مع كل مد وجزر تلامس الأمواج قوارب الصيادين، ليبدأوا في كل صباح رحلة البحث عن رزقهم المخبأ في أعماق مياه البحر الأحمر، لم تبعدهم مخاطر القرصنة واستغلال الشركات الأجنبية عن مزاولة المهنة، لكن الفساد والسياسة صنعا مصيرًا مختلفًا، جعل حياة الصيادين محفوفة بمخاطر البر والبحر.
هكذا كانت سيرة سكان الساحل الغربي في اليمن عبر مئات السنين، كانوا خلالها يطلبون رزقهم على سواحل بحارهم الممتدة على 2500 كيلومتر، لكن السنوات الأخيرة لم تكن تحمل الخير لهؤلاء، فمنذ انقلاب الحوثيين وصالح عام 2014، ومع انطلاق عمليات عاصفة الحزم في مارس/آذار عام 2015، ألقت الحرب المطبقة بظلالها على مدينتي المخا وذباب اليمنيتين، اللتين يعيش أغلب سكانهما على الصيد، فتراجع عدد المستفيدين وانخفض مستوى معيشتهم إلى ما دون خط الفقر.
صيادو اليمن في شباك التحالف
بالأرقام ووفق خبراء اقتصاديين فإن اليمن “الفقير” في حقيقته سيكون من أقوى اقتصادات العالم، فثمة ثروات هائلة في جوفه وعلى سطحه، جعلت منه أكبر خزّان للنفط في جزيرة العرب، وموقع جغرافي إستراتيجي يربط أهم شرايين الحياة البحرية إقليميًا ودوليًا.
وضعت الإمارات عينها على سواحل وموانئ اليمن التي يصطاد فيها هؤلاء السكان، فمنعتهم من ممارسة صيدهم وأطلقت أيدي جنودها بحقهم قمعًا واختطافًا وتفتيشًا لقواربهم وقصفًا لها
ميناء عدن، عصب التجارة العالمية وأهم ميناء إستراتيجي في العالم، وميناء الحديدة، ثاني أهم ميناء في بحر العرب، وامتداد ساحلي يجعل من هذه الموانئ – إن طُوِّرت – أكبر محطات ترانزيت عالمية تنافس دول شرق آسيا وشبه القارة الهندية، أضف إلى كل هذا مضيق باب المندب، وما يمثله من إمكانية جني مئات المليارات من الدولارات.
يقع اليمن على مساحة 2500 كيلومتر من السواحل البحرية، ويمتلك 130 جزيرة بحرية، وتذخر مياهه بأنواع لا حصر لها من الأسماك والأحياء البحرية ذات القيمة الغذائية والجدوى المالية العالية، لكن الإمارات تحد من إبحار الصيادين اليمنيين في مياههم، بل وتكاد تمنعهم، متذرعة بأسباب أمنية، غير أنها أتاحتها لسفن صيد كبرى، تنقل ثروات السمك اليمنية إلى الإمارات، فمن يجرؤ على الاعتراض هُجِّر أو اُعتقل وعُذِّب.
ووفقًا لبيانات مكتب الثروة السمكية في تعز، فإن نحو 50 ألف من سكان المخا وذباب يمتهنون الصيد البحري، وهو رقم يتجاوز نصف عدد سكان المديريتين، في حين يمثل الصيادون أكثر من 40% من السكان في مناطق الساحل اليمني، حيث يمتلك ما بين 80 إلى 90 ألف يمني قوارب صيد، يعتاش منها مئات الآلاف من السكان الذين يمتدون من مديرية ذباب جنوبًا إلى سواحل مديرية اللُحية شمالاً.
ووفقًا لإحصاءات عام 2013، كان اليمن ينتج ما يقارب 300 ألف طن من الأسماك التي تُسوَّق بما لا يقل عن 320 مليون دوولار، لكن هذه الإحصاءات تدنت إلى ما دون 20%، لذلك تُقَّدر نسبة من فقدوا أعمالهم في الصيد بـ85% في مناطق الساحل، وفي الجنوب تتراوح النسبة بين 55-65%، هذا إضافة إلى خسائر العاملين في القطاع من غير الصيادين، ما يعرض عشرات آلاف العائلات لخطر الجوع.
إلى جانب منعهم من الصيد يشتكي صيادو المخا وذباب من تجريف السفن الإماراتية والسعودية العشوائي للبيئة البحرية اليمنية النادرة والشُّعب المرجانية في مناطق صيدهم
وبعد أن كان حالهم لا بأس به قبل الحرب، تحول آلاف الصيادين اليمنيين إلى عاطلين عن العمل، وانخفض المستوى المعيشي لسكان الساحل الغربي إلى ما دون خط الفقر، وباتوا ينتظرون أيامًا محدودة تسمح لهم فيها القوات الإماراتية بالنزول إلى الصيد، متذرعةً بضوابط أمنية وإجراءات احترازية، وفي حين توجد الأسماك في أعماق البحار، هناك بعض المناطق التي لا يُسمح للصيادين بالوصول إليها، بسبب سيطرة القوات الإماراتية والسعودية عليها.
