“لم نكن يومًا بحاجة للشعور بهذه الوحدة أكثر من هذا الوقت، لملموا شتاتكم من أجل مستقبل أبنائكم، وحتى تعود الحياة الكريمة لكم، توحدوا ليأمن المصريون على أنفسهم، توحدوا لنفتح أبواب السجون، ونخرج المعتقلين والمختفين فيها قسريًا، توحدوا لتستعيد مصر مكانتها التي تليق بها، توحدوا فعدوكم ما استباحكم إلا حين شقت صفوفكم” بهذه الكلمات دعا مرشح الرئاسة الأسبق وزعيم حزب غد الثورة أيمن نور، المصريين بأطيافهم كافة إلى التوحد في خندق واحد في مواجهة نظام الحكم في مصر.
نور في كلمة متلفزة له بمناسبة ذكرى مرور مئة عام على ثورة 1919، قال: “الوحدة لم تعد خيارًا، بل ضرورة واجبة على الجميع أن ينخرط فيها لمواجهة العدوان الذي مارسه النظام المصري، واستباحته كل شيء فيها”، مضيفًا “الاستقلال الثاني أصبح أمرًا واجبًا كي تستعيد مصر مكانتها، بعد أن خضعت لحكم استبدادي ارتهن القرار للعدو الإسرائيلي”.
تتزامن دعوة زعيم حزب غد الثورة مع بعض الدعوات الفردية الأخرى التي تهدف إلى كسر حاجز الخوف والتعبير عن رفض سياسات النظام الحاليّ عبر بعض الوسائل البسيطة كالتي أعلنها الإعلامي معتز مطر مؤخرًا وأثارت حالة من الجدل داخل الشارع المصري خاصة بعد التفاعل الذي شهدته.
ردود فعل متباينة رافقت دعوة المرشح الرئاسي الأسبق في وقت تعاني فيها أطياف المعارضة بشقيها – الداخلي والخارجي – من تشتت وتشرذم على كل المستويات، الأمر الذي دفع للتساؤل عن جدوى تلك الخطوة ومدى قدرتها على تحريك المياه الراكدة في محيط الحراك الثوري الخامل منذ سنوات.
الاستقلال الثاني
خاطب نور من وصفهم بالأحرار في كل العالم لرفض “التعديلات الدستورية الكارثية التي سيجريها السيسي على دستور نرفضه، لكننا نرفض أن يفرغه السيسي من آخر إنجازات واستحقاقات ثورتنا ونضالنا من أجل تحديد مدة الرئاسة دون تأبيد أو تخليد، وبحد أقصى ثماني سنوات”.
وربط المرشح الرئاسي الأسبق بين ثورة 1919 وثورة 25 يناير من حيث سلميتها والأهداف التي خرجت لأجلها، لافتًا أن “حالة الفُرقة والتشرذم، التي تحكم العلاقات البينية بين مكونات الجماعة الوطنية المصرية الآن ومنذ انقلاب 3 من يوليو/تموز 2013 لا تختلف عن واقع الحال الذي عاشته مصر قبل ثورة 1919، فقد شهدت مصر انقسامًا مجتمعيًا حادًا بلغ ذروته، بعقد المؤتمر القبطي الأول 1908، والمؤتمر القبطي الثاني 1911 الذي استهدف انفصال مصر وتقسيمها إلى دولتين إسلامية وقبطية”.
وتابع: “إذا كانت نتائج واستحقاقات ثورة 1919 تأخرت لسنوات، فأهم تجليات هذه الثورة تحققت فور قيامها باستعادة لُحمة الجماعة الوطنية، ولعل مشهد تعانق الهلال والصليب داخل الأزهر الشريف، هو المشهد الذي أسقط رهان الاستعمار والاستبداد على الفُرقة بين المصريين”.
لم تكن المعارضة في الخارج أفضل حالاً من نظيرتها في الداخل، فهي في تشتت وحيرة، تشتت مرجعه إلى حالة الاستقطاب السياسي الذي قسمها إلى شظايا متناثرة لا قوة ولا قيمة لها، أما الحيرة فتعود لعدم معرفتها بدورها المطلوب منها
وحاول عبر كلمته استلهام العبرة والعظة من تجارب التاريخ، كاشفًا أن تجربة ثورتي 19 و25 من يناير “أرست عددًا من المبادئ والدروس والقواعد المشتركة، التي يمكن البناء عليها في تأسيس شراكة وطنية واسعة بين أبناء هذا الوطن، شراكة بين مواطنين، وليس بين أحزاب أو تيارات، شراكة بين من هُم داخل الوطن أو خارجه، من رموز وشباب من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، دون إقصاء لأحد أو تفرقة على أُسس دينية أو ايديولوجية، أو مواقف سياسية”.
