سارع راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية بتأكيد حاجة بلاده لمشروع مارشال لتعزيز الديمقراطية ومحاربة الإرهاب بعد مشاركته في فعاليات الدورة 48 للمنتدى الاقتصادي دافوس في يناير الماضي كأهم التظاهرات الاقتصادية العالمية التي تعقد بشكل سنوي لمناقشة أوضاع العالم في العام السابق، وخلال فحص العديد من التصريحات في دول عربية توجّب إعادة إعمارها أو منحها خط المرور الدولي نحو الديمقراطية بالمساعدات، نرى تصريحات عديدة صدرت من أطراف مختلفة في تلك الدول تعبّر عن حاجتها لمشروع مارشال جديد ينقذها من حالة الفوضى السياسية نتيجة تداخلها بالأزمات الاقتصادية للبلاد.
تجيب هذه المادة عن تساؤلات مهمة: لماذا لا تستجب أمريكا لمشاريع مارشال في المنطقة العربية؟ وهل كانت المبادئ الأمريكية ترتكز على إسقاط أسس ومرتكزات الدول العربية – محل الدراسة – إضافة إلى إسقاط النظام السياسي؟ وفرضية المادة أن أفضل وضع للمصلحة الأمريكية أن تبقى هذه الدول غير مستقرة تمامًا حتى من الناحية الاقتصادية فهي لا تحتاج سوى مواردها ولا حاجة للـ”ليبرالية النظام” أو “ديمقراطية الدولة” من عدمه، مع اختلاف الرؤية بين أمريكا والاتحاد الأوروبي خصوصًا في ظل بروز أزمة الهجرة والإرهاب العابر على للحدود.
عام 1973 كانت أمريكا تستورد قرابة 3.2 مليون برميل نفط يوميًا، لكن في عام 2004 أصبحت تستورد 75% من احتياطها النفطية بحجم 9.5 مليون برميل يوميًا، وهو ما يظهر حاجتها للسيطرة على منابع النفط خصوصًا في دول الخليج العرب
أمريكا التي سارعت لإمرار مشروع مارشال كأكبر مشروع مساعدات في التاريخ عام 1948 حيث بلغ قرابة13 مليار دولار بقيمة الدولار وقتها في حين بلغت مجموع المساعدات الخارجية الأمريكية قبل عام1940 ما قيمته 500 مليون دولار، وقدمته للدول الأوروبية المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية وقد ساهم المشروع في ارتفاع الناتج الوطني الإجمالي للدول الأوروبية، وهدف المشروع لبناء تحالفات قوية لأمريكا وفق المؤسسات الرأسمالية الديمقراطية، وفتح أسواق للصادرات الأمريكية في أوروبا، واستعادت الدول الأوربية التي استفادت من المشروع عافيتها الاقتصادية بعد أربع سنوات من انطلاق المشروع، لكن لماذا لا تقدم الدول الغربية برئاسة أمريكيا إعادة مشروع مارشال من جديد للدول العربية لإحلال الديمقراطية التي تريدها؟
في العراق..19 عامًا من الحرب ومارشال لم يحضر
يعتبر العراق من أكبر احتياطات النفط العالمية، فوفق أوبك 2017 هو الاحتياطي الرابع عالميًا بعد فنزويلا والسعودية وإيران، وكانت الحرب الأمريكية بدعاوى مختلفة كشف زيفها فيما بعد، لكن الوعود الأمريكية البريطانية بتحويل العراق لدولة ديمقراطية وفق الأسس الرأسمالية وإحلال الديمقراطية لم تتحقق، ويمكن تأكيد الرغبة الأمريكية في السيطرة على نفط العراق أولًا بعيدًا عن دواعي الحرب والسلام، ففعام1973 كانت أمريكا تستورد قرابة 3.2 مليون برميل نفط يوميًا، لكن في عام2004 أصبحت تستورد 75% من احتياطها النفطية بحجم 9.5 مليون برميل يوميًا، وهو ما يظهر حاجتها للسيطرة على منابع النفط خصوصًا في دول الخليج العربي، وهنا ممكن الرجوع لكتاب “المرتزقة جيوش الظل” الذي كشف سيطرة قيادات وجنرالات في الجيش الأمريكي على أهم شركات النفط العراقية.
