ يتمتع بجميع الصلاحيات دون أن يقدم أي تقارير للشعب”.
لقد تراجع دور الدبلوماسية الغربية بداية من فرنسا، وهي غير قادرة على التعامل مع السلطة الجزائرية غير الرسمية. وقد أفاد دبلوماسي مطلع على الشأن المغربي بأنه “في الجزائر، ربما أكثر من أي بلد آخر، يعد الغرب أقل إدراكًا للحقائق من أجل تقييمها، وفي هذه الحالة يصبح تحليل ميزان القوى أمرا مهمًا”.
كما أضاف هذا الدبلوماسي أنه “في بلد ترتكز فيه السلطة على تقارب غير مستقر بين القوى السياسية الرسمية وغير الرسمية والمدنية والعسكرية والاقتصادية حيث يجري كل ذلك في العتمة، أصبح من الصعب بالفعل كشف مسارات اتخاذ القرارات والخيارات. والأصعب من ذلك في حال حدوث أزمة، استحالة انهيار إحدى القوى أو اختفاء الشخصية التي تجسدها أو تمثلها، لتخيل المستقبل”.
على مدى عقدين من الزمن، ظل بوتفليقة على رأس الجزائر منذ انتخابه لأول مرة سنة 1999، حيث كان يجسد التوافق. وعلى الرغم من تقدمه في السن، إلا أن بوتفليقة مازال يدير بلدا ينتشر فيه الفساد. ولم تتفق “القوى” و”العشائر” و”الطوائف” و”المعسكرات” في السلطة وكذلك أولئك الذين يشكلون “الصندوق الأسود” الجزائري – أحد أكبر الألغاز في العالم، على بديل لبوتفليقة.
في الواقع، يمثل بوتفليقة مركز التوافق بين هذه القوى، كما أنه يعتبر في الوقت نفسه بمثابة دمية حيث تستمر الطبقة الأوليغارشية والوحوش المحيطة به في اقتسام كعكة الإيجار ونهب ما يجب أن يذهب إلى الشعب. وقد كان أمام هذه العصابة خمس سنوات من أجل العثور على خطة بديلة، وتحديدا منذ سنة 2014، إلا أن الوضع الحالي كان حاسمًا.
يلعب سعيد بوتفليقة دورًا مهمًا، لكنه لا يشبه راؤول كاسترو
هذه مراجعة للعشائر المختلفة في البلاد التي تطبق القاعدة السائدة: أولئك الذين لا يعلمون شيئا يتكلمون، وأولئك الذين يعلمون كل شيء يفضلون التزام الصمت.
1. الحاشية الرئاسية
الحاشية “تتكلم”. في رسالة بثتها وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية يوم الخميس الموافق للسابع من آذار/ مارس، خرج الرئيس الجزائري عن المألوف من خلال قول “إما نحن، أو الفتنة والفوضى”. وفي هذه الرسالة، حث بوتفليقة، الذي رحب “بنضج” مواطنيه خلال المظاهرات، على اتخاذ اليقظة، مشيرا إلى أنه “يجب أخذ الحيطة من أن يتم اختراق هذا التعبير السلمي من طرف خبيث داخليا كان أو خارجيا”. ودعا في مناسبة أولى الأمهات إلى “الحفاظ على الجزائر، وعلى أبنائهن خاصة”.
لكن لسائل أن يسأل: من الذي كتب هذه الرسالة؟ نُشرت الرسالة الثانية بعد أقل من أسبوع عن نشر الرسالة التي قُرِأت نيابةً عن الرئيس يوم الأحد الموافق للثالث من آذار/ مارس عشية إيداعه ترشحه وخلال يوم التظاهرات المكثفة. وفي رسالة رسمية أخرى، استخف بوتفليقة بالجزائريين عندما تحدث عن التزامه بالوعود التي لم يف بها على مدار عشرين سنة الأخيرة. وجاءت هذه الرسالة في وقت قياسي منذ أن وعد بأن يترك السلطة إذا ما أعيد انتخابه للمرة الخامسة بعد نقاش كبير، كما وعد بإجراء انتخابات مبكرة، وبالتالي عدم الترشح لولاية سادسة في سنة 2024!