كما دعا إلى حوار في القريب العاجل بشأن تلك المظلة الجامعة لكل أطياف المعارضة في مصر، مشددًا على أن “وحدة الجماعة الوطنية المصرية ليست ترفًا ولم تعد اختيارًا للبعض له، أن يُقبل عليه، أو يُعرض عنه، يقبل به أو يرفضه”، مذكرًا أن “دعوتنا في ذكرى 100 سنة ثورة، دفاعًا عن الحرية والاستقلال والدستور لا يمكن أن تكون دعوة للتفرقة أو لتجزئة المجزأ، بل هي دعوة للوحدة في مواجهة العدوان المستمد من سُلطة عسكرية غاشمة مستبدة، وضعت الجميع في خندق واحد”.
وعن دوافعه لإطلاق هذه الدعوة، أشار زعيم حزب غد الثورة أنها تأتي “ليأمن العلماء والخطباء والأحرار والعمال والطلاب والنساء والشيوخ على حقهم في التعبير عن مواقفهم، توحدوا لتفتح السجون أبوابها للمعتقلين والمخفيين والمعذبين والمهددين بالإعدام خارج القانون، توحدوا لتُبنى المدارس ونغادر المتارس لتستعيد مصر صورتها، ونُزيل عُتمة الواقع والواقعين في مستنقعات ظلم الظالمين”.
واختتم كلمته قائلاً: “بغير الدستور، لن تقوم لمصر قائمة، ولن يتحقق لها وللإنسان المصري حقه في يومه وغده، وقدرته على اختيار من يحكمه بغير سلطان عليه، غير سلطان العقل والضمير الوطني”، وأنه “بعد 100 سنة من رفع شعار الاستقلال والدستور، نؤمن أكثر من أي وقت مضى أن هذا الشعب يستحق أن يعيش في أوطان حرة دستورية، لا تُلبد سماءها غيوم استبداد فرعون جديد، ولا تلوث طقوسها عبادة الفرد واحتكار السلطة، وفرض القيود على حرية الرأي والتعبير، ولا يسمم هواءها استفتاءات مزورة، لا تمثل الشعب بقدر ما تمثل به”.
دعوات لعودة الحراك الثوري للشارع مرة أخرى
أزمة المعارضة المصرية
تأتي دعوة نور في وقت تعاني فيه المعارضة المصرية من أزمات لم تشهدها على مدار تاريخها السياسي، إذ تعاني من تشتت وتشرذم بين مختلف أطيافها رغم النفق المظلم الذي أجهض المناخ السياسي برمته وسد كل النوافذ التي كان من الممكن أن تسرب بارقة أمل لمستقبل أفضل.
فالمعارضة المصرية، في الداخل كانت أو الخارج، دخلت غرفة الإنعاش منذ سنوات، وما تفعله اليوم لا يعدو كونه محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر تعرضها لصدمات كهربائية بين الحين والآخر، ففي الداخل باتت تكلفة المعارضة باهظة، فالموت أو الاعتقال هو الضريبة التي قد يدفعها كل من يحاول أو يغرد خارج السرب.
ولم تكن المعارضة في الخارج أفضل حالاً من نظيرتها في الداخل، فهي في تشتت وحيرة، تشتت مرجعه حالة الاستقطاب السياسي الذي قسمها إلى شظايا متناثرة لا قوة ولا قيمة لها، أما الحيرة فتعود لعدم معرفتها بدورها المطلوب منها، وهو ما جعلها تتخبط في كثير من ممارساتها، الأمر الذي أفقدها بريقها وقدرتها على التأثير.
وتنقسم المعارضة في مصر إلى كتلتين رئيسيتين، الأولى تضم القوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من تيارات الإسلام السياسي، أما الثانية فتضم القوى المدنية كحركة السادس من أبريل وحركة الاشتراكيين الثوريين وحزب الدستور والتيار الشعبي.
