افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، موقع “جوبيكلي تبة” الأثري، الواقع على بعد 18 كيلومترًا من ولاية شانلي أورفة جنوب تركيا، الذي أُدرج العام الماضي في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وقال أردوغان في الافتتاح: “اكتشاف هذا الموقع يتطلب إعادة كتابة تاريخ البشرية، لأنه مرجع جديد يوضح عمق جذور حضارات الأناضول، إن الزمن يوضح لنا كيف أن الأراضي التي نعيش عليها، مهد لا مثيل له للحضارات والتاريخ والثقافة، بلادنا بمثابة متحف مفتوح”.
وكان الرئيس التركي قد أعلن العام الماضي أن 2019 هو “عام جوبيكلي تبة”، بهدف تعريف السائحين بهذا الموقع الأثري.
كيف تم العثور على “جوبيكلي تبة”؟
بدأ البحث في هذا الموقع منذ عام 1963، على يد باحثين من جامعتي إسطنبول وشيكاغو الأمريكية، لكنهم تعجلوا في الحكم على هذه المنطقة واعتبروها مقبرة مهجورة، نظرًا لوجود العديد من المقابر هناك، ولم يحدث الاكتشاف الحقيقي للموقع إلا بمحض الصدفة، بعد أن عثر أحد الفلاحين على بعض القطع الأثرية في أثناء عمله في أرضه، وسلمها إلى إدارة متحف شانلي أورفة.
عام 1994 اطلع عالم الآثار كلاوس شميدت، عضو معهد الآثار الألماني، على بعض التقارير الخاصة بهذه المنطقة، وقام بالمشاركة مع المسؤولين في متحف شانلي أورفة بإجراء عمليات الحفر والتنقيب من جديد، فتم اكتشاف أطلال معبد “جوبيكلي تبة” ومعابد أخرى صغيرة، بالإضافة إلى العديد من الآثار، بينهما مسلات حجرية على شكل حرف “T” يبلغ ارتفاع أطول هذه الأعمدة 16 قدمًا، ويتراوح وزنه بين 7 و10 أطنان، تعود إلى العصر الحجري الحديث.
يضم موقع “جوبيكلي تبة” الأثري أو ما صار يُعرف بـ”نقطة بداية التاريخ”، مجموعة من المباني الصخرية فوق أراضٍ جبلية، قيل إن تاريخها يعود إلى ما قبل 11 ألف عام، وهذا المعبد من أقدم المعابد في تاريخ البشرية، وقد وصلت عمليات التنقيب حتى الآن إلى أربعة معابد فقط، وبقي 16 معبدًا تحت التراب، وتزيّن جدران المعابد بصور حيوانات مثل الثعالب والخنزير البري والثعابين والطيور والغزلان والأسود والزواحف والثيران.
وعلق مدير متحف شانلي أورفة، وهو أحد المشرفين على عمليات التنقيب مع فريق كلاوس شميدت بأن المشهد الموجود على المسلة يمكن اعتباره أول رسم جداري في التاريخ الإنساني، لأنه يصور حدثًا معينًا: رأس إنسان وجناح نسر، وجسم إنسان مقطوع الرأس أسفل الجدار، كما أن هناك أرقامًا مختلفة الأشكال، وهذه الأرقام ليست عشوائية بالتأكيد، فقد تم العثور على مثل هذه التصاوير على جدران أخرى من قبل، تعود لستة آلاف سنة قبل الميلاد، في غرب تركيا.
جدير بالذكر أنه تم العثور أيضًا على أقدم سلالات القمح المزروعة في العالم، في منطقة قريبة من موقع “جوبيكلي تبة”، ويشير التأريخ بالكربون المشع إلى أن أولى الأنشطة الزراعية في تاريخ البشرية، كانت في هذه المنطقة.
أيهما سبق الآخر.. المعبد أم المدينة؟
وبغض النظر عن فكرة أقدميّة معبد “جوبيكلي تبة”، وسواء كان هو الأقدم في تاريخ البشرية أم لا، فإن اكتشاف هذا المعبد يعد بلا شك من أبرز الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث، حيث أكد كلاوس شميدت أنه يعود إلى مرحلة ما قبل الاستقرار الحضاري للإنسان، وطريقة بنائه، في ظل غياب جميع مقومات المجتمعات المستقرة، تطرح العديد من الأسئلة.
وعلى عكس النظرية الشائعة التي تربط استقرار الإنسان القديم بالزراعة، والتأكيد على أن الإنسان بعدما استقر وتوافرت لديه الموارد، بدأ يفكر في الأمور الروحية وبناء المعابد، يطرح شميدت نظرية مغايرة لذلك تمامًا، وتتلخص هذه النظرية في أن هذا المعبد كان أكبر مركز للعبادة في العالم القديم.
يقول شميدت: “هذا الاكتشاف الذي يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، له في الواقع نتائج فكرية وتاريخية هائلة، هذا يعني أن الرغبة الروحية في التواصل مع المُقدس، كانت الشعلة التي أدت إلى نشوء الحضارة”.
إذ يعتقد شميدت أن هؤلاء الناس كانت لديهم الرغبة الروحية للدرجة التي جعلتهم يجتمعون لبناء معبد، وليس بالإمكان بناء الآثار بواسطة مجموعات متفرقة من المجتمعات التي كانت تعيش على الصيد، ونحت وبناء ودفن حلقات من الحجر يبلغ وزنها 7 أطنان يحتاج إلى عدد كبير من العمال، وهو ما أظهر الحاجة إلى مجتمعات مستقرة في هذه المنطقة، ما أدى بعد ذلك إلى نشأة الزراعة والاستقرار، ومن ثم الحضارة، وهو ما يلخصه شميدت في قوله: “المعبد جاء أولاً، ثم جاءت المدينة”.