ويرجع السبب الرئيسي وراء محاربة الإمارات الصيادين اليمنيين في مصدر عيشهم إلى أنها وضعت عينها على سواحل وموانئ اليمن التي يصطاد فيها هؤلاء السكان، فمنعتهم من ممارسة صيدهم وأطلقت أيدي جنودها بحقهم قمعًا واختطافًا وتفتيشًا لقواربهم وقصفًا لها، مما أدى إلى مقتل وإصابة وفقد الكثير منهم في موانئ المخا وذباب والخوخة وغيرها.
سرقة الثروة السمكية.. “حلال عليكم حرام علينا”
عندما تجوب شوارع المخا وذباب لن تستغرب قصصًا تنقلها وسائل الإعلام لصيادين قذفت بهم أمواج الحرب إلى نازحين غير مرغوب بعودتهم أو مختطفين في شبكة سجون سرية تديرها أبو ظبي جنوبي اليمن أو قتلى قضوا في عرض البحر بنيران البوارج والطائرات، بدعوى استخدام الحوثيين قوارب الصيد في استهداف البوارج الإماراتية.
ويرى معظم الصيادين في الساحل الغربي لليمن أن سبب مأساتهم يعود للانتشار العسكري الإماراتي في البحر الأحمر وباب المندب، حيث تبدو القواعد العسكرية الإماراتية المنتشرة في المدن اليمنية ملاصقة لأماكن الصيد.
اتهمت الحملة الدولية لمقاطعة الإمارات (ICBU) السلطات الإماراتية ومليشياتها العاملة في اليمن بسرقة ونهب الثروة السمكية اليمنية ونقلها إلى الإمارات من خلال سفن الصيد الكبيرة ووسائل النقل العسكرية
فإلى جانب قاعدتين عسكريتين إماراتيين في ميناء عصب الإريتري، وميناء بربرة على أرض الصومال، أنشأت الإمارات قاعدة عسكرية في جزيرة ميون الإستراتيجية المشرفة على الممر المائي في مضيق باب المندب، أهم الممرات التجارية في العالم، دون موافقة الحكومة اليمنية الشرعية، وهجَّرت سكان المدينة الذين يبلغ عددهم نحو 10 آلاف بشكل كامل.
الحال نفسه طال الكثير من صيادي المخا وذباب بعد أن أنشات الإمارات قواعد عسكرية أخرى، جعلت منهم نازحين في أماكن بعيدة، فمع تصاعد النزاع في محافظة الحُديدة الواقعة على ساحل البحر نزحت أعداد هائلة من السكان، بعدما منعت الحرب التي تدخل عامها الرابع 60% من الصيادين من مزاولة مهنتهم، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الرسمية اليمنية (سبأ)، عن وزير الثروة السمكية فهد كفاين.
ما يحدث على سطح البحر في الساحل الغربي لليمن ليس منفصلاً عما يحدث في أعماق البحر، فإلى جانب منعهم من الصيد يشتكي صيادو المخا وذباب من تجريف السفن الإماراتية والسعودية العشوائي للبيئة البحرية اليمنية النادرة والشُّعب المرجانية في مناطق صيدهم، والاستيلاء على الثروة السمكية هناك، ما يتسبب في هجرة والقضاء على أجيال من المخلوقات البحرية إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر، وهو ما أشارت إليه حملات دولية دعت إلى مقاطعة الإمارات.
اتهمت الحملة الدولية لمقاطعة الإمارات دولة الإمارات بسرقة ونهب الثروة السمكية اليمنية
ففي أكتوبر الماضي، اتهمت الحملة الدولية لمقاطعة الإمارات (ICBU) السلطات الإماراتية ومليشياتها العاملة في اليمن بسرقة ونهب الثروة السمكية اليمنية ونقلها إلى الإمارات من خلال سفن الصيد الكبيرة وووسائل النقل العسكرية، وبحسب البيان الذي نشرته الحملة، اتهم الصيادون في المخا دولة الإمارات بمنعهم من الصيد في المياه الإقليمية للساحل الغربي دون مبرر، في حين سمحت لسفن الصيد الحديثة بالصيد هناك.