من كتب هذه الرسالة؟ ورسالة برنامج 16 شباط/ فبراير؟ عيّن بوتفليقة شقيقه الأصغر سعيد، وهو مدرس إعلامية سابق ونقابي ديناميكي، مستشارًا للرئاسة سنة 1999. لُعن اسمه جنبا إلى جنب مع اسم شقيقه في اللافتات التي رفعت في المظاهرات “لا لبوتفليقة، ولا لسعيد”. لقد أصبح سعيد بوتفليقة الذي يعمل في الخفاء بعد مرض شقيقه البكر، مترجمًا للنظام الرئاسي أو الناطق باسمه وأداة بين أيدي العشائر التي تشترك وتتخاصم مع بعضها البعض.
سعيد بوتفليقة خلال مراسم دفن سنة 2012.
أفاد المختص في علم الاجتماع ناجي سفير بأن “سعيد بوتفليقة يلعب دورا هاما، ولكنه ليس مثل راؤول كاسترو. ويمكنه أن يكثف لائحة أصدقائه بين عشية وضحاها، ولكن ليس لديه مفتاح السلطة. فالسلطة السياسية في الجزائر ليست وراثية إلى الآن، بل تتكون من مجموعة معقدة ومنظّمة من المؤسسات وآليات صنع القرار والممارسات والأشخاص حسب مراكزهم الشكلية والحقيقية”.
يعد “سيدي الشقيق” بمثابة واجهة رؤساء الدول والحكومات الأجنبية والمؤسسات المختلفة في البلاد، كما يمثل الحاشية العائلية. لقد وقف سعيد إلى جانب شقيقه منذ توليه السلطة سنة 1999. كما يقف إلى جانب الرئيس زهور بوتفليقة، الأخت الحامية ومدبرة المنزل في آن واحد، ناهيك عن أنها طباخة شقيقها الرسمية، والتي ترعى صحته في قصر زرالدة، كما سبق لها أن كانت قابلة.
بعد ذلك، نجد ناصر بوتفليقة، الأخ الكتوم، الذي يتولى منصب أمين عام وزارة التكوين المهني. وقد ظهر ناصر في المشهد الإعلامي قبل بضعة أيام من قيام مراسل من صحيفة “كوتيديان” بإدخال كاميرا خفية إلى مستشفى جنيف. أما شقيقه الآخر، فهو عبد الغني بوتفليقة، الذي تم تداول اسمه في قضية خليفة، إلا أنه ابتعد عن الساحة السياسة بعد إصابته بالسرطان.
يبدو أن “جبهة” الولاية الخامسة أخذت في التصدع، حيث فقد هذا المعسكر أحد أهم مؤيديه: المنظمة الوطنية للمجاهدين، التي تضم قدامى المحاربين في حرب الاستقلال الذين أكدوا قبل أقل من شهر دعمهم لولاية خامسة، قبل أن يعربوا يوم الثلاثاء الموافق للخامس من آذار/ مارس عن تضامنهم مع المتظاهرين. وبالنسبة لهم “تواطأت الأطراف المؤثرة في السلطة مع رجال الأعمال المارقين الذين استفادوا بشكل غير قانوني من المال العام”. ويتناقض ذلك مع دعوة الفاتح من تشرين الأول/ نوفمبر وقيم الكفاح الجزائري لنيل الاستقلال.
من بين الأسئلة التي أثارت الشائعات: هل سيكون كل من الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يشارك مع جبهة التحرير الوطني في ممارسة السلطة، ورئيس الوزراء الحالي أحمد أويحيى ضحية، خاصة أن شعبيته فاقت شعبية بوتفليقة، وهو ما جعله عرضة لشعار “أويحيى ارحل”، على غرار “النظام ارحل” أو “جبهة التحرير الوطني ارحل”.
لقد كان لهذا الرجل نصيب في السياسة والإهانة، حيث شغل منصب مدير مكتب بوتفليقة، ومنصب رئيس الوزراء في ثلاث مناسبات خاصة في التسعينيات، وقاد الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي في خضم الحرب الأهلية بين الجيش والإسلاميين. وهو يلقب بـ “سيد المهام القذرة”.
2. الجنرالات
إن الجنرال أحمد قايد صالح، رئيس هيئة أركان الجيش ونائب وزير الدفاع البالغ من العمر 79 سنة، يعتبر رمزًا من رموز هذه البلاد الفتية التي يحكمها العجائز. ويحتل الجيش مركزا هامًا في النظام منذ الاستقلال ويلعب دورا في عملية اختيار الرئيس. وباستثناء هواري بومدين، لم يتم انتخاب أي رئيس دون مشورة الجنرالات. ومنذ نهاية رئاسة بومدين (1965-1979)، استثمر الجيش في جزء هام من أجهزة الدولة والمؤسسات السياسية.