القارئ للمشهد السياسي المصري منذ 2014 وحتى اليوم يلاحظ أن النظام الحاليّ ورط نفسه في العديد من القضايا التي لو حسُن استغلالها لكانت ستشكل ضربات قاصمة له
حالة من الخلاف تسيطر على الكتلتين، سواء من داخلهما أم بينهما البعض، فالكتلة الأولى تعاني من انقلاب واضح في هيكلها جراء الهوة الكبيرة بين النخب والقادة من جانب والشباب من جانب آخر، فيما توجد اختلافات فكرية جوهرية بين القوى المدنية تحمل بين ثناياها معاول هدمها.
أما فيما يتعلق بالخلاف بين الكتلتين، فكلاهما يسير في خط عكس الآخر بصورة شبه كاملة، فالأولى تضع عودة الرئيس الأسبق محمد مرسي على رأس أولوياتها استنادًا إلى شرعية انتخابات 2012 فيما ترفضه الكتلة الثانية بزعم الاستناد إلى الجماهير التي خرجت في الـ30 من يوليو 2013.
الكتلتان تتبادلان الاتهامات وتحميل المسؤولية عن الإخفاق منذ 2013 وحتى اليوم، ولا ترغب أي منهما في التزحزح عن خطها الفكري قيد أنملة، وبعيدًا عن تفاصيل الاتهامات المتبادلة بين الطرفين إلا أن التهمة الأكبر التي سيطرت على خريطة الخلاف بينهما هي “خيانة الثورة”، وتلك هي الجدلية التي يدور الجميع حولها طيلة السنوات الستة الأخيرة التي ربما أفرغت الساحة تمامًا أمام النظام الحاليّ لتنفيذ سياساته دون أي عراقيل.
البرلمان المصري يوافق على التعديلات الدستورية
الفرص الضائعة
القارئ للمشهد السياسي المصري منذ 2014 وحتى اليوم يلاحظ أن النظام الحاليّ ورط نفسه في العديد من القضايا التي لو حسُن استغلالها لكانت ستشكل ضربات قاصمة له، على الأقل في ركيزته الشعبية التي طالما يعزف عليها بين الحين والآخر، لكن غياب دور المعارضة وانشغالها بأزماتها الداخلية وتبادل الاتهامات بينها وبين مختلف الأطياف في محاولة لتبرئة ساحاتها مما حدث أجهض الفرصة بصورة كاملة.
المعارضة بشقيها انشغلت طيلة السنوات الأخيرة بملف واحد على الأكثر، وهو الملف الحقوقي، حيث ركزت على القمع السياسي للمعارضين والإخفاء القسري والسجن والتعذيب وغيرها من تلك الموضوعات التي لا يشكك أحد في قيمتها وأهميتها، لكن المعركة السياسية مع أي نظام يجب أن تتسع لتشمل كل ساحات المواجهة وعلى مختلف الأصعدة وليس جانب واحد فقط.
رغم تلك الفرص التي فوتتها المعارضة فإن الأفق لم يُسد بعد بشكل نهائي، فهناك معركة التعديلات الدستورية القادمة
غلاء الأسعار وما نجم عنه من زيادة معدلات التضخم ومعها البطالة، والقروض المليارية التي أوصلت الديون إلى معدلات ما وصلتها منذ عشرات العقود، فضلاً عن أزمة التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير، واستنزاف موارد الدولة في مشروع قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية وبناء أكبر مسجد وكنيسة وصفقات التسليح وغيرها، كلها فرص تخلت المعارضة عنها رغم ما كان يمكن أن تؤتيه من ثمار حال استغلالها بالشكل الملائم.
ورغم تلك الفرص التي فوتتها المعارضة فإن الأفق لم يُسد بعد بشكل نهائي، فهناك معركة التعديلات الدستورية القادمة، تلك المعركة التي تمثل الجولة الأهم حاليًّا لتعويض ما فات على مدار سنوات طويلة مضت، لكن الأمر يتطلب حراك سياسي منظم على أرضية مشتركة تجميع مختلف الأطياف.
دعوة ربما وإن لم تكن الأولى من نوعها إلا أنها ألقت بحجر في مياه الحراك الثوري الراكد رغم ما قوبلت به من هجوم شديد حتى من بين بعض المحسوبين على التيار المعارض ذاته، وتبقى استجابة أطياف المعارضة بشتى خطوطها الفكرية هي المحك الرئيسي لتقييم تلك الدعوة، فإما أن تصلح أن تكون نطفة لحراك من نوع جديد أو رقمًا في قائمة المبادرات السابقة التي طواها النسيان سريعًا.