بالنظر لمشروع بوش لإعادة إعمار العراق، فإن ما دفعته الولايات المتحدة الأمريكية بلغ 18.6 مليار دولار من أصل 33 مليار دولار للدول المانحة للعراق قروضًا ومنحًا، تم الاتفاق عليها في مؤتمر مدريد المنعقد في أكتوبر 2003 بحضور 25 دولة وتم تجميع المال من مصادر مختلفة منها الأمم المتحدة والبنك الدولي، ولم تف الدول المانحة إلا بنسبة10% من قيمة تعهداتها، وفشل المشروع لأسباب مختلفة أولها عدم جدية أمريكا باستقرار العراق وحاجتها للبقاء وفق حاجتها للنفط، رغم أن حاجتها لمارشال أوروبا منع تمدد الاتحاد السوفيتي في أوروبا، لكنها لم تستطع إيقاف التمدد الإيراني الذي بدا يتعامل ندًا بند في العراق، إضافة لأسباب مهمة وهي سقوط مؤسسات الدولة وانتشار الفساد وعدم كفاية التمويل واستمراره وضعف التنسيق بين الوكالات الدولية والمجتمعات المحلية.
لم تتوقف وسائل الإعلام الغربية وتصريحات الغرب عن تونس بعد الثورة مباشرة ودعوات لاحترام حقوق الإنسان وإحلال الديمقراطية، وصاحبت تلك التصريحات دعوات تونسية داخلية لتقديم الدعم المالي لحماية المشروع الديمقراطي الوليد بعد استقرار البلاد
وجاء في فبراير لعام 2018 مؤتمر الكويت لإعادة إعمار العراق بتعهدات وصلت إلى نحو30 مليار دولار، وبمشاركة76 دولة ومنظمة دولية و51 من الصناديق التنموية والمؤسسات المالية إضافة إلى 107 منظمات محلية وإقليمية ودولية ومنظمات غير حكومية مع 1850 جهة مختصة من ممثلي القطاع الخاص، وقد علق وزير الخارجية العراقي وقتها إبراهيم الجعفري قائلاً: “كنا نأمل بمبلغ أكبر”، ويشار هنا إلى أن غالبية التعهدات على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات، تبقى مرهونة باستقرار الوضع السياسي وفي إطار التعهدات، إذ إن الدول لا تلتزم عادة بثلث ما تعلنه من تعهدات، وهو ما يعني أن التعهدات ستبقى في إطار الورق.
حاجة أمريكا لاستقرار العراق
يكشف كتاب “نفظ الدم: الطغاة والعنف والقواعد التي تحكم العالم” عن تعامل أمريكا مع داعش في العراق وشرق سوريا لتصدير النفط، وهي في نفس الوقت تعلن الحرب على داعش، كضامن لبقائها وإدارة حروبها بالوكالة هناك، فمع كشف زيف الحرب الأمريكية البريطانية تحت حجة الأسلحة النووية التي لم تظهر، وبعد حصار طويل قتل أكثر من مليوني عراقي بطريقة غير مباشرة نتيجة نقص الأدوية، وفق كتاب “لماذا يكذب القادة.. حقيقة الكذب في الساحة الدولية”، تبقى استجابة أمريكا لمشاريع مارشال في العراق أمرًا مستحيلًا، إذ إنها منذ البداية دمرت كل أركان الدولة وأجهزتها، وأدخلت أطرافًا أخرى في المعادلة العراقية خصوصًا إيران، لذلك فإن من مصلحة أمريكا حالة اللااستقرار في العراق لضمان قدرة الدولة على التحكم بأسعار النفط، مع تزايد حاجتها للمال وسداد الموازنة.
تونس.. ديمقراطية وليدة تحاصرها الظروف الاقتصادية ويهددها الإفلاس
لم تتوقف وسائل الإعلام الغربية وتصريحات الغرب عن تونس بعد الثورة مباشرة ودعوات لاحترام حقوق الإنسان وإحلال الديمقراطية، وصاحبت تلك التصريحات دعوات تونسية داخلية لتقديم الدعم المالي لحماية المشروع الديمقراطي الوليد بعد استقرار البلاد والمطالبة بما يشبه مشروع مارشال لدعم السياق الديمقراطي، لكن مقصلة صندوق النقد الدولي كانت حاضرة.