يرى بعض المراقبين أن أحمد قايد صالح يعتبر في هذا الوقت الرجل الذي يملك مفتاح حقبة ما بعد بوتفليقة. فبعد مرور ما يقرب من 15 سنة على ترأسه هيئة الأركان، بات قايد صالح يحكم قبضته على المؤسسة العسكرية بينما مازال يحافظ على ولائه لنظام بوتفليقة. وقد جعل قايد صالح الجيش الوطني الشعبي الجزائري ضامن الأمن والاستقرار، لاسيما أن هذه المؤسسة لا تزال تحظى باحترام كبير رغم اتهامات الفساد التي طالتها.
يوم الثلاثاء الموافق للخامس من آذار/ مارس، عشية مظاهرات جديدة ومثيرة قادها الطلاب، نفى قايد صالح رغبته في تقديم نفسه على أنه الرئيس الحقيقي للبلاد في ظل غياب بوتفليقة، معتبرا أن هذه المظاهرة تهدف لزعزعة استقرار البلاد. وقد اعتبر قايد صالح أن خيوط هذه المظاهرة قد حيكت من قبل “بعض الأطراف” التي لم يحددها، مشيرا إلى أن “هناك من ينزعج لرؤية الجزائر مستقرة وآمنة ويريد العودة بالجزائر إلى سنين الجمر”، أي إلى أيام الحرب الأهلية التي خلفت قرابة 200 ألف قتيل.
على مدى السنوات الخمسين الماضية، تذكّر مجلة “جون أفريك” بأن الجيش الوطني الشعبي الجزائري قد عرض قائمة تتضمن مجموعة الشخصيات التي فرضت وجودها بكفاءتها، وإحساسها بالوطنية، علاوة على حكمتها وجاذبيتها وقدرتها على المساومة، فضلا عن تجميعها لملفات مساومة. وتحمل هذه القائمة أسماء الشخصيات المؤثرة التالية: أول رئيس أركان للجيش الجزائري العقيد الطاهر زبيري الذي أثار الانقلاب الفاشل ضد بومدين في سنة 1967، والعقيد قاصدي مرباح الذي قاد بكل حزم قوات الأمن العسكري الضخمة، والجنرال العربي بلخير المعروف “بصانع الملوك”، وخالد نزار الذي تولى منصب جنرال في الجيش الجزائري حيث قاد اثنتين من حالات الحصار الصادمة، والجنرال محمد العماري الذي يعرف بأسطورة مكافحة الإرهاب، والجنرال محمد مدين المسمى “بتوفيق” الذي وُصف “بإله الجزائر”.
إن قوات الجيش التي تعرف بأنها حليفة لكنها ليست خاضعة، قادرة على الانقلاب ضد عشيرة بوتفليقة وضد الشعب في حال تفاقمت الأزمة كما حصل في مصر. في هذه الحالة، تظل المقارنة جزئية إذ أن القوات المسلحة المصرية تعتبر أكثر قوة لاسيما على الصعيد الاقتصادي، في حين تفتقر الجزائر لقوة سياسية تضاهي نفوذ الإخوان المسلمين الذين اقتلعوا من السلطة إثر انتخابهم من قبل الجيش.
في مقابلة لها مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، أشارت المؤرخة كريمة ديريش إلى أن “تأثير الجيش قد انخفض بشكل موضوعي على امتداد السنوات الثلاثين الماضية. ويعزى ذلك في المقام الأول إلى أن دور الجيش اقتصر فقط على حفظ الأمن، وانشغل لوقت طويل بمكافحة الجماعات الإرهابية. فضلا عن ذلك، لم تعد قوات الجيش بمفردها بعد الآن نظرا لخوضها منافسة مع أطراف جديدة، خاصة على المستوى الاقتصادي. وتتسم البيئة التي تتطور فيها المؤسسة العسكرية بالتقلب، ما يظهر من خلال إقالة رموز عديدة في الجيش والخدمات السرية”.
حسب المديرة السابقة لمعهد البحوث المغاربية المعاصرة فإنه “من بين التطورات الحالية فقدان الجيل الجديد من الضباط للشرعية السياسية والتاريخية ذاتها التي تمتع بها جيش التحرير الوطني الجزائري في حقبة ما بعد الاستقلال. وتجدر الإشارة إلى أن بعض العسكريين المتقاعدين يحتلون مكانة متميزة في عالم الأعمال، وكثيرًا ما يلعبون دور الوسطاء بين الدولة والمستثمرين أو مقدمي الخدمات، سواء كانوا محليين أو أجانب، فضلا عن أنهم يلعبون دورا هاما في تنظيم المنافسة”.
