شنَّ “حزب الله” هجومًا صاروخيًا استثنائيًا صوب تل أبيب، أسفر عن وقوع إصابات مباشرة في عاصمة الكيان المحتل ومحيطها الاستيطاني، حيث دوت صافرات الإنذار في أكثر من 100 منطقة ومستوطنة، فيما وثّقت عشرات المقاطع المرئية التي تمَّ بثّها إعلاميًا وعلى منصات التواصل الاجتماعي حالة الدمار التي أحدثتها تلك الصلية الصاروخية.
وأسفر هذا القصف الذي تمّ بواسطة صاروخ باليستي “ثقيل” بحسب تعبير الشرطة الإسرائيلية، واستهدف مبنى في حي بني براك شرق تل أبيب، عن إصابة 6 مستوطنين بجروح بين خطيرة ومتوسطة، فيما أُصيب المئات من سكان الحي بالهلع جراء سقوط الصاروخ الذي أحدث دمارًا كبيرًا في البناية التي استهدفها وحطم واجهات المحال والمباني المحيطة لمسافة ليست بالقليلة.
يأتي هذا القصف بعد ساعة واحدة من الغارة التي شنّها جيش الاحتلال على شقة سكنية إلى جانب مقهى شعبي في منطقة زقاق البلاط في بيروت، ما أدّى إلى استشهاد 5 أشخاص وإصابة 31 آخرين، وهي الغارة الثالثة التي شنّها الطيران الإسرائيلي ضد أحياء تابعة للعاصمة اللبنانية بيروت، بعد استهداف منطقتَي رأس النبع ومار الياس قبل يومين.
يتزامن هذا التصعيد والتصعيد المضادّ مع وصول الموفد الرئاسي الأمريكي عاموس هوكشتين إلى بيروت قادمًا من باريس، وذلك قبل أن يتوجّه إلى تل أبيب، لمناقشة الرتوش الأخيرة بشأن مسودة اتفاق التهدئة الذي سلّمته السفيرة الأمريكية لدى لبنان، ليزا جونسون، قبل أيام لرئيس مجلس النواب اللبناني (البرلمان) نبيه بري (بصفته المفاوض باسم لبنان)، وهو المقترح الذي ردَّ عليه “حزب الله” قبل ساعات بحسب مصادر إعلامية.
ضربة استثنائية
تعدّ الضربة الأخيرة التي استهدفت تل أبيب الأكثر خطورة واستثنائية منذ بداية المواجهات بين الحزب وجيش الاحتلال في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك في ضوء عدد من المؤشرات:
من حيث الشكل: هذه أول مرة يتم استهداف تل أبيب بصاروخ باليستي دون أن يتم التصدي له عبر أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية بأشكالها المختلفة، مقلاع وسهم والقبة الحديدية، حتى منظومة “ثاد” الأمريكية فشلت هي الأخرى في إسقاط الصاروخ اللبناني.
من حيث التأثير: حجم الدمار الذي أحدثه في عدد من البنايات في حي بني براك شرق تل أبيب، حيث تدمير واجهات عشرات البنايات والمحال التجارية، فيما دمّر قرابة طابقَين في أحد العقارات، بجانب التحذير من احتمالية سقوط بنايات بأكملها جرّاء هذا القصف، هذا بخلاف إصابة 6 مستوطنين -بحسب الرواية الإسرائيلية- بعضهم إصابته من النوع الخطير.
وفي سياق التأثير، قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن القصف تسبّب في إخراج مطار بن غوريون بتل أبيب عن العمل مؤقتًا، كما توقفت حركة الهبوط والإقلاع خلال دوي صفارات الإنذار، واضطرت طائرات كانت تستعد للهبوط إلى الرجوع والتجول في الجو، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتوقف فيها المطار الرئيسي لدى الكيان المحتل عن العمل جراء الصليات الصاروخية القادمة من لبنان.
من حيث التداعيات: القصف أحدث حالة رعب وهلع واضحة لدى سكان تل أبيب ومحيطها، وهو ما وثّقته مقاطع الفيديو المصورة عقب سقوط الصاروخ، فيما هرول عشرات الآلاف إلى الملاجئ هربًا بحياتهم التي باتت مهددة على مدار الساعة، جراء الاستهداف المتكرر من قبل “حزب الله” وبقية جبهات الإسناد الأخرى.
من حيث التعاطي: حالة ارتباك واضحة أحدثتها الضربة، إعلاميًا ومحليًا، وتباين كبير في تفسير ما حدث، بيانات متناقضة لتفسير الصورة، حيث ذهب التفسير الأول إلى سقوط شظايا صاروخية جراء اعتراض الصاروخ اللبناني، فيما نفت الشرطة هذا الكلام لتؤكد أن هذا الدمار ناجم عن سقوط صاروخ بجسم كبير، وبين الادّعاء بمحدودية الأضرار والتحذير من تفاقهما يعيش الشارع الإسرائيلي حالة قلق ورعب شديدة.