وإن كان قرار رسملة البنوك شرط أساسي من المؤسسة الدولية المقرضة، لضخ مزيد من القروض الخارجية في الاقتصاد التونسي، سيتبعه شروط أكثر صرامة فيما يتعلق برفع الدعم وتجميد الأجور وحوكمة المؤسسات العمومية وترفيع سن التقاعد
في مايو 2014 أي بعد ثلاثة أعوام على انطلاق الثورة التونسية، وفي خضم أوضاع سياسية صعبة تمر بها البلاد ضمن مرحلة انتقالية، تحتاج فيها إلى إعادة الإعمار السياسي للإرث السابق لزين العابدين بن علي، أعلن صندوق النقد الدولي إيقاف جميع مساعداته المالية لتونس من القرض الائتماني، حتى تستكمل الدولة جميع الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية المتفق عليها خلال سبعة شهور وتتمحور حول تحسين موارد الدولة وإصلاح القطاع البنكي وتحسين مناخ العمل، وسيكون تحسين الموارد على حساب البُعد الاجتماعي والطبقات الفقيرة والمهمشة، وسيؤدي إلى تسريح قرابة 25 ألف موظف من القطاع الحكومي في ظل تقارير تشير إلى قرابة 60 ألف، يذكر أن غالبية المساعدات المقدمة من صندوق النقد الدولي على شكل قروض وليس منح وهبات.
وإن كان قرار رسملة البنوك شرط أساسي من المؤسسة الدولية المقرضة، لضخ مزيد من القروض الخارجية في الاقتصاد التونسي، سيتبعه شروط أكثر صرامة فيما يتعلق برفع الدعم وتجميد الأجور وحوكمة المؤسسات العمومية وترفيع سن التقاعد، وبعد تمرير قرار الرسلمة البنكية من الحكومة عبر التصويت الشكلي عليه في مجلس الشعب التونسي في 30 من أغسطس 2015، أعلن صندوق النقد الدولي تسريح قرض بقيمة 200 مليون يورو ما يؤكد العلاقة الشرطية بين الرسلمة البنكية وتسريح مزيد من القروض الخارجية لإنقاذ الاقتصاد التونسي.
تصدير الأزمات
إن أفضل وضع يريده الغرب وأمريكا خصوصًا من الشرق الأوسط الغارق بالأزمات بقاؤه ضمن حالة اللااستقرار لضمان حاجته الدائمة إلى المال لسداد العجز المتواصل ومجاراة الأزمات الحاصلة أمنية كانت أو اقتصادية، وهو ما يفرض على تلك المنطقة المليئة بالثروات الاستجابة أكثر لتقديم الموارد الخام بدل إعادة التصنيع والتصدير، ما يعني بالضرورة أن الغرب لا يريد للمشرق أن يتحول لاقتصاد عابر وفق أسس التصنيع والتصدير بقدر حاجته الدائمة لبقائه في محور الأزمات وتعزيز التبعية لسوق التصدير الغربية، ولو كانت حاجة أمريكا للديمقراطية والاستقرار وفق أولوياتها لسعت منذ إسقاطها لأنظمة في المشرق لإعادة إعمار مؤسسات الدولة منذ البداية.
في الوقت الذي كان فيه مشروع مارشال أوروبا يرتكز في البداية على المساعدات التي غالبيتها على شكل هبات تضمن بقاء الدول الأوروبية في المحور الأمريكي وتوسع أسواق الصادرات، كانت المساعدات المقطّرة من الغرب للدول العربية غالبيتها على شكل قروض
تبقى معادلة مهمة أن تعامل الاتحاد الأوروبي مع الأزمات في الشرق خصوصًا في تونس وسوريا يختلف في سياق تصدير تلك الأزمات، فقد طالت أوروبا مباشرة تداعيات تلك الأزمات مما دفعها لتقديم المساعدات التي على شكل هبات وليس قروض لعدم تفاقم الأزمة خصوصًا المهاجرين في تركيا والمغرب، يعني أن المعادلة الأوروبية في التعامل مع بعض دول المشرق تختلف في سياقاتها عن تلك الأمريكية وفق حجم الأزمة وتأثر الساحة الأوروبية بها، وقد كان الغنوشي واضحًا حين طلب المساعدات للقضاء على الإرهاب.
وفي الوقت الذي كان فيه مشروع مارشال أوروبا يرتكز في البداية على المساعدات التي غالبيتها على شكل هبات تضمن بقاء الدول الأوروبية في المحور الأمريكي وتوسع أسواق الصادرات، كانت المساعدات المقطّرة من الغرب للدول العربية غالبيتها على شكل قروض، مع إبقاء سيادة الدولة مفقودة لمنعها من صناعة القرار الخاص بمواردها الطبيعية مما يؤثر على أسعار الخام العالمي، خصوصًا قطاعي النفط والغاز الطبيعي.