شهدت المؤسسة العسكرية موجة من الإقالات التي بقيت محفورة في ذاكرة الجميع، والتي كشفت النقاب عن الشراسة التي تكافح بها العشائر. من ناحية، أُحيل الجنرال القوي الذي يهابه الجميع محمد مدين الملقب بالجنرال “توفيق” على التقاعد القسري في أيلول/ سبتمبر سنة 2015. وفي وقت سابق، تولى الجنرال توفيق تأسيس ورئاسة دائرة الاستعلام والأمن الشهيرة التي تميزت بالنشاط والمثابرة لمدة 25 سنة.
من ناحية ثانية، شهدت الفترة الممتدة بين صيف وخريف سنة 2018، أي على إثر “قضية الكوكايين” المتمثلة في اكتشاف 701 كيلوغراما من المخدرات في ميناء وهران، عملية تطهير غير مسبوقة من خلال طرد المدير العام للأمن الوطني الجزائري والمرشح المحتمل لخلافة بوتفليقة، الجنرال عبد الغني هامل، ليليه خمسة جنرالات وعدد من ضباط الصف بعد مرور بضعة أشهر.
في عمود نشرته صحيفة “كوتيديان دوران”، أثار الخبير الاقتصادي أحمد هني مسألة الانقسام بين هؤلاء “الذين سيواجهون حواجز إدارية والذين يدعمون المظاهرات الشعبية ضد “استمرارية الحكومة”، وأولئك الذين يعربون عن استعدادهم للحفاظ على استقرار النظام حتى من خلال استخدام القوة”.
في هذا الإطار، كتب هني: “إن حالة ضبط النفس التي تتسم بها قوات الأمن تخلق حالة من الانتظار والترقب، وفي حال كان لمؤيدي استخدام القوة الكلمة الأخيرة، فإنه من المحتمل أن يعثروا كالعادة على وسيلة للاستفزاز. أما بالنسبة للتدخل الأجنبي في الجزائر فيعتبر محدودا، إذ لم يتغاض الغرب عن القمع الدموي الذي يمارسه السيسي في مصر فحسب، بل سانده أيضا. وفي حال لم ينسج “صناع القرار” في الجزائر على منوال الرئيس المصري، فمن غير الواضح متى ستشهد البلاد تدخل قوات جديدة”.
على الرغم من أن الأجهزة الأمنية تمثل الطرف الفاعل الرئيسي في السلطة، إلا أنها بدأت تتخلى عن الرئيس. وقد قطعت جمعية قدماء وزارة التسليح والاتصالات العامة التي تأسست خلال ثورة التحرير الجزائرية برئاسة وزير الداخلية السابق، دحو ولد قابلية، علاقتها مع المحيط الرئاسي يوم الأربعاء في السادس من آذار/ مارس.
وفقا لبيان نشره موقع “كل شيء عن الجزائر” الإلكتروني، قالت الجمعية إنه “في إطار هذا الزخم الذي لا يقاوم والإرادة المعلنة، لم يعد هناك مجال للمماطلة والمناورة التي تهدف إلى الحفاظ على استمرارية نظام تجاوز الحد المسموح به، ومن المرجح أنه سيقود البلاد نحو مغامرة ستكون عواقبها وخيمة. ومن خلال هذه التعبئة غير المسبوقة، أعرب الشعب بالفعل عن رفضه التام للولاية الخامسة وكل من يؤيدها”.
3. رجال الأعمال
في خضم الزوبعة التي ظهرت داخل المحيط الرئاسي وخارجه، أعلن العديد من قادة وأعضاء منتدى رؤساء المؤسسات، وهي أكبر منظمة خاصة بأرباب العمل في الجزائر والمعروفة بقربها من السلطة، عن مساندتهم للاحتجاجات الشعبية يوم الأربعاء في السادس من آذار/ مارس. وقد أفاد تسعة من الذين قدموا أنفسهم على أنهم القادة “الأصليين” لهذه المنظمة، بمن في ذلك اثنين من أسلاف رجل الأعمال النافذ والمليونير علي حداد، بأنه “لا يمكنهم التزام الصمت أمام هذه الاحتجاجات الشعبية، كما أنهم يبدون التزامهم التام بالانضمام إلى صفوف المحتجين”.
أعلن عمر رمضان (الرئيس الفخري والمحارب السابق في حرب التحرير) ورضا حمياني (الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسسات قبل علي حداد)، وعبد العزيز زيتشي، ونصيرة حداد، وكريم شرفاوي، وصلاح عبد الصمد، وعكاشة حسناوي وأحمد طيباوي، عن تخليهم التام عن مساندة الرئيس. في المقابل، يلاحظ علي حداد، الذي يعتبر مناصرا قويا للولاية الخامسة ومصدرا ثابتا للدعم المالي مقابل السماح له بالاحتكار شبه التام للأشغال العمومية، أن الفراغ المحيط به وبالعشيرة الرئاسية بدأ يتسع.
يدين الملياردير علي حداد بثروته لنظام بوتفليقة الذي سمح له باحتكار مواقع البناء الأهم والأكثر ربحا في البلاد، علاوة على الطرق السريعة، والسدود، والملاعب، وغيرها. ويعد الحداد التجسيد الأمثل لحكم الأقلية التي تزدهر من خلال اختلاس العائدات الهيدروكربونية. وقد وصفتهم المؤرخة كريمة ديريش في صحيفة “لوموند” بقول: “نحن نشهد تواطؤا بين كل من عالم الأعمال والعالم السياسي وعالم الجيش، وهذا لا يسهل علينا تحديد مختلف الأطراف الفعلية التي تمثل “السلطة الجزائرية”. ما نعرفه هو أن هذا الوضع يعزز بشكل كبير مظاهر الفساد والنهب، ويؤدي إلى حالة من الجمود على مستوى المشاريع التي قد تكون بالغة الأهمية بالنسبة للبلاد”.
لابد من التساؤل عن هوية الشخص الذي عمل على إقناع عبد العزيز بوتفليقة أو بالأحرى شقيقه سعيد، بإقالة رئيس الوزراء عبد المجيد تبون، الذي يأمل في “الفصل بين المال والسلطة”، بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على تعيينه في آب/ أغسطس سنة 2017، ليحل محله أويحيى المطيع؟ يبدو أن وعود تبون كانت تمثل تهديدا داخل السلط العليا لأنها أكسبته شعبية، لكونه يسعى لمكافحة الفساد والتصدي لعمليات الاتجار والتهريب، فضلا عن الحد من منح العقود دون خوض مناقصات وإجراءات تنافسية، التي تعتبر أمرا شائعا في الجزائر التي تصنف واحدة من بين الدول الفاسدة في العالم.
تبيّن مكالمة هاتفية غريبة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي ولكن لم يتم توثيقها اتفاق تبون وسلال، المدير السابق لحملة بوتفليقة، على دعوة “المخربين” إلى “إبراح المتظاهرين في شوارع الجزائر العاصمة ضربا”، ما أثار جدلا واسعا وأدى إلى إقالة سلال الذي يفضل البقاء بعيدا عن الأنظار.
4. النقابات
يعتبر الاتحاد العام للجزائريين النقابة الكبرى التي تمثل الطبقة العاملة، والتي يترأسها الشخص ذاته منذ سنة 1997 وهو عبد المجيد سيدي سعيد الذي يعرف بانحيازه التام للسلطة وتأييده للولاية الخامسة، فضلا عن تأليفه لنصوص تعبر عن حبه العظيم لبوتفليقة وتشجيعه على الترشح للرئاسة مدى الحياة. وقد شكل دعمه المفرط للرئيس، الذي دفعه إلى التهديد بالانتقام من العائلات التي تعارض الانتخابات الرئاسية، مصدر إزعاج بالنسبة للكثيرين.
كما هو الحال بالنسبة لجميع أحزاب الأغلبية الرئاسية، أخذت التصدعات في الظهور في صفوف كل من حزب جبهة التحرير الوطني الذي يعد بمثابة القناة التاريخية لحكم الشيوخ، وحزب التجمع الديمقراطي لأويحيى. وقد حرصت عدة فروع أو نقابات محلية تابعة للاتحاد العام للجزائريين في الأيام الأخيرة على تقديم الدعم للمتظاهرين بعد أن سئموا من تقلص مركزيّتهم لصالح طبقة البيروقراطية المناهضة للعمال. ويوم الجمعة الموافق للثامن من آذار/ مارس، سجلت جبهة التحرير الوطني حوالي عشر استقالات من قبل إطارات الحزب والبرلمانيين السابقين وأعضاء اللجنة المركزية.
المصدر: ميديا بار