وأكدت الحملة الدولية أن هناك سفينة صيد تصل إلى الإمارات يوميًا من شواطئ اليمن محملة بجميع أنواع الأسماك لبيعها لصالح القادة العسكريين الإماراتيين، كما سبق أن سرقت القوات الإماراتية في وقت سابق الآثار اليمنية النادرة والأشجار والطيور وتم نقلها إلى البلد الخليجي، الذي لم يقم بارتكاب جرائم حرب في اليمن وقتل الأطفال والنساء والكبار فحسب، بل ذهب إلى سرقة مصائد الأسماك والنباتات والحيوانات اليمنية التاريخية.
ما قبل العاصفة ليس كما بعدها
مع بدء عاصفة الحزم في 6 من مارس/آذار عام 2015، وضعت الإمارات عينها على السواحل اليمينة والممر المائي المهم في البحر الأحمر، وفي تجاهل دراسة المخاطر من السياسة الخارجية الخشنة التي تقودها في القارتين الآسيوية والإفريقية، أخذت تُنشئ قواعد عسكرية في المدن والجزر اليمنية، وتنشر بوارجها الحربية على امتداد السواحل التي يصطاد فيها هؤلاء السكان.
انعكس الانتشار العسكري الإماراتي في البحر الحمر وتوزيع قواعدها العسكرية في جزيرة ميون وفي مديريات المخا والخوخة وذباب بشكل مباشر على الصيادين من خلال أساليب لم يعتدوها
هذه القوات الموجودة من الفرقاطات والسفن البحرية والزوارق لديها أهداف متعددة جاءت لتحقيقها، لم يكن من بينها – كما تقول دول التحالف – ما يُسمى بإعادة الشرعية، وإنما لأهداف إستراتيجية ترتبط بالسيطرة على الموانئ اليمنية في منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الجيوإستراتيجية، ومن شأن حرب الموانئ في هذه المنطقة أن تؤثر على التجارة والملاحة الإماراتية.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت هناك فرص واعدة للاستثمار الاقتصادي والسياحي لو لم يحصل التدخل العسكري الإماراتي، وكانت أبو ظبي – أيام مؤتمر الحوار الوطني بعد قيام الثورة اليمنية – تريد استئجار الموانئ لفترات طويلة كي لا يتم تفعيل دور هذه الموانئ، ولتحقق هدفها بإفقار الشعب اليمنى، وبالتالي تتم لها السيطرة على قراره عبر التحكم فيه اقتصاديًا.
هناك أيضًا أجندة خاصة للإمارات في اليمن لأنها تريد تعطيل موانئ المنطقة حتى يتواصل عمل مينائها في جبل علي، وربما تتقاطع في هذه الأجندة مع مصلحة أمريكا ومصر والسعودية لأن سيطرة الإمارات على البحر الأحمر هدف مطلوب لهذه الدول في إطار صراع الموانئ (للإمارات عدة قواعد باليمن وقاعدتان في إريتريا وواحدة بالصومال)، لكونه لم تعد فيه موانئ خارجة عن سيطرة هذه الدول سوى الموانئ السودانية.
أما الهدف السياسي فيتمثل في ممارسة الإمارات نفوذ إقليمي، في محاولة للظهور في رداء الدولة الخارقة أو “أسبرطة الصغيرة” كما أطلق عليها الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزير دفاع الرئيس الأمريكي السابق، ومع هذا الظهور تحولت الإمارات من عالم مسالم للأعمال التجارية إلى مشروع احتلال عسكري يبسط نفوذه خارج الحدود، ويعكس الدور الحقيقي الذي يلعبه حاليًّا ابن زايد في المنطقة والأوراق الخفية التي تكشف براغماتية دولة تلعب مع “الأسماك الكبيرة”.
وانعكس الانتشار العسكري الإماراتي في البحر الحمر وتوزيع قواعدها العسكرية في جزيرة ميون ومديريات المخا والخوخة وذباب بشكل مباشر على الصيادين من خلال أساليب لم يعتدوها، فكان القمع والمنع والنزوح القسري حائط الصد بينهم وبين البحر.
من ناحية أخرى، يعاني الصيادون في اليمن الأمرّين، بعد قيام مليشيا الحوثي – صالح بزرع حقول ألغام بحرية أو برية كثيفة في طرق الصيادين والمزارعين، الأمر الذي أدَّى إلى توقف نحو 30 ألف صياد عن عملهم، بعد أن قتلت الألغام البحرية التي زرعت على سواحل ميدي والجزر المتناثرة والقريبة منها، إضافة إلى سواحل اللحية والنخيلة والتحيتا والخوخة والمخا، عشرات الصيادين.
في الانتظار على قواربهم يقضي صيادو المخا وذباب أوقاتهم، يحيكون خيوط الأمل لشبكات صيدهم، ويمنون النفس بقادم أفضل، بعد أن أصبح الخروج إلى البحر نوعًا من الرهان، فهل ستحمل لهم الرياح القادمة من البحر ما يأملونه في بلد طُمست فيه ملامح سعادة كان يُعرف بها؟