من حيث التوقيت: تأتي العملية بعد ساعة واحدة فقط من قصف العاصمة اللبنانية بيروت، في رسالة مفادها أن الردّ على استهداف بيروت سيكون باستهداف تل أبيب، علاوة على استباقها زيارة الموفد الأمريكي القادم بأجندة صهيونية بحتة يحاول فرضها على الجانب اللبناني لإخضاعه عبر القوة الغاشمة وتكثيف القصف، من أجل إعلان الاستسلام والامتثال للشروط الإسرائيلية لإبرام اتفاق تهدئة.
ويحاول “حزب الله” منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية في الداخل اللبناني، وما سبقها من هزات عنيفة أفقدته توازنه، إثر استهداف قادته ورموزه السياسيين والعسكريين بعمليات اغتيال نوعية، أن يستعيد معادلة الردع مع الاحتلال مرة أخرى بعدما مالت كفتها بصورة ملحوظة ناحية “إسرائيل”، فحاول ترسيخ معادلات ردع تدريجية، بداية من جنوب لبنان-الجليل الأعلى مروًا بالضاحية-حيفا وصولًا إلى تل أبيب-بيروت.
ورغم نجاح الحزب في تذليل البون الكبير نسبيًا مع الاحتلال، وإحراز تقدم واضح في معدلات الاستهداف ومنسوب خطوط الاشتباك، والوصول إلى مستويات ما وصل إليها من قبل، والتعافي سريعًا من الضربات التي تعرّض لها مؤخرًا، إلا أنه من المبكّر والسابق لأوانه الحديث عن استعادة معادلة الردع مع “إسرائيل” إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، في ظل التفوق الكاسح لجيش الاحتلال عسكريًا، والدعم الذي لا يتوقف من أعتى جيوش العالم له في الوقت الذي تلتزم فيه طهران بمقارباتها المتحفظة.
حشد الأوراق على الطاولة
يحاول الحزب والجانب الإسرائيلي في آن واحد حشد كافة الأوراق قبل الجلوس على مائدة المفاوضات، إذ يتزامن هذا التصعيد مع جولة الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين، في العاصمة اللبنانية بيروت، للوقوف على آخر المستجدات بشأن الرد اللبناني على المسودة التي سلّمتها السفيرة الأمريكية لرئيس البرلمان اللبناني، قبيل التوجُّه إلى تل أبيب لمناقشة الرتوش الأخيرة.
حالة من الحذر تسود الأوساط الرسمية في الداخل اللبناني وخارجه، ترقُّبًا لردّ الحزب على المسودة الأمريكية، فيما ذكرت وسائل إعلام لبنانية أن الحزب قد سلّم بالفعل بري ردّه بشكل رسمي، مع تحفّظاته على بعض النقاط الواردة فيها، والتي اتّسم النقاش حولها بين الأطراف اللبنانية المعنية، الحزب ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، بالإيجابية والمرونة حسب التصريحات الرسمية.
وكانت صحيفة “الأخبار” المقرّبة من الحزب قد أشارت إلى بعض النقاط الخلافية التي تحفّظ عليها “حزب الله”، وعلى رأسها:
– الحاجة إلى تفاصيل عمل اللجنة المقترحة للإشراف على تنفيذ القرار 1701، فكما هو معروف هناك لجنة ثلاثية تضم لبنان و”إسرائيل” والأمم المتحدة، فماذا يعني ضمّ دول غربية إلى تلك اللجنة كما ذكر الاتفاق؟ ورغم عدم ممانعة لبنان انضمام أطراف جديدة إلى اللجنة، فإنه لا يرحب بأن تضم ممثلين عن أطراف مثل بريطانيا وألمانيا، على أن يقتصر الأمر على الولايات المتحدة وفرنسا.
– رفض منح جيش الاحتلال -وحده دون غيره- حرية الحركة والنشاط في الداخل اللبناني، والقيام بأي عمليات بزعم ممارسة حقه في الدفاع عن النفس، إذ إن هذا المبدأ مكفول للجميع في القانون الدولي ولا يحتاج لإدراجه ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، ما يثير القلق من التفسير المغالط لمثل هذا البند من الجانب الإسرائيلي، الذي من المتوقع أن يستغله لارتكاب المزيد من الانتهاكات، وهو ما يرفضه لبنان بصورة قاطعة.
ورغم الأجواء الإيجابية التي تخلّلها المشهد اليومين الماضيين، سواء من الجانب اللبناني أو الإسرائيلي، بشأن اقتراب إبرام اتفاق تهدئة لا سيما مع قيام الموفد الأمريكي بالزيارة المرتقبة للبنان رغم ما أُثير بشأن تأجيلها، إلا أن ما سرّبته السفارة الأمريكية في بيروت الساعات الأخيرة بشأن التشكيك في نتائج المفاوضات بسبب الملاحظات التي أوردها الجانب اللبناني ردًّا على المسودة، من شأنه أن يخفض من احتمالات التوصل لاتفاق ويبعث على عدم التفاؤل إزاء سير المفاوضات.
وكانت السفارة قد اعتبرت أن ملاحظات لبنان “حمّالة أوجه تحمل في ظاهرها إيجابية، لكنها تنسف الاتفاق ضمنيًا”، وأن “حزب الله يحاول من خلال هذه الملاحظات أن يعفي نفسه أمام اللبنانيين من مسؤولية إجهاض الفرصة الأكثر جدّية في بلوغ حلّ ورمي كرة إحباط هذا المسعى في ملعب إسرائيل، علمًا أنه لا يزال يحاول حماية نفسه من البنود الأكثر حساسية والتي تمنعه من الالتفاف على آلية تطبيق القرار 1701 بحذافيره”، وهي التسريبات التي فرضت أجواء سلبية إلى حدّ ما.
المفاوضات تحت النار
يتبنّى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو استراتيجية “التفاوض تحت النار”، في تعاطيه مع المقترح الأمريكي المقدم وانتظار رد “حزب الله” رسميًا، ففي كلمته أمام الكنيست (البرلمان) الاثنين 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أشار إلى أن “المفاوضات تتم الآن تحت النيران والقصف، ونطالب بإبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وردنا يجب أن يكون ردًّا وقائيًا، وهو منع إعادة بناء قدرات حزب الله ووقف تزويده بالسلاح عبر سوريا”.
وكان جيش الاحتلال قد ترجم تلك الاستراتيجية ميدانيًا حين اغتال مسؤول العلاقات الإعلامية في “حزب الله” محمد عفيف في قلب بيروت، في تحول لافت كونه الاستهداف الأول الذي خرج عن نطاق الشخصيات السياسية والعسكرية، بجانب تكثيف العمليات الصاروخية في العاصمة وأجوائها، ما أثار الذعر في نفوس اللبنانيين في محاولة لتأليب الشارع على الحزب وقادته.
وفي الوقت الذي يذهب فيه البعض إلى أن هذا التصعيد يعكس عدم رغبة نتنياهو في إتمام الاتفاق والتهرُّب منه، إلا أن موقع “أكسيوس” الأمريكي، والمقرّب من الاستخبارات الإسرائيلية، نقل عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن هذا التصعيد الكمي والكيفي ضد لبنان يهدف في المقام الأول للضغط على حزب الله للقبول باتفاق وقف إطلاق النار وفق الشروط الإسرائيلية.
ويرى البعض أن الموفد الأمريكي هوكشتين لا يمكن اعتباره وسيطًا نزيهًا في تلك المفاوضات، فهو ممثل للكيان الإسرائيلي قبل أن يكون ممثلًا لواشنطن، وعليه فإن أي اتفاق لا يلبّي طموحات تل أبيب بشأن تجريد الحزب من سلاحه وإبعاده عن الشريط الحدودي وتقليم أظافره، لا يمكن تمريره ولا الموافقة عليه بأي شكل من الأشكال، وأن ما يحدث لا يعدو كونه سيناريوهًا مكررًا لما تمّ في غزة، حيث لغة التسويف المعتادة لتمرير الأجندات والمخططات الاستيطانية التي تصرّ الحكومة اليمينة المتطرفة في “إسرائيل” على تنفيذها، معتبرة أن تلك الأجواء هي الوقت المناسب لذلك.
أحاديث عديدة تسرَّب من داخل الغرف المغلقة بشأن مساعي اليمين المتطرف في “إسرائيل” تفويت الفرصة على بايدن في تحقيق إنجاز دبلوماسي في الملف اللبناني الإسرائيلي، يحفظ له ماء وجهه قبيل مغادرة البيت الأبيض، واعتماد نتنياهو سياسة المماطلة التي يجيدها حتى تسلُّم ترامب السلطة رسميًا، وتقديم الاتفاق مع “حزب الله” هدية له في بداية ولايته الجديدة.
وفي المقابل، هناك من يرى أن بايدن سيحاول جاهدًا، إذا لم تنجح جولة هوكشتين، تفخيخ هذا الملف وإلقاءه ككُرة نار في وجه ترامب عقب تسلُّمه السلطة رسميًا، بما يصعّب من مهمة تحقيق انتصار سياسي سريع على مستوى السياسة الخارجية لإدارته.
وبين هذا وذاك، هناك من يرمي الكرة في ملعب طهران، التي تملك القول الفصل في هذا الملف، إما أن تواصل دعمها لـ”حزب الله” بما يبقي جهوزيته العسكرية واللوجستية قائمة في مواجهة جيش الاحتلال، الذي قد لا يتحمل كثيرًا تلك المواجهة إن امتدت لفترات طويلة، أو أن تجبره على الرضوخ لمقاربات نظام الملالي والقبول بالشروط الإسرائيلية، مكتفية بما تحقق حفاظًا على ما تبقى من مكاسبها المحققة خلال السنوات الأخيرة، معتبرة أن ما حدث معركة يجب أن تنتهي أيًّا كانت النتائج والتداعيات.
وفي الأخير بات واضحًا أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة وثنائياتها، المكاسب والخسائر، الانتصارات والهزائم، ضاربًا بكل المفاوضات والأحاديث الناعمة عرض الحائط، وعليه يبقى الميدان هو الساحة الوحيدة القادرة على رسم سيناريو ما هو قادم، ليس على مستوى الجبهة اللبنانية فقط، لكن على مستوى الحرب في غزة